الخيام في رفح تحولت إلى فصول دراسية. طالب دراسات عليا بجامعة الأزهر يحصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال بعد مناقشة رسالته من داخل خيمة.
هذه غزة التي تتعرض لإبادة جماعية من جانب الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من 7 أشهر.
غزة التي تتعرض لإبادة "تعليمية متعمدة"، والتي أراد الاحتلال تحويلها إلى نكبة للتعليم حسب توصيف خبراء أمميون، يصر أهلها، أطفالا ورجالا ونساء، على المقاومة، ولو بالقلم والكراس وتحصيل العلم، حتى من الخيام!
في هذا التقرير، نتناول بالتفصيل ما تعرضت له مدارس وجامعات غزة من تدمير ممنهج ارتكبته ولا تزال آلة الحرب الإسرائيلية، وكيف يسعى الاحتلال المدعوم من الحكومات الغربية إلى كسر إرادة الفلسطينيين، وكيف يقاومونه دون يأس!
نعم، يواجه مئات الالاف من تلاميد وطلاب القطاع مصيرا غامضا بعد أن ضاعت هذه السنة الدراسية ولا أحد يمكنه الجزم متى وكيف يمكن لهؤلاء الأطفال والشباب أن يعودوا إلى استكمال رحلتهم التعليمية، لكن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، بنص كلمات صلاح محمد أحمد العايدي بعد حصوله على الماجستير من خيمة في رفح!
كارثة ليست أولوية الآن!
كان في غزة قبل الحرب أكثر من 800 مدرسة و17 مؤسسة للتعليم العالي، منها 6 جامعات، يرتادها أكثر من 600 ألف بين تلاميذ مرحلة التعليم الأساسي ومرحلة التعليم الثانوي وطلاب الجامعات، فما مصيرهم؟ وماذا ينتظر مشوارهم التعليمي؟
وبحسب بيان صادر عن خبراء أمميون، فإنه بعد 6 أشهر من الحرب الإسرائيلية على غزة، "قتل أكثر من 5 آلاف و479 طالبا و261 معلما و95 أستاذا جامعيا، وأصيب أكثر من 7 آلاف و819 طالبا و756 معلما، مع تزايد الأعداد كل يوم. كما لا يحصل ما لا يقل عن 625 ألف طالب على التعليم".
وبالتالي يشعر كثيرون بقلق عميق بشأن ما ينتظرهم حين يتوقف سقوط القذائف وينتهي العدوان، ولا شك أن مستقبل التعليم في القطاع، الذي كان يعاني أصلا بسبب الحصار الممتد منذ 17 عاما، يمثل أحد أبرز جوانب هذا القلق.
لكن مأساة التعليم أو تدمير المدارس والجامعات في قطاع غزة من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي تمر مرور الكرام على ما يبدو، فالتركيز على المآسي والكوارث الأكثر إلحاحا، أو بمعنى أدق ينصب التركيز على فقدان الحياة نفسها، حيث استشهد أكثر من 7700 طفل فلسطينيا في أول شهرين من العدوان الإسرائيلي.
وإجمالا تخطى عدد الشهداء أكثر من 34 ألفا، غالبيتهم العظمي من المدنيين، وأصيب عشرات الآلاف وهناك أعداد هائلة من المفقودين، بينما يتضور غالبية السكان جوعا ويواجهون خطر انتشار الأمراض والأوبئة وليس لديهم مياه شرب نظيفة ولا صرف صحي، وبالتالي فإن كارثة التلاميذ والمدارس والشباب والجامعات لا تجد الآن من يلقي لها بالا خارج القطاع، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية عنوانه "الحرب وتأثيرها على التعليم في غزة تلقي بظلال الشك حول مستقبل الأطفال".
فقد أوقفت الحرب الإسرائيلية التعليم في مدارس غزة البالغ عددها 813، والتي كانت تتقاسم 563 مبنًى مدرسياً بسبب نظام الفترتين، بحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية. ولا يملك عشرات الآلاف من الطلبة وعائلات أكثر من 600 ألف طفل في القطاع توقف تعليمهم، أي أمل واقعي في استئناف الدراسة قريباً.
وبالنسبة لسكان غزة الذين يُشكِّل الشباب القطاع الأكبر منهم -نحو 65% من السكان هم في عمر 24 أو أقل- ستكون العودة إلى صفوفهم الدراسية واحدة من أكبر التحديات التي سيواجهونها بمجرد انتهاء الحرب.
تدمير المدارس والجامعات في غزة
ينتهج الاحتلال الإسرائيلي سياسة التدمير الشامل في حربه الحالية على قطاع غزة ولم تسلم الجامعات والمدارس من استهدافاته المباشرة، فلحقت الأضرار بـ90% من كل هذه المدارس، إذ تضررت قرابة 300 مدرسة وجامعة بشكل جزئي، وتوقفت 95 أخرى عن الخدمة تمامًا، بحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة حتى منتصف مارس/ آذار 2024.
وبحسب وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، تحولت 133 مدرسة حكومية في قطاع غزة إلى مراكز إيواء. وفي الأيام الأولى للحرب، كان أكثر من 130 ألف مواطن غزاوي قد لجأوا إلى 83 مدرسة تابعة للأونروا وحدها، والتي لم تسلم مدارسها من القصف الاسرائيلي المستمر.
كما حولت قوات الاحتلال المتوغلة في القطاع بعض المدارس، التي لم تُدمّر بشكل كامل، إلى مناطق عسكرية يتموضع فيها الجنود، كما ارتكب طيران الاحتلال المجازر بحق عدد من تلك المدارس التي تؤوي آلاف النازحين، إضافة إلى جرائم استخدام المدارس والجامعات لأغراض عسكرية، بما في ذلك ما لا يقل عن 18 حادثة استخدام عسكري لمنشآت الأونروا؛ بحسب المنظمة الإغاثية الأممية نفسها.
ورصد تقرير لكتلة التعليم، وهي مجموعة من منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الأخرى بقيادة منظمتيّ "يونيسيف" و"أنقذوا الأطفال"، أنَّ نحو 76% من المباني المدرسية قد تضرَّرت، وكان الضرر في العديد منها كاملا تقريبا. وتقول كتلة التعليم: "ستحتاج البنية التحتية التعليمية إلى إعادة البناء بالكامل"، وتُقدِّر أنَّ الأمر سيُكلِّف 855 مليون دولار على الأقل.
عام دراسي ضائع وتداعيات كارثية
يوجد في قطاع غزة أكثر من 625 ألف طالب كان يفترض أن يكونوا في الأمتار الأخيرة من العام الدراسي حاليا، منهم نحو 60 ألفًا من طلبة المرحلة الثانوية وحوالي 87 ألف طالب جامعة وكلية، والباقي تلاميذ التعليم الأساسي (مرحلة الإبتدائي والإعدادي)، وحرم هؤلاء جميعا من العام الدراسي.
لا تزال الحرب على القطاع مستمرة، حيث تتسبب إسرائيل في دمار لم يسبق لأهل غزة أن شهدوه يومًا، وقال مدير العلاقات العامة في المكتب الإعلامي الحكومي غزة، محمود الفرا، لوسائل الإعلام إن "العام الدراسي الحالي قد توقف، رغم عدم صدور بيانٍ رسمي عن الجهات المختصة، إلا أن قراءة الواقع وحجم الضرر الذي لحق بالقطاع يشيران إلى هذه النتيجة".
وتداعيات ذلك على مستقبل الأطفال والشباب في القطاع شديدة. فيُحذِّر الأكاديميون من أنَّ تدمير النظام التعليمي في غزة كارثة من شأنها أن تدمر حياة الفلسطينيين بصورة أكبر. إذ لم يؤدِ العدوان الإسرائيلي إلى تسوية مئات المدارس والجامعات بالأرض وحسب، بل أسفر أيضاً عن استشهاد الكثير من الغزاويين المتعلمين، بما في ذلك طلبة ومهنيين شباب وشخصيات ثقافية ومعلمين وأساتذة جامعيين. ويقول البعض إنَّ الخسارة التي لحقت بالمجتمع الفلسطيني لا تُوصَف.
الدكتور علاء العزه، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة بيرزيت في الضفة الغربية المحتلة، قال لصحيفة فايننشال تايمز: "جرى تفكيك النسيج الاجتماعي للمجتمعات المحلية في غزة وقدرتها على إعادة بناء حياتها. انظروا إلى عدد الأساتذة الجامعيين الذين قُتِلوا. وقد دُمِّرَت المنح الدراسية القائمة. ولن يقتصر الأمر على مسألة إعادة بناء الفضاء المادي فقط، بل أيضاً القدرة والتدريب الأكاديمي. وإذا لم نستخدم كلمة الإبادة الجماعية، فيمكننا أن نقول (الإبادة المجتمعية)، أي تدمير المجتمع".
إسرائيل واستهداف الجامعات
رصد تقرير الفايننشال تايمز بعضا من حالات طلاب جامعيون في غزة كان يفترض أن يكون هذا العام الدراسي عامه الأخير قبل التخرج، ومنهم ياسر الأستاذ، الطالب في كلية الهندسة في جامعة الأزهر بغزة، والذي تحطمت آماله في إكمال درجته العلمية.
يعيش الأستاذ، وهو من شمال غزة، الآن في خيمة بمدينة رفح الصغيرة أقصى جنوب قطاع غزة، حيث يتكدَّس أكثر من مليون شخص مُهدَّدون بالمجاعة بحثاً عن ملاذ من العدوان الذي تشنه إسرائيل على القطاع. ورغم أنه بالنسبة لـ2.3 مليون غزاوي عالقين في القطاع يُعَد البقاء على قيد الحياة هو الشاغل الآني، إلا أن كثيرين يشعرون بقلق عميق بشأن مصائرهم حين يتوقف سقوط القذائف. فيقول الأستاذ: "لم يبق شيء بعد تدمير بيوتنا وجامعاتنا. أفكر بالرحيل، لكن ليست لديّ أدنى فكرة عما أفعل". مضيفا أنَّ هنالك "مليون سؤال" لا إجابة لها في رأسه: "فهل سيُعتَدُّ بالسنوات التي أمضيتُها في الجامعة في أي مكانٍ آخر أم سيتعين عليّ البدء من الصفر؟ هل سأكون قادراً على السفر؟ هل يمكنني جمع المال اللازم للمغادرة؟".
حالة الأستاذ تعبر عن الحالة العامة للؤسسات التعليمية في القطاع، إذ كانت الجامعات هدفاً للقصف الإسرائيلي. وتعرَّضت خمس من ست جامعات في غزة للدمار كلياً أو جزئياً. ويشمل هذا التدمير الكامل للجامعة الإسلامية التابعة لحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" في غزة، وهي واحدة من بين الأكبر في القطاع بنحو 20 ألف طالب.
وفي حين تزعم إسرائيل أنَّ الجامعة كانت "مركز تدريب محوري" لمهندسي حماس، إلا أن الجامعات الأخرى لم تسلم أيضا من التدمير والاستهداف، ومنها جامعة الإسراء، جنوبي مدينة غزة، والتي قام جنود إسرائيليون بتفجيرها يوم 17 يناير/كانون الثاني الماضي، بعد أن استخدموها قاعدة لهم لمدة 70 يوماً.
وكانت المؤسسة المستقلة الخاصة غير الهادفة للربح -والتي كان شعارها هو "التغيير نحو الاحتراف"- قد تأسست في عام 2014، وكانت تُدرِّس الطب والهندسة والمالية والحقوق والعلوم الإنسانية لنحو 4 آلاف طالب. وتُظهِر مقاطع فيديو، من تصوير جنود الاحتلال، اللحظة التي ينهار فيها حرم الجامعة بأكمله وسط سحابة كثيفة من الدخان والغبار.
ووفقاً لمسؤولين فلسطينيين، تنعي غزة أيضاً وفاة نحو 95 أكاديمياً وباحثاً، بينهم 77 حامل لدرجة الدكتوراه وثلاث رؤساء جامعات، بينهم رئيس جامعة الأزهر، سفيان تايه، وهو عالم وباحث غزير الإنتاج في علم البصريات، وقد استشهد في غارات جوية إلى جانب زوجته وخمس من أبنائه.
ومثل حالة الأستاذ، كانت "سارة" في الفصل الدراسي الأول من السنة الرابعة في عيادات الأسنان التابعة لجامعة الأزهر، وكانت قد اجتمعت وزملاءها بمدرسيهم للاتفاق على تمديد مدّة الفترة الدراسية إن استطاعوا.
لكن بعد الحرب، توقفت الدراسة وبدأ الاحتلال بقصف مباني الجامعات، مستهلًا عملياته بالجامعة الإسلامية، ثم استهدف جامعة تلو الأخرى، ليصل إلى مباني جامعة الأزهر. كانت "سارة" قد نزحت وأهلها إلى إحدى مدن محافظة الوسطى، وسمعت عن تدمير العيادات الجديدة اللي وفرتها الجامعة لطلبة طب الأسنان، كما دمّر المبنى الأساسي للجامعة، حيث أوراق الطلبة وسجلاتهم. هنا تيقنت سارة أن إكمال عامها الدراسي الأخير قد توقف. "من ناحية بقول إنه الجامعات بدها سنتين لترجع إذا مش أكثر، ومن جانب ثاني بقول هيني زيي زي باقي الطلاب نستنى الحلول اللي رح يطرحوها بعد الحرب (..) ومن ناحية بحكي لسا بدي أفكر بحياتي وهل رح أظل عايشة لتخلص الحرب؟".
تستيقظ سارة أحيانًا على أصوات القصف في المكان الذي نزحوا إليه، وتفكر أن عليهم النزوح إلى مكان آخر. ورغم أنها تحاول ما أمكن تجنب التفكير بمستقبلها التعليمي إلا أن بالها يظل مشغولًا بالتفكير إن كانت ستجد وثائق تثبت أنها أكملت ثلاثة أعوام دراسية، أم ستضطر لإعادة الدراسة كلها، خصوصًا أنها حتى الآن لم تسمع أخبارًا عن الجامعة وما سيحل بطلبتها، كما أن المواقع الإلكترونية للجامعات في غزة متعطلة وهو ما يزيد مخاوفها.
استهداف مدارس الأونروا
الاستهداف الإسرائيلي ليس مقتصرا على المدارس والجامعات الحكومية والخاصة، بل إن الاحتلال كان لديه استراتيجية ممهنجة لضرب البنية التحتية التعليمية في القطاع، لذلك تجاوز كل الخطوط الحمراء عبر استهدافه أيضاً للمدارس التي تديرها الأونروا التابعة للأمم المتحدة.
إذ تدير منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة 183 مدرسة تقدم خدماتها التعليمية لأكثر من 278,000 طالب وطالبة. وبسبب سنوات من نقص التمويل والحصار الإسرائيلي، ظل النظام التربوي في غزة يعمل فوق طاقته، إذ أن 63% من المدارس تعمل بنظام الفترتين، حيث يستضيف المبنى الواحد مدرسة وطلابها في الفترة الصباحية ومدرسة أخرى بطلاب مختلفين في الفترة المسائية.
ليس هذا فحسب بل إن 7% من المدارس تعمل بنظام الثلاث فترات. وإلى جانب خدمات التعليم الأساسي، توفر الأونروا فرصا تدريبية مهنية وفنية لحوالي 1000 طالب سنويا في مراكزها التدريبية في غزة وخان يونس، بحسب موقع الأونروا.
قامت إسرائيل، التي تسعى للتخلص من الأونروا على أمل القضاء على حق العودة للاجئين الفلسطينيين، ليس فقط باستهداف مدارس الأونروا بل أيضا السعي لإنهاء مهامها بشكل نهائي، وهو ما يزيد من أوجه عدم اليقين الأخرى بشأن مستقبل أطفال وشباب غزة. فالأونروا هي أكبر وكالة أممية عاملة في غزة، ومع تعرَّض تمويل الوكالة الإغاثية التابعة للأمم المتحدة للتجميد من جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبلدان أخرى بسبب مزاعم إسرائيل، يقول مسؤولون أمميون إنَّ من شأن انهيار الأونروا أن يترك فجوة هائلة في النظام التعليمي في غزة سيكون من الصعب سدها، بحسب تقرير الفايننشال تايمز.
وبعد أكثر من 5 أشهر من الحرب الإسرائيلية على غزة واستهداف الأونروا بشكل خاص، أصبح نحو 77% من مدارس الأونروا إما مدمرا بشكل كامل أو جزئي، وتم تحويل معظم مدارس الأونروا في قطاع غزة إلى ملاجئ تستضيف أكثر من 1,2 مليون نازح. وتأثرت 75٪ من جميع المباني المدرسية في جميع أنحاء قطاع غزة، في حين لحقت أضرار بالعديد من مؤسسات التعليم العالي.
كيف يتأثر أطفال غزة؟
مع فقدان الأطفال والشباب، وكذلك المعلمون، الركيزة الأساسية التي هي التعليم، فإنه كلما طال أمد بقائهم خارج المدرسة، زادت صعوبة اللحاق بهم، مع ما يترتب على ذلك من عواقب دائمة.
وحتى قبل العدوان الإسرائيلي الحالي، تركت معايشة أهوال العدوان المتكرر على قطاع غزة خلال أكثر من 17 عاما أثرها أيضاً على الصحة النفسية للأطفال، فيقول تقرير صادر عن كتلة التعليم إنَّ أربعة من بين كل خمسة أطفال كانوا يعانون من "الاكتئاب والحزن والخوف"، حتى قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أما الآن فالشهادة مصير الاف الأطفال في غزة. الطفلة لبنى عليان (14 عاماً)، كانت عازفة كمان موهوبة استُشهِدَت مع العشرات من أفراد عائلتها في غارة جوية إسرائيلية يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على منزل عمتها في النصيرات جنوب مدينة غزة، بحسب فايننشال تايمز.
كانت التلميذة ترتاد معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، وكانت قد أثارت إعجاب مُعلِّميها باجتهادها ومهارتها بما قادها إلى تلقّي دروس مع موسيقيين عالميين مثل توم سواريز، العضو السابق في أوركسترا بالتيمور وأوركسترا السيمفونية الأمريكية.
أما سمر عاشور، وهي مُعلِّمة وأم لثلاثة أبناء باتت الآن نازحة من مدينة غزة إلى رفح، فتقول إنَّ "مستقبل جيل بأكمله في خطر".
تحاول سمر مراجعة الدروس مع أبنائها، لكنَّها تقول إنَّ أصغرهم، وهي فتاة تبلغ من العمر 6 سنوات، فقدت حماسها السابق للتعلُّم وما تزال تعاني من الصدمة منذ قُتِلَ أحد أصدقائها المقربين. وتضيف سمر للتايمز: "تقول (الطفلة): (لا أريد الذهاب إلى المدرسة أو أي مكان. أريد فقط أن أبقى معكِ حتى نموت معاً حين نتعرَّض للقصف)". فالطفلة ذات السنوات الست فقدت زميلتها المقربة في قصف استهدف المدرسة.
التعليم عصب حياة الفلسطينيين
لطالما سجَّل الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية واحداً من أعلى مستويات التعليم في العالم العربي على الرغم من عقود من الاحتلال والحصار المفروض على القطاع منذ 17 عاماً.
وتبلغ مستويات التعليم 98% تقريباً وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في سبتمبر/أيلول 2023، وهي مستويات مشابهة لنظيراتها في دول الخليج الغنية، وتراجعت الأمية من 13.9% عام 1997 إلى 2.2% عام 2023.
وكانت الجامعات في غزة تُقدِّم درجات علمية في مجموعة واسعة من المجالات، ويقول مخيمر أبو سعدة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر، للصحيفة البريطانية إنَّ الكثير من الخريجين تمكَّنوا من إكمال درجات الماجستير والدكتوراه في الغرب، برغم القيود، والعودة من أجل العمل أو التدريس.
"استثمر الفلسطينيون تاريخياً بقوة في تعليم أبنائهم. وقد أثنت البطالة المرتفعة في الأعوام الـ17 الأخيرة منذ تولت حماس السلطة في غزة بعض الشبان عن السعي للحصول على درجة جامعية. لكن بالنسبة للنساء اللاتي أردن تغيير حياتهن، كان ذلك هو الطريق الوحيد"، بحسب أبو سعدة.
ضياع مستقبل أجيال
غير أنَّ هذا التقدم بات الآن في خطر. فبعيداً عن الدمار الذي لحق البنية التحتية، أدَّى فقدان الأرواح إلى إفقار المجتمع الغزاوي أكثر من خلال حرمانه من مساهمات بعضٍ من أكثر شبابه الواعدين، الذين رصد تقرير الصحيفة البريطانية بعضا منهم.
يشمل هؤلاء أمثال ميسرة الريس (28 عاماً)، وهو طبيب شاب أكمل درجة الماجستير من جامعة كينغز كوليدج لندن بتمويل من منحة تشيفنيغ المرموقة في المملكة المتحدة.
كان بإمكان الريس الحصول على وظيفة ذات أجر جيد في الخليج أو أوروبا، لكنَّه اختار بدلاً من ذلك العودة إلى غزة حيث عمل لصالح منظمة "أطباء العالم"، وهي مؤسسة خيرية دولية. يقول مادس غيلبرت، أستاذ طب الطوارئ، وقد درَّس للريس في جامعة الأزهر وأصبح لاحقاً صديقاً له: "كان مجتهداً، ودقيقاً وموثوقاً للغاية، وكان دوماً عطوفاً وصاحب حس دعابة رائع".
أطلق الثنائي مشروعاً لتدريب طلبة الطب على تقديم دورات إسعافات أولية مُنقِذة للحياة للمواطنين العاديين. وفي السادس من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، استُشهِدَ الريس في غارة جوية إسرائيلية مع والديه وأقارب آخرين.
بالمثل، تجنَّب طارق ثابت، خبير إدارة المشروعات، والذي كان في أواخر الثلاثينيات من عمره، إقامة حياة خارج غزة كي يُحدِثَ فارقاً في مسقط رأسه. وصف ثابت، الذي حصل على منحة فولبرايت عام 2021، الفرصة لدراسة التنمية الاقتصادية بجامعة ولاية ميشيغان بأنَّها "رحلة مُغيِّرة للحياة".
وحين عاد إلى وطنه عام 2022، كرَّس نفسه لرواد الأعمال الشباب في غزة، فأشرف على حاضنة الأعمال بالكلية الجامعية للعلوم التطبيقية. ويُقدِّر أصدقائه أنَّ ثابت ساعد آلاف الشباب على إيجاد وظائف، وهو ما يمثل شريان حياة للشباب في القطاع الذي تبلغ نسبة البطالة بين الشباب فيه نحو 70%. استُشهِدَ ثابت وأكثر من 12 من أفراد أسرته في غارة جوية إسرائيلية على منزلهم وسط مدينة غزة في 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
هل تتعمد إسرائيل تفكيك نظام التعليم؟
نيف غوردون، وهو أستاذ جامعي إسرائيلي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان بجامعة كوين ماري في لندن، قال للفايننشال تايمز إنَّ تفكيك النظام التعليمي في غزة سيؤدي إلى "تقويض التنمية" في القطاع، وهو أمر يعتبره هو وأكاديميون آخرون في "الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط" سياسة إسرائيلية مُتعمَّدة. وتُصِرُّ الدولة اليهودية على أنَّها تستهدف فقط المباني المرتبطة بحماس.
يقول غوردون: "الطبيعة المنهجية للهجمات، وعدد الأساتذة الجامعيين الذين قُتِلوا، والمدارس التي دُمِّرَت تُظهِر النوايا"، وهو يُحذِّر من "هجرة العقول بسبب الدمار والموت".
وفي حين أنَّه ما من أحد متأكد مما سيشمله الفصل التالي في القطاع -تقول إسرائيل إنَّها تهدف لممارسة السيطرة الأمنية المباشرة- يتفق الأكاديميون على أنَّ النزوح الجماعي لذوي الكفاءات أمرٌ مُرجَّح.
إذ ستجعل الضربة التي تلقّتها كافة جوانب الحياة في غزة من الصعب للغاية على أفراد الطبقة الوسطى الصغيرة، بما في ذلك المُعلِّمون، استئناف حياتهم هناك. ويتوقع الكثير من المحللين أنَّهم سيبحثون عن فرص بالخارج.
وبالنسبة لطلبة الجامعات، فإنَّ الالتحاق بالمجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية ليس حتى أمراً محتملاً لأنَّ، كما يقول علاء العزه من جامعة بيرزيت، القيود الإسرائيلية على الحركة تمنع الفلسطينيين من غزة من ارتياد المؤسسات التعليمية في بقية الأراضي المحتلة.
ويقول أبو سعدة من جامعة الأزهر إنَّ الناس "سيبحثون عن أماكن أخرى للذهاب إليها. إن لم يكن من أجلهم، فمن أجل أبنائهم، من أجل هذا الجيل الذي يضيع". ويُقدِّر أنَّ عشرات أو مئات الآلاف سيرغبون بالهجرة. ويقول: "من الواضح أنَّه لا أحد يريد استقبالهم، لكنَّهم ربما سيلجؤون إلى الهجرة غير الشرعية".
ويضيف أنَّ الآلاف من الشباب قد هاجروا بالفعل منذ عام 2007 "بسبب الفقر والبطالة وغياب الفرص، واتجهوا إلى تركيا وأوروبا".
ماذا بعد وقف إطلاق النار؟
حتى لو أمكن التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار، تظل مهمة إعادة بناء النظام التعليمي في غزة، وهو الأساس لأي تنمية مستقبلية، مسألة صعبة للغاية.
فبادئ ذي بدء، يجعل دمار المساكن وشبكات الكهرباء من المستحيل حتى استنساخ تجربة التعلُّم عبر الإنترنت التي كانت خلال جائحة كوفيد. فغالبية الغزاويين يعيشون في خيام أو ملاجئ بلا إمكانية للوصول إلى التكنولوجيا.
وتعهَّد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأنَّه لن تكون هنالك عملية إعادة إعمار قبل "نزع سلاح غزة" وتطبيق "برنامج شامل للقضاء على التطرف" في التعليم والخطاب الديني.
لكنَّ العزه يقول إنَّ الأرجح أنَّ إسرائيل ستحصل على عكس النتيجة التي تريدها تماماً. ويضيف: "ستكون هناك المزيد من المقاومة.. لا أعرف كيف سيتعامل الناس مع صدمتهم، لكن من المؤكد أنَّ الأمر … سيتخذ شكلاً جمعياً".
ويحذر خبراء التعليم وجماعات الإغاثة من أنه حتى بعد توقف الحرب، ستظل العودة إلى أي شكل قريب من الشكل الطبيعي للحياة في غزة أمرا يحتاج إلى وقت طويل. "عندما نتحدث عن التعليم، فإننا نتحدث عن نظام مثل النظام الصحي. ومن المستحيل عودة هذه الأنظمة للعمل بشكل أقرب للشكل الطبيعي ما لم يكن هناك توقف تام للحرب من جهة وإعادة تأهيل من جهة أخرى،" بحسب ما قاله جوناثان كريك، المتحدث باسم اليونيسيف، للغارديان.
وسيكون تأهيل الفصول الدراسية مشكلة ضخمة لإنه حتى قبل الحرب الحالية كانت تلك الفصول تعاني من قصور شديد وضغوط متراكمة بسبب الحصار، أي أن الضرر الذي يلحق بمبنى واحد يعني تأثر مدرستين كاملتين. "يمكن فقط تخيل مدى صعوبة إعادة تأهيل نظام تعليمي كان يعاني من الأساس من موقف كارثي".
نكبة التعليم.. هدف إسرائيلي
الموقف الكارثي في التعليم منذ ما قبل الحرب ليس حكرا على قطاع غزة المحاصر، بل يمتد إلى الضفة الغربية والقدس، بل ومدارس الفلسطينيين في المخيمات سواء في الأردن أو لبنان أو سوريا، حيث تسعى إسرائيل منذ عقود إلى هدم نظام التعليم الفلسطيني بشكل كامل، بل امتد الأمر مع تولي حكومة نتنياهو الحالية إلى التمييز ضد عرب 1948 في التعليم ضمن المدارس والجامعات الإسرائيلية.
وقد عبر نتنياهو عن رغبته في القضاء على وصفها بأنها "مناهج التعليم التي تحض على الكراهية"، وهو ما يريد الاحتلال تنفيذه في قطاع غزة في اليوم التالي للحرب من خلال فرض السيطرة على الإدارة المدنية للقطاع، رغم عدم وجود استراتيجية محددة أو خطة عمل قابلة للتنفيذ.
ففي غزة، وضع نتنياهو شرطا هو "القضاء على التطرف" وهو من بين الأهداف التي يجب تحقيقها على المدى المتوسط، ويرى نتنياهو أن القضاء على الإدارة المدنية، التي تدير المدارس والجامعات الحكومية، وإغلاق الأونروا بشكل كامل، هو الخطوة الأولى على طريق تنفيذ تلك الأهداف، دون أن يوضح حتى متى ستبدأ تلك المرحلة أو حتى متى قد تستمر.
أي أن نتنياهو يريد وضع مناهج جديدة للتعليم في مدارس غزة بعد انتهاء الحرب، وهذا يطرح قائمة لا تنتهي من الأسئلة: من سيعيد بناء المدارس والجامعات المدمرة؟ ومن سيضع تلك المناهج الجديدة؟ دولة الاحتلال نفسها مثلا؟
الأسئلة كثيرة ولا تنتهي ولا توجد لها إجابات ممكنة، وعلى الأرجح لا يغيب ذلك كله عن تفكير نتنياهو، الذي يزعم أنه يريد استبدال حكم حماس في غزة مع الحفاظ على النظام العام من خلال ممثلين محليين "لا ينتمون إلى دول أو جماعات إرهابية ولا يحصلون على دعم مالي منها"، ويدعو إلى إغلاق الأونروا لتحل محلها منظمات إغاثة دولية أخرى!
إبادة "تعليمية"؟
ما يقوم به الاحتلال في غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يرقى إلى "الإبادة التعليمية المتعمدة"، حسب توصيف خبراء أمميون في أبريل/ نيسان. ففي بيان مشترك، قال 19 خبيرا ومقررا أمميا مستقلا، إنه مع تضرر أو تدمير أكثر من 80% من مدارس غزة، قد يكون التساؤل معقولا عما إذا كان هناك جهد متعمد لتدمير نظام التعليم الفلسطيني بشكل شامل، وهو عمل يعرف باسم "الإبادة التعليمية".
ومصطلح "الإبادة التعليمية" يقصد به المحو الممنهج للتعليم من خلال اعتقال أو احتجاز أو قتل المعلمين والطلاب والموظفين، وتدمير البنية التحتية التعليمية، حسب موقع أخبار الأمم المتحدة.
بيان الخبراء ذكر أنه بعد 6 أشهر من الحرب، "قتل أكثر من 5 آلاف و479 طالبا و261 معلما و95 أستاذا جامعيا، وأصيب أكثر من 7 آلاف و819 طالبا و756 معلما، مع تزايد الأعداد كل يوم. كما لا يحصل ما لا يقل عن 625 ألف طالب على التعليم".
وأشار إلى تدمير أو تضرر 195 موقعا تراثيا، بما في ذلك الأرشيف المركزي لغزة الذي يحتوي على 150 عاما من التاريخ، إضافة إلى 227 مسجدا و3 كنائس، كما تضررت أو دمرت 13 مكتبة عامة، وهدم جيش الاحتلال جامعة الإسراء في 17 يناير/كانون الثاني الماضي، وهي آخر جامعة متبقية في غزة، وفق البيان.
الخلاصة هنا هي أن إسرائيل دمرت أكثر من 80% من المدارس في قطاع غزة؛ مع تواصل الحرب المدمرة على القطاع منذ أكثر من 7 أشهر.
مقاومة من نوع آخر!
"أمي، لا أريد الذهاب إلى المدرسة.. أريد فقط أن أبقى معك حتى نموت معا حين نتعرض للقصف"! كان هذا ما قالته طفلة غزاوية لأمها بعد أن استشهدت صديقة الطفلة في قصف المدرسة التي كانتا تدرسان بها.
ومع النزوح الإجباري إلى جنوب القطاع، حيث بات يوجد أكثر من 1.4 مليونا من أهل غزة يعيشون في خيام في رفح، تحولت بعض تلك الخيام إلى فصول دراسية بالفعل، يحضرها أطفال كتلك الطفلة الغزاوية وغيرها.
سوسن السعدي، إحدى النازحات من مدينة غزة، تعيش في خيمة في رفح، وعندما أجبرت مع أطفالها على ترك منزلهم، لاحظت حرص الأطفال على اصطحاب كتبهم الدراسية. وفي رفح حيث نزحت، علمت أن هناك فصولا دراسية في خيام مجاورة يدرس فيها الأطفال مبادئ القراءة والكتابة والحساب، فبدأت ترسل ابنتها الصغيرة سلمى (5 أعوام) لتحضر تلك الدروس. "تعود منها سعيدة للغاية"، تقول سوسن.
وفي خيام رفح أيضا، ناقش طالب فلسطيني رسالة ماجستير في إدارة الأعمال. جامعة الأزهر بغزة، قالت عبر صفحتها بمنصة فيسبوك، إن طالب الدراسات العليا صلاح محمد أحمد العايدي ناقش رسالة ماجستير في مخيمات النزوح برفح السبت، 4 مايو/ أيار 2024، عبر الإنترنت. رسالة الماجستير في إدارة الأعمال بكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة الأزهر-غزة، ونوقشت تحت إشراف أعضاء من هيئة التدريس بكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية.
ماذا قال العايدي بعد الحصول على درجة الماجستير؟ "أواصل مسيرتي التعليمية رغم الفقد والجراح والألم، حيث يبقى الأمل.. وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة"، مهديا رسالته إلى "أرواح الشهداء والجرحى والأسرى والنازحين الصابرين والمُهدمة بيوتهم"، وفق وسائل إعلام محلية.
لكن حتى في شمال غزة، تستمر الممانعة الفلسطينية للإبادة التعليمية. فقد أطلق فريق شبابي تطوعي مبادرة، هي الأولى من نوعها منذ بداية الحرب الإسرائيلية، للتغلب على تعطل الحياة التعليمية في غزة، وابتعاد الطلاب عن مقاعد الدراسة لسبعة أشهر متواصلة حتى الآن، في مشروع تعليمي في غزة يتحدى العدوان والدمار.
وحضر موقع "عربي بوست" افتتاح المشروع التعليمي، الذي انطلق داخل مركز النزوح المقام في مدرسة خليفة بن زايد، قرب مخيم جباليا، وهو الأمر الذي يتميز به المشروع، إذ إنه انطلق في شمال القطاع؛ حيث لا يزال السكان صامدين فيه رغم الدمار الهائل في البنية التحتية، ورغم عمليات النزوح الكبيرة منه إلى جنوب غزة.
يشرف على المشروع التعليمي "فريق غوث غزة"، وهو فريق شبابي تطوعي من شمال غزة، أطلق المبادرة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم في غزة، وهدف المشروع هو "إخراج الأطفال من الضغط النفسي الناجم عن الحرب ومحاولة إدماجهم في عملية التعليم"، بحسب الناشطة الاجتماعية ومنسقة المشروع التعليمي هالة شحادة.