جيش الاحتلال يتكبد خسائر فادحة في حي الزيتون ومخيم جباليا، بعد أكثر من 7 أشهر من الحرب على غزة، فكيف تدفع عودة الأمور إلى المربع صفر إسرائيل إلى حافة الهاوية؟
الإجابة عن هذا السؤال، في صورة تحليل شامل لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، تلقي الضوء على "الصورة القاتمة" التي تواجهها دولة الاحتلال داخلياً وإقليمياً وخارجياً، وإليكم تفاصيلها من وجهة النظر العبرية.
في غزة، ما أشبه اليوم بالبارحة!
ينطلق تحليل الصحيفة العبرية من الموقف الداخلي في إسرائيل قبل نحو 20 عاماً، عندما كان قطاع غزة لا يزال يشهد مقاومة عنيفة ومكلفة للغاية لجيش الاحتلال. على إثر تلك "التكلفة البشرية"، اتخذ رئيس وزراء إسرائيل وقتها، إرييل شارون، قراراً بالانسحاب من القطاع بشكل نهائي.
كان الرأي العام الإسرائيلي وقتها منقسماً بين مؤيد لقرار الانسحاب ورافض له. لكن الأنباء الواردة من غزة كان لها تأثير مباشر على ميل الكفة نحو المؤيدين للانسحاب من القطاع وبسرعة.
ففي عملية في حي الزيتون، قتل 6 من أفراد لواء غيفاتي بلغم انفجر في عربتهم المدرعة. وبعد يوم واحد، قتل 5 جنود من "كتيبة الأنفاق" التي تم تشكيلها ضمن فرقة غزة، وذلك في انفجار مشابه في ممر فيلادلفيا مقابل رفح في الجنوب.
ثم قتل جنديان آخران من لواء غيفاتي، في نفس الأسبوع، عندما كانت دورية من اللواء تقوم بحماية عمليات البحث عن جثث القتلى في ممر فيلادلفيا.
وقعت هذه الخسائر، وغيرها كثير، في شهر مايو/أيار عام 2004، أي قبل 20 عاماً بالضبط. وفي العام التالي أجبرت إسرائيل على الانسحاب بشكل كامل من قطاع غزة.
ما أشبه اليوم بالبارحة، يقول تحليل الصحيفة العبرية في مقارنة مع ما يشهده القطاع اليوم (13 مايو/أيار 2024)، رغم مرور ما يقرب من 8 أشهر على اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، وعلى الرغم من الإعلانات المتتالية من جانب حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن حسم الجيش للأمور في شمال القطاع ووسطه والاستعداد لاجتياح رفح في الجنوب لإنهاء الحرب بشكل كامل.
العودة إلى "المربع صفر" في غزة
تواصل إسرائيل دفع ثمن باهظ في الأرواح بسبب استمرارها في "الحرب على حماس"، وهذا هو التوصيف الذي تسعى دولة الاحتلال لتسويقه في الداخل والخارج، على الرغم من التدمير الكامل للبنية التحتية وارتقاء عشرات الآلاف من المدنيين، وبخاصة النساء والأطفال، الفلسطينيين في قطاع غزة.
وعلى الحدود الشمالية مع لبنان، حيث الوضع شبه مستقر وسط قواعد اشتباك محددة مع حزب الله اللبناني، إلا أنه من وقت لآخر يسقط "ضحايا" إسرائيليين، بحسب توصيف "هآرتس". ففي الأسبوع الماضي، قتل 3 جنود من الجيش واشتعلت نيران ضخمة في كريات شمونة (أكبر المستوطنات الإسرائيلية) بسبب سقوط صاروخ ضخم أطلقه حزب الله.
هذه الصورة هي التوصيف للحرب التدميرية التي تخوضها إسرائيل حالياً، وهي الحرب الأطول على الإطلاق في تاريخ الدولة العبرية، "دون أن تكون هناك أي بوادر على قرب انتهاء هذه الحرب".
وفي هذا الإطار، ليس من الضروري أبداً "ذكر وعود رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالانتصار التام. فالموقف الحقيقي واضح لأي شخص عاقل"، تقول "هآرتس".
الإشارة هنا للموقف الحقيقي يقصد بها عودة جيش الاحتلال بدباباته وجنوده إلى شمال قطاع غزة ووسطه، على الرغم من الإعلان قبل أشهر عن انتهاء "المرحلة والأولى والثانية من الحرب" والانتقال إلى المرحلة الثالثة، أي القيام بعمليات محدودة لاستهداف المقاومة مقاتلين وقيادات.
ففي وقت مبكر من صباح الأحد 12 مايو/أيار، أرسلت إسرائيل دبابات إلى شرق جباليا بشمال قطاع غزة بعد قصف جوي وبري مكثف خلال الليل. وجباليا هو أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية القائمة منذ فترة طويلة في قطاع غزة، ويؤوي أكثر من 100 ألف شخص.
جيش الاحتلال أعلن على لسان المتحدث باسمه دانيال هاغاري أن "القوات التي تنفذ عمليات في جباليا تمنع حركة حماس، التي تدير قطاع غزة، من إعادة بناء قدراتها العسكرية هناك". لكن تقارير الإعلام العبري كانت مباشرة أكثر، حيث قالت إن المقاومة الفلسطينية استعادت بالفعل أكثر من 60% من قدراتها في شمال ووسط القطاع.
عودة الحرب إلى شمال غزة!
هاغاري قال في إفادة صحفية: "رصدنا في الأسابيع الماضية محاولات من حماس لإعادة تأهيل قدراتها العسكرية في جباليا. ننفذ عملياتنا هناك لإجهاض تلك المحاولات".
وهنا لا بد من الإشارة لتصريحات هاغاري نفسه في الأسبوع الأول من يناير/كانون الثاني الماضي، أي قبل نحو 4 أشهر كاملة، حيث نقلت صحيفة The New York Times الأمريكية قوله إن "المرحلة الجديدة من الحملة ستشهد خفضاً لأعداد القوات والغارات الجوية".
"إسرائيل ستواصل خفض عدد قواتها في غزة، وكانت بدأت في ذلك هذا الشهر". وأضاف هاغاري وقتها أن "شدة العمليات في شمال غزة بدأت تتراجع بالفعل، مع تحول الجيش نحو شن غارات قصيرة محددة، بدلاً من الاستمرار في مناورات واسعة النطاق".
"المرحلة الجديدة" التي تحدث عنها هاغاري، وأعلنها وزير الدفاع يوآف غالانت وغيره من قيادات جيش الاحتلال هي "المرحلة الثالثة من الحرب على غزة" وقالوا إنها بدأت مع مطلع العام الجاري. لكنهم عادوا لإرسال الجيش مرة أخرى إلى شمال غزة، كما أضاف هاغاري نفسه أن القوات الإسرائيلية "تنفذ عمليات في حي الزيتون في مدينة غزة".
ونقلت رويترز عن شهود عيان أن قوات الاحتلال الإسرائيلية توغلت في عمق مخيم جباليا أكثر من المرة الأولى عندما اجتاحت شمال غزة، مع اقتراب الدبابات من السوق المحلية. كما أفادوا باندلاع أعنف معارك بالأسلحة النارية هناك منذ أشهر.
كما أعاد جيش الاحتلال إرسال دبابات للتوغل في حي الزيتون وكذلك في حي الصبرة حيث ذكر سكان أن قصفاً عنيفاً أدى لتدمير عدة منازل بعضها بنايات سكنية. هذه المناطق كانت إسرائيل قد أعلنت السيطرة عليها "والقضاء على المقاومة فيها" بشكل كامل قبل شهور.
في الوقت نفسه، انطلقت صفارات إنذار في مدينة عسقلان الأحد نتيجة إطلاق صواريخ من غزة، ما يشير إلى أن المقاومة هناك لا تزال قادرة على شن هجمات صاروخية بعد مرور أكثر من سبعة أشهر على بداية الحرب. وقالت قناة الأقصى التابعة لحركة حماس عبر تليغرام إن الصواريخ انطلقت من جباليا، رغم التوغل الجاري للجيش.
الموقف الداخلي في إسرائيل
"هذا هو العام الأصعب والأكثر حزناً في تاريخ إسرائيل"، هكذا وصف تحليل "هآرتس" الموقف الداخلي في الدولة العبرية. ومع حلول ذكرى النكبة الفلسطينية التي تتزامن مع ذكرى الإعلان عن تأسيس إسرائيل عام 1948، سيحاول نتنياهو تقليل الظهور علناً وحضور "الاحتفالات" خوفاً من التعرض "للإهانة العلنية"، بحسب هآرتس.
لكن على مدى أكثر من عقد كامل الآن، كان نتنياهو ينجح في تحويل احتفالات ذكرى الاستقلال إلى مكاسب سياسية شخصية وهو ما سيحاول أيضاً القيام به هذا العام رغم كل شيء. والدليل أنه اختار "المخادع ميري ريغيف، وزير الاتصالات للإشراف على احتفالات هذا العام".
لماذا هذا العام هو الأصعب على الإسرائيليين؟ ترصد "هآرتس" الأسباب على النحو التالي:
– مفاوضات الهدنة الهادفة لإطلاق سراح الأسرى وصلت إلى طريق مسدود بعد انهيار جولة أخرى من المحادثات في العاصمة المصرية القاهرة. ومن المحتمل أن ترسل إسرائيل وفداً جديداً للمحادثات في الأيام القليلة المقبلة، لكن التوقعات ليست مرتفعة.
– موقف حماس أصبح أكثر قوة في ظل الخلافات بين نتنياهو وإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن (كما تقول هآرتس)، إضافة إلى "تبخر إنجازات القتال"، وبالتالي لن تقدم المقاومة على الأرجح أي تنازلات. (كانت حماس قد أعلنت موافقتها على مقترح الهدنة الذي قدمه الوسطاء مصر وقطر والولايات المتحدة، لكن حكومة إسرائيل تراجعت عن موقفها وأفشلت المفاوضات، وهو ما أغضب بايدن).
– نتنياهو في موقف أكثر صعوبة هذه المرة؛ فمن ناحية لا يمكنه تحمل إظهار أي قدر من المرونة خشية غضب حلفائه اليمينيين المتطرفين، الذي سعوا في الأسبوع الماضي إلى تمرير قرار يحظر بدء مفاوضات جديدة من خلال التصويت في المجلس الوزاري الأمني، لكن تم رفض الأمر. لكن يظل نتنياهو محاصراً ولا يملك هامشاً للمناورة بين حلفائه وبين أهالي الأسرى والجنود.
– في الوقت نفسه يعلق نتنياهو الآمال على "عملية رفح"، التي تبدو على الأرض محدودة وصغيرة مقارنة بما قدمه للجمهور الإسرائيلي في خطاباته. فحتى الآن، تتركز عمليات الجيش في الحافة الشرقية من رفح والثلث الشرقي من ممر فيلادلفيا. لكن الخطر هنا، كما يحدث منذ بداية الحرب، هو أن الجيش قد يسعى إلى التوغل أكثر لحماية نفسه من هجمات المقاومة.
– في الوقت نفسه، عادت الحرب إلى الشمال والوسط. صحيح أن المستوى السياسي في إسرائيل يقدم ذلك على أنه جزء من استراتيجية الحرب لكن يمكن أن تقع سيناريوهات أكثر خطورة، فما هي؟
– في غياب أي سيناريوهات لليوم التالي للحرب، ستدير إسرائيل القطاع من خلال حكومة احتلال عسكرية، وهو ما قد يؤدي إلى سنة أخرى كارثية وتعقيد غير مسبوق للموقف ككل، لتتضاعف الفاتورة البشرية والاقتصادية للحرب، وربما تتطور الأمور إلى مواجهة إقليمية شاملة، بحسب تحليل هآرتس.
خلافات بين الجيش والحكومة
نأتي هنا للموقف بين المستويين السياسي والعسكري في دولة الاحتلال. قيادات الجيش ترى أن عودة الحرب إلى المربع صفر بعد ما يقرب من 8 أشهر، أي إرسال المزيد من القوات والدبابات إلى مناطق تم الإعلان عن السيطرة عليها بالفعل، سببه الرئيسي هو غياب "القرار السياسي" بشأن اليوم التالي للحرب.
على الجانب الآخر، يتهم المستوى السياسي، وبخاصة نتنياهو وحلفائه اليمينيين المتطرفين، أو "أسياده" بحسب صحيفة Haaretz في مقال لها بعنوان "على طريق التطهير العرقي"، الجيش بالفشل في تنفيذ مهامه القتالية في غزة.
فخلال الأيام الماضية، ألمح ضباط كبار إلى أنه لو لم يرفض نتنياهو أصر على عدم إجراء أي نقاشات مع الأمريكيين بشأن إيجاد بدائل لحكم حماس في غزة، ربما لم يكن الجيش بحاجة للعودة للقتال في الشمال والوسط.
لكن اليمين المتطرف استشاط غضباً وقال إن مجلس الوزراء أمر الجيش بالقضاء على حكم حماس في غزة، ولو كان الجيش ليس "قادراً على أداء مهامه، يكون الوقت قد حان لإقالة رئيس الأركان هيرتسي هاليفي".
لكن المدافعين عن موقف الجيش يرون أن عناد نتنياهو ورفضه أي نقاشات بشأن إيجاد بدائل لحكم حماس "يعرض إنجازات الجيش للخطر"، بحسب تحليل هآرتس. هناك بطبيعة الحال وجهة نظر أخرى لمراقبين ومحللين يرون أن الحديث عن إيجاد بدائل لحكم حماس "غير واقعي"، في ظل الفشل الإسرائيلي في الاقتراب من هدف القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية.
كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قد حذر من أن إسرائيل "تخاطر بمواجهة تمرد مسلح في غزة" بدون خطة لما بعد الحرب في القطاع.
إسرائيل تواجه موقفاً عالمياً "معقداً"
أما على مستوى العلاقات بين تل أبيب وواشنطن، فترى هآرتس أن الأزمة الحالية بين الحليفين أكثر خطورة مما يتم تصويره في الإعلام الإسرائيلي أو من جانب حكومة نتنياهو وحتى معارضيها. فالأمر يتخطى جهود بايدن للفوز بفترة رئاسية ثانية عن طريق مغازلة الناخبين التابعين للتيار التقدمي في الحزب الديمقراطي.
فالإدارة الأمريكية تحاول تحسس طريقها في الشرق الأوسط في أعقاب التحدي الإيراني غير المسبوق بإطلاق صواريخ ضد إسرائيل يوم 14 أبريل/نيسان الماضي، إضافة إلى توقيع اتفاقية عودة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، بوساطة الصين.
وفي الخلفية هناك أيضا خطر مزدوج يحدق بإسرائيل؛ الدعوى أمام محكمة العدل الدولية واحتمالات إصدار أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى من بينهم نتنياهو، والقرارات الأممية لإسرائيل بوقف الحرب.
ترى هآرتس أن هذا الموقف يمثل مخاطر من الصعب التقليل منها، فجنوب أفريقيا على وشك تقديم طلب آخر لوقف الحرب فوراً أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، ولاحقاً قد يعود الأمر إلى مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات على الدولة العبرية.
قد تؤدي هذه التطورات فجأة إلى خلق موقف عالمي أكثر حدة وتجانساً يفرض على إسرائيل أن توقف الحرب دون أن تتوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى.