منذ فبراير/شباط 2024 تتعالى الأصوات المعارضة لمشاركة إسرائيل في مسابقة "يوروفيجن" في دورتها الـ68، حيث تكثفت المطالبات بإقصاء الاحتلال الاسرائيلي من الحدث الغنائي الأوروبي الكبير بسبب تورطها المستمر في الإبادة الجماعية بقطاع غزة، والذي دام أكثر من 7 أشهر.
هذه الدعوات لا تأتي فقط من خارج، بل حتى من قلب السويد، البلد المضيف للمسابقة هذا العام، حيث ستقام الفعاليات في مدينة مالمو من 7 إلى 11 مايو/أيار. وفي خطوة لافتة للنظر، وقع أكثر من أربعة آلاف موسيقي وفنان من دول الشمال الأوروبي، بما في ذلك السويد وفنلندا والنرويج والدنمارك وأيسلندا، عريضة موجهة إلى اتحاد الإذاعات الأوروبية، تدعو إلى استبعاد إسرائيل من الحدث.
فيما أكد اتحاد البث الأوروبي "EBU" باعتباره الجهة المنظمة لمسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" أن المسابقة عبارة عن حدث ثقافي ولا مكان للسياسة فيه، إلا أن النقاش المطروح دائماً حول دخول السياسة في هذه المسابقة يفتح باب التساؤلات، خاصة أن الاتحاد ينص في نظامه على أن المسابقة غير سياسية وأن الشعارات والبيانات السياسية لا مكان لها فيها.
يوروفيجن والحضور السياسي في المسابقة
حسب موقع "DW" الألماني تعود جذور مسابقة "يوروفيجن" للأغنية الأوروبية إلى العام 1956، حيث استضافت مدينة لوغانو السويسرية النسخة الأولى من هذا الحدث تحت اسم "Gran Premio Eurovisione Della Canzone Europea"، المعروفة أيضاً بالجائزة الكبرى.
أُنشئت هذه المسابقة بغرض تعزيز التفاهم والسلام بين الشعوب التي كانت قبل عقد أو اثنين، تتحارب في الحرب العالمية الثانية. الفكرة لاقت نجاحاً ملحوظاً، فشاركت في البداية سبع دول، بما في ذلك ألمانيا.
بمرور السنوات، شهدت المسابقة تطوراً كبيراً؛ ففي عام 1968، شاركت فيها 17 دولة. خلال هذه الفترة برز أول خلاف سياسي واضح عندما أُجبر الممثل الإسباني على التخلي عن فكرة الغناء باللغة الكتالونية، التي كانت تُعتبر رمزاً للحرية والديمقراطية، لأنها لم تُعجب النظام الديكتاتوري لفرانكو في إسبانيا.
بدلاً من ذلك، أُرسلت ممثلة أخرى لتغني بالإسبانية أغنية "لا لا لا"، التي فازت بالمسابقة، التوترات السياسية استمرت تلقي بظلالها على المسابقة. ففي عام 1974، بعد تقسيم جزيرة قبرص، شابت العلاقات بين تركيا واليونان العداء.
فيما قاطعت اليونان مسابقة الأغنية الأوروبية في عام 1975، وفي العام التالي اختارت تركيا عدم المشاركة، لكنها بثت العرض. وخلال أداء الممثل اليوناني، تم قطع البث واستبداله بأغنية وطنية تركية، مما يعكس مدى التأثير السياسي الذي يمكن أن تحمله هذه المسابقة الثقافية.
السياسة واتحاد البث الأوروبي
لم يسلم اتحاد البث الأوروبي من تداعيات الأحداث السياسية الكبرى، وذلك يظهر بوضوح في قراراته بشأن استبعاد بعض الدول من مشاركتها في مسابقة "يوروفيجن". على سبيل المثال، في عام 2009، استُبعدت جورجيا بعد أن اعتبر الاتحاد أن عنوان أغنيتها "We Don't Wanna Put In" يحمل دلالات معادية لروسيا.
أما في عام 2021، منعت بيلاروسيا من المشاركة نتيجة دعم فرقتها الغنائية بشكل صريح للرئيس ألكسندر لوكاشينكو، وانتقادها للاحتجاجات المعارضة له.
وأيضاً، في عام 2022، تم استبعاد روسيا من المسابقة رداً على تصعيدها العسكري ضد أوكرانيا، ما يؤكد التأثير المباشر للأحداث السياسية على قرارات الاتحاد. ومع ذلك، لم تكن السياسة الوحيدة المحرك للجدل، فمنذ البدايات، كانت هناك تساؤلات حول مدى نزاهة لجان التحكيم الوطنية التي غالباً ما بدت تفضل دولاً معينة أو تعاقب أخرى دون اعتبار لجودة الأداء الفني.
ربما كانت واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك في عام 2014، عندما أعطت لجنة التحكيم الروسية صفر نقطة لأداء كونشيتا فورست، المعروفة بـ"المرأة الملتحية"، بينما أحرزت المركز الثالث في تصويت الجمهور الروسي وفازت في المسابقة بأغلبية الأصوات.
كذلك، في عام 2016، اعترضت روسيا على أغنية "1944" للفنانة الأوكرانية جمالا التي تحكي قصة تهجير سكان شبه جزيرة القرم تحت حكم ستالين، وهي قصة شخصية لعائلتها. وعلى الرغم من الاعتراضات، أكد اتحاد البث الأوروبي أن الأغنية لا تنتهك قواعد المسابقة الخاصة بالسياسة وتوجت "جمالا" باللقب ذلك العام.
شعارات فلسطين والغرامات المالية
رغم القواعد الصارمة المزعومة من قبل اتحاد البث الأوروبي التي تحاول الفصل بين الفن والسياسة، شهدت المسابقة احتجاجات سياسية كثيرة؛ ففي سنة 2019 قامت فرقة هاتاري الأيسلندية برفع العلم الفلسطيني خلال إعلان النتائج، ما أدى إلى فرض غرامة مالية على هيئة الإذاعة الأيسلندية من قبل اتحاد البث الأوروبي.
هذا التصرف يعكس التحديات التي يواجهها الفنانون في محاولة توصيل رسائل من خلال منصات فنية دولية في نفس الليلة، دخلت مادونا، المغنية البريطانية إلى قلب الجدل بأدائها الذي شمل ظهور راقصَين يرتديان الألوان الرمزية لكل من فلسطين والاحتلال الإسرائيلي، مما أثار موجة من النقاشات حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الأحداث الثقافية في تعزيز الحوار أو التوترات السياسية.
وفي مايو/أيار 2016، حظرت المسابقة رفع أعلام كل من فلسطين وكوسوفو، وإقليم الباسك بإسبانيا، وإقليم ناغورني قره باغ بأذربيجان، ودونيتسك في أوكرانيا، بالإضافة إلى إقليم ترانسنيستريا في مولدوفا وشبه جزيرة القرم، وشمال قبرص.
كما حظرت المنظمة خلال سنة 2024 رفع الأعلام الفلسطينية أو أية رموز تدعم القضية الفلسطينية خلال الفعاليات، مما أثار موجة من الجدل والانتقادات. وفي المقابل، سيُسمح برفع علم المثليين، وعلم الاحتلال الإسرائيلي المشارك في المسابقة.
ميشيل روفيلي، رئيسة الاتصالات في اتحاد الإذاعة الأوروبي، صرحت لوكالة الأنباء الأمريكية "أسوشيتد برس" بأنه سيُسمح لحاملي التذاكر فقط بإحضار أعلام الدول المشاركة أو أعلام المثلية. وأكدت أن الاتحاد يحتفظ بالحق في إزالة أية رموز أو لافتات تُستخدم لأغراض سياسية أو لاستغلال البرامج التلفزيونية.
فيما أعلن الناشطون المؤيدون للقضية الفلسطينية عن خطط لتنظيم مسيرات كبيرة في مالمو خلال فترة إقامة المسابقة، التي من المتوقع أن تجتذب أكثر من 100 ألف زائر. هذه الاحتجاجات ستكون على بعد عدة كيلومترات من مكان الحدث، مما يبرز التوتر والتحديات الأمنية المحتملة خلال الفعالية.
يوروفيجن والكوفية الفلسطينية
خلال الأمسية الافتتاحية لنصف نهائي مسابقة "يوروفيجن" المقامة في مالمو، السويد، ظهر الفنان السويدي الفلسطيني إريك سعادة على المسرح مرتدياً الكوفية الفلسطينية الملفوفة حول معصمه، بينما كان يؤدي أغنيته الشهيرة "بوبيلار".
هذا العمل الرمزي لقي ردود فعل متباينة، حيث وجه التلفزيون السويدي العام "إس تي في"، الذي ينظم الدورة الثامنة والستين من المسابقة، انتقادات لسعادة بسبب استخدامه المسابقة لإيصال رسائل سياسية.
هيئة البث الأوروبية عبّرت عن خيبة أملها إزاء ما قام به سعادة، مؤكدة أن جميع المشاركين تمت توعيتهم بقواعد المسابقة التي تحظر الإشارات السياسية. من جهته، أوضح سعادة عبر حسابه على إنستغرام أنه تلقى الكوفية كهدية من والده في طفولته، وأنه لم يتوقع أبداً أن تُعتبر رمزاً سياسياً، مشيراً إلى أن تسمية شيء يتعلق بتراثه على أنه رمز سياسي يُعتبر في نظره عنصرية.
فيما نال سعادة دعماً كبيراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي من داخل السويد وخارجها، حيث وصفه الكثيرون بالبطل لتحديه القيود المفروضة من قبل المنظمين، مما قد يؤثر على مستقبله المهني. هاكان روسوم، مدير يوروفيجن من النرويج، دافع عن حق سعادة في التعبير عن نفسه بطريقة سلمية، مشيراً إلى أهمية الحرية الشخصية في التعبير.
كوبر أولسن، صحفي أسترالي، أكد أن مسابقة يوروفيجن، رغم إعلانها عدم الانحياز السياسي، لا تخلو من السياسة. وقد أثار سعادة الجدل في وقت سابق بانتقاده لمشاركة الاحتلال الإسرائيلي في المسابقة وللحظر المفروض على رفع العلم الفلسطيني، واصفاً ذلك بأنه "مشين".