- ما المقصود بالسامية؟
- ماذا يعني مصطلح "معاداة السامية"؟ ومتى ظهر؟
- ما قصة الصهيونية؟
- بروتوكولات حكماء صهيون
- انتقاد إسرائيل و"معاداة السامية"؟
- تعريف فضفاض لمعاداة السامية
- صورة إسرائيل في الغرب
- ثم جاءت الحرب على غزة
- "كفى استهزاءً بالعقول"
- هل معاداة الصهيونية معاداة للسامية؟
- هل تنهي الحرب على غزة هذه السردية؟
"طلاب الجامعات الغربية الرافضون للحرب على غزة معادون للسامية"، بحسب السياسيين والإعلام في الولايات المتحدة والغرب عموماً، فما قصة هذا "الابتزاز" الذي توظفه إسرائيل منذ نشأتها؟ قبل أقل من 8 عقود؟
فعلى الرغم من قمع الشرطة للطلاب واعتقال المئات وتهديدات بالترحيل ضد الأجانب، إلا أن الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية ضد الحرب على غزة لا يبدو أنها تتراجع أو تخفت، وهو ما يطرح تساؤلات عميقة بشأن ما إذا كانت أداة الترهيب الأولى من جانب السلطات والإعلام هناك، أي وصم التظاهر ضد إسرائيل بأنه معاداة للسامية، قد بدأت تفقد حدتها.
نستعرض في هذا التقرير قصة معاداة السامية وتاريخها وكيفية توظيف إسرائيل لها لابتزاز العالم، وبخاصة الغرب، وتأثير الحرب على غزة على حدة هذه الأداة.
ما المقصود بالسامية؟
السامية يقصد بها سلالة سام بن نوح عليه السلام، والساميون مصطلح توراتي، حيث تقسم الأجناس البشرية إلى 3 أقسام؛ الساميون نسبة إلى سام بن نوح، وهي الشعوب التي عاشت في شبه الجزيرة العربية وبلاد الرافدين (العراق) ومنطقة الشام (سوريا ولبنان وفلسطين)، أي إن العرب، طبقاً لهذا التقسيم، "ساميون".
القسم الثاني هم الحاميون نسبة إلى "حام" بن نوح عليه السلام، ويقصد بهم الشعوب التي تعيش في القارة الأفريقية بلونهم وملامحهم المعروفة. والقسم الثالث هم اليافثيون نسبة إلى "يافث" بن نوح عليه السلام، وهم أصل الشعوب الهندوأوروبية الساكنة في منطقتي الشرق الأقصى وأجزاء من الشرق الأدنى القديم (بلاد فارس) والشعوب الأوروبية.
ماذا يعني مصطلح "معاداة السامية"؟ ومتى ظهر؟
معاداة السامية Anti-Semitism هو مفهوم أو مصطلح صاغته الحركة الصهيونية منذ نهاية القرن التاسع عشر للإشارة إلى أي حركة منظمة ضد اليهود أو أي شكل آخر من أشكال العداء لليهود. وتعني معاداة السامية كراهية اليهود بشكل عام، وهو عداء موجه إلى أشخاص يدينون باليهودية أو يعودون إلى أصول يهودية.
تاريخياً، كان الصحفي الألماني "وليام مار" أول من استخدم مصطلح معاداة السامية عام 1879، للإشارة إلى كراهية اليهود وكراهية الاتجاهات السياسية التحررية والعالمية والدولية المختلفة بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي غالباً ما كانت متعلقة باليهود، بما في ذلك الحقوق المدنية المتساوية والديمقراطية الدستورية والتجارة الحرة والاشتراكية والرأسمالية والنزعات السلمية.
ثم بدأت تظهر الكتابات المعادية لليهود في ألمانيا للتنديد بالسيادة اليهودية على الحياة الألمانية والدعوة إلى اتخاذ معايير لتصحيح هذا الوضع، وذلك بعدما لقيت هذه الحركة دفعة قوية على يد المستشار الألماني بسمارك.
على إثر ذلك، نشأت جماعة أو "جمعية معاداة السامية" بعدما تمكنت من جمع 255 ألف توقيع يطالب بطرد اليهود، كما قامت مظاهرات عدة في بعض المدن الألمانية مؤيدة لهذا الاتجاه. وكسب حزب معاداة السامية 15 مقعدًا عام 1893 في البرلمان (الرايخ) وانتشرت الحركة المعادية للسامية من ألمانيا إلى بقية البلاد الأوروبية، وتجددت في روسيا الاضطهادات الدينية عام 1881.
وتم تكوين جماعة معادية للسامية في النمسا عام 1895 وتكونت إدارات صريحة معادية للسامية في فيينا رأسها كارل لويجر، والأمر نفسه حدث في المجر ثم وصلت الظاهرة إلى فرنسا (رائدة التحرير اليهودية) وانتشرت الدعاية المضادة لليهود بواسطة بول بونتو وإدوارد درومونت مؤلف كتاب "فرنسا اليهودية".
وفي إنجلترا وإيطاليا والولايات المتحدة ظهرت أشكال معاداة السامية. وفي أول مؤتمر دولي لمعاداة السامية طولب بتطبيق قيود متعصبة ضد اليهود.
ما قصة الصهيونية؟
قبل مواصلة مسيرة مصطلح ومفهوم معاداة السامية وتطوره، من المهم إلقاء الضوء على مصطلح "الصهيونية Zionism". والصهيونية هي حركة سياسية ظهرت في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر وكان هدفها تأسيس دولة لليهود.
مؤسس هذه الحركة هو ثيودور هرتزل، الذي يعتبرونه مؤسس إسرائيل رغم وفاته قبل إعلان قيامها على جزء من أرض فلسطين بأكثر من أربعين عاماً. كان هرتزل يرى أن "معاداة السامية" هي مشكلة العالم الغربي وليست فقط مشكلة خاصة باليهود، وهو الرأي الذي عبر عنه بوضوح في "المؤتمر الصهيوني الأول"، الذي انعقد في بازل بسويسرا عام 1897.
فهرتزل، أول رئيس للحركة الصهيونية العالمية، كان يرى أيضاً أن العنصر اليهودي في أي مجتمع من المجتمعات عنصر مثير للاضطراب والتمرد داخل المجتمع الأوروبي، وهذا أمر يتعلق بطبيعة اليهودي، فهو بطبيعته لا يستطيع الحياة مع الشعوب الأخرى، وإن عاش فلكي يكون عنصراً مدمراً لقوة هذه الشعوب ومحرضاً على الثورة وقلب الأوضاع.
واستند هرتزل إلى هذا الرأي في مراسلاته مع ملوك وحكام أوروبا، حيث صور لهم أن بقاء اليهود داخل المجتمعات التي يحكمونها ليس في صالح هذه المجتمعات ولا في صالح حكوماتها، ولهذا يجب على هذه الحكومات تشجيع فكرة الصهيونية وإنشاء "الوطن اليهودي" حتى تتخلص هذه الحكومات من العناصر المناهضة لها.
والدولة اليهودية التي كان يدعو إليها هرتزل، والتي لم تكن فلسطين بالضرورة، بل وضع هو نفسه بدائل منها غينيا التي كانت مستعمرة بريطانية في ذلك الوقت أو الأرجنتين في أمريكا الجنوبية، سوف لا تضر باليهود الذين اندمجوا في مجتمعات أوروبية وغربية ويخشون على أموالهم وحقوقهم التي اكتسبوها في البلاد التي اندمجوا فيها. فنص رسائله، طمأنهم بأن إنشاء الدولة اليهودية سيكون في صالحهم حتى لو لم يهاجروا إليها، وذلك لأنهم سيجدون ملاذاً لهم في أي وقت يتعرضون فيه للخطر أو يفقدون فيه الأمان في البلاد التي يعيشون فيها.
وبعد تأسيس دولة إسرائيل، أصبح الأشخاص الذين يُعتبرون جزءاً من الحركة الصهيونية، يؤمنون بأهمية حماية وتطوير دولة إسرائيل باعتبارها الأمة اليهودية. لكن هناك اختلافات داخل الحركة الصهيونية؛ على سبيل المثال، يعتقد بعض الصهاينة أن لإسرائيل الحق في بعض المناطق الواقعة خارج أراضيها، بينما يعارض صهاينة آخرون هذا الاعتقاد. وليس بالضرورة أن يكون الشخص يهودياً كي يكون صهيونياً. الرئيس الأمريكي جو بايدن، على سبيل المثال، أعلن في ديسمبر/كانون الأول 2023 أنه "صهيوني. ليس ضرورياً أن تكون يهودياً حتى تصبح صهيونياً".
لكن هناك صهاينة ينتقدون سياسات الحكومة الإسرائيلية، مثل احتلال الضفة الغربية، وبناء المستوطنات، ومسار الجدار العازل (الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية وما حولها، وتقول إنه وسيلة أمان ضد المهاجمين الفلسطينيين، على الرغم من أن أنصار الفلسطينيين يرون هذا الجدار كأداة للاستيلاء على الأراضي).
لكن التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، والذي يمثل وجهة نظر الحكومات الإسرائيلية، يرى أن انتقاد إسرائيل يشكل معاداة للسامية، بينما من يرفضون هذه الفكرة، يقولون إن هذه الحجة تُستخدم كأداة من قِبل مؤيدي إسرائيل لإسكات الانتقادات ضد إسرائيل، من خلال تصوير هذه الانتقادات على أنها عنصرية.
بروتوكولات حكماء صهيون
بالعودة إلى معاداة السامية، نجد أن نشر بروتوكولات حكماء صهيون بعد الحرب العالمية الأولى قد أدى إلى دعم الاتجاه المعادي للسامية في أوروبا، إذ أظهرت البروتوكولات رغبة يهودية في السيادة العالمية، ما أدى إلى إحياء الدعاية المعادية للسامية. وقامت ثورات عنيفة ضد اليهود في المجر عام 1920. وفي الولايات المتحدة دعم هنري فورد الحركة المعادية لليهود معنوياً ومالياً. وفي ألمانيا جعل أدولف هتلر معاداة السامية أحد المبادئ الأساسية لبرنامج حزبه النازي.
مفهوم كراهية اليهود هو إذاً مفهوم غربي ويشير إلى ظاهرة غربية، ولم يكن له أي وجود في الشرق وبخاصة في الشرق السامي (العربي القديم) ولا في الشرق الإسلامي، وذلك لأن كراهية اليهود في الغرب نتيجة لمشكلة طورها الغرب وسماها بالمشكلة اليهودية، بينما لم يمثل اليهود مشكلة بالنسبة للشعوب الشرقية. وبالعودة إلى المصادر التاريخية اليهودية نجد أن مصطلحي "المشكلة اليهودية" و"العداء للسامية" لا يوجدان في قاموس العلاقات بين اليهود والشعوب الشرقية، ولكنهما سائدان في قاموس العلاقات بين اليهود والشعوب الغربية.
وعلى مدى عقود طويلة، وبخاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة، جرت محاولات متعددة لوضع تعريف دولي متعارف عليه لمعاداة السامية. وفي عام 2005، وضعت الخارجية الأمريكية تعريفاً لمعاداة السامية ينص على أنه "بينما لا يوجد تعريف متعارف عليه أو مقبول عالمياً، إلا أنه بشكل عام هناك فهم واضح لما يشمله المصطلح".
وفي تقرير معاداة السامية العالمي لعام 2005، اعتمدت الخارجية الأمريكية التعريف التالي: "معاداة السامية تعني كراهية اليهود -كأفراد أو كجماعة- وهي الكراهية التي لا سبب لها سوى اعتناق الفرد للديانة اليهودية و/أو العرق اليهودي".
انتقاد إسرائيل و"معاداة السامية"؟
إذا كان هذا هو السياق التاريخي الذي ظهر فيه مصطلح معاداة السامية، فإن تطور المصطلح وتوظيفه كأداة لابتزاز العالم وإسكات المنتقدين والمعارضين لإسرائيل كدولة احتلال قد شهد مسيرة ممتدة ومتصاعدة منذ عام 1948 وحتى اليوم.
فالعرب، الذين هم ساميون بالتعريف، أصبحوا أكبر المعادين للسامية، لأنهم يرفضون إسرائيل ككيان محتل لا يتوقف عن شن الحروب والاستيلاء على الأراضي العربية، ليس فقط في فلسطين ولكن خارجها في سوريا والأردن ومصر. فرفض الاحتلال ومقاومته أصبحت "معاداة للسامية".
لكن هذه الصورة، التي تبدو تفاصيلها أكثر وضوحاً للجماهير العربية بطبيعة الحال، كانت تتعرض للتحريف من جانب الحكومات الغربية -في أوروبا والولايات المتحدة- ويرسخ الإعلام هناك ذلك التحريف في أذهان الشعوب. ففلسطين أصبحت "أرض الميعاد"، وإسرائيل باتت "واحة الديمقراطية" في الشرق الأوسط، والفلسطينيون الذين يقاومون الاحتلال أصبحوا "إرهابيين" ومعادين للسامية في الوجدان الغربي.
وأصبح هناك تقرير سنوي يصدر عن جهات متعددة، منها وزارة الخارجية الأمريكية، يرصد حالات "معاداة السامية" حول العالم. وأصبحت أية انتقادات توجه لإسرائيل أو جيش الاحتلال أو السياسات القمعية والاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة "الضفة الغربية والقدس الشرقية"، أو في الجولان السورية المحتلة أيضاً، يندرج تحت "معاداة السامية".
تعريف فضفاض لمعاداة السامية
استفادت إسرائيل، ولا تزال، من هذا الخلط المتعمد والتشويه الممنهج لمفهوم معاداة السامية الأصلي، أي كراهية اليهود كأفراد أو كجماعة، والذي كان أصله ما يتعرض له اليهود في المجتمعات الغربية -أوروبا وأمريكا- أيما استفادة. فأي شخصية عامة سياسية أو فنية أو اقتصادية توجه انتقادات لسياسات الاحتلال ضد الفلسطينيين، تواجه على الفور بسيف "معاداة السامية".
وربما تكون أبرز استفادة مباشرة لإسرائيل من إشهار هذا السيف هي تقارير "معاداة السامية" التي تصدر بفعل التأثير المباشر للوبيات الضغط الإسرائيلية، ثم استخدام تلك التقارير لتشجيع الهجرة إلى الدولة العبرية.
فطبقاً لأرقام الوكالة اليهودية، هناك علاقة واضحة بين نسبة الهجرة إلى إسرائيل ونسبة "النشاطات العنيفة أو غير العنيفة" التي يتم تصنيفها على أنها مؤشر على نزعة معاداة السامية.
وفي عام 2015، هاجر نحو 10 آلاف يهودي من أوروبا الغربية إلى إسرائيل، نحو 8 آلاف منهم من فرنسا، وهي السنة التي تصفها المراجع اليهودية بأنها الأسوأ في تنامي نزعة معاداة السامية، خصوصاً في فرنسا التي تضم ثالث أكبر تجمع يهودي في العالم، بحسب ورقة بحثية لمركز الزيتونة للدراسات والأبحاث. وفي السنوات من 2000 إلى 2021، كان هناك ارتباط مباشر بين متوسط عدد الأحداث التي تنمُّ عن "معاداة للسامية" وبين عدد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل.
وتذكر الورقة البحثية التي أعدها الأستاذ الدكتور وليد عبد الحي بشكل تفصيلي موثق بالمراجع والأدلة كيف استغلت إسرائيل سيف "معاداة السامية" لخدمة مصالحها الخاصة، سواء عن طريق تشجيع هجرة اليهود إليها بأي وسيلة كانت، ولو حتى التفجيرات وإلحاق الأذى بيهود غير راغبين في الهجرة، أو عن طريق التموضع كحامي حمى اليهود حول العالم.
ميل غيبسون، ذلك النجم الهوليوودي الحاصل على جائزة الأوسكار كأحسن مخرج عن فيلمه "القلب الشجاع" والذي لعب أيضاً دور البطولة فيه، يعد نموذجاً لأحد ضحايا سيف "معاداة السامية". كان غيبسون قد أدلى بتصريحات تنتقد إسرائيل خلال الحرب على لبنان عام 2006، فأصبح على الفور "معادياً للسامية" ولا يذكر اسمه في أي خبر فني تقريباً، في الإعلام الغربي، إلا ووصف بأنه "معروف بمعاداته للسامية".
لكن قبل مطلع القرن الواحد والعشرين، كانت مجرد مناقشة الروايات اليهودية بشأن المحرقة أو الهولوكوست أيام النازية كفيلة بتغريم وسجن من يتجرأ على تلك المناقشة، وهناك قائمة طويلة تضم سياسيين ومفكرين وكُتّاباً وأساتذة جامعة ومؤرخين غربيين وأمريكيين يشار إليهم من جانب إسرائيل وعرابيها على أنهم "منكرو المحرقة".
كما نجحت إسرائيل في جعل تعريف معاداة السامية، الذي يعتمده التحالف الدولي لذكرى المحرقة (هيئة تضم 31 دولة يهيمن عليها اللوبي الإسرائيلي)، هو التعريف المعتمد لدى الاتحاد الأوروبي، منذ عام 2015، وها هي الولايات المتحدة في طريقها لإقراره بعد أن صوت عليه مجلس النواب.
ففي 6 ديسمبر/كانون الأول 2018 صدّق مجلس العدالة والشؤون الداخلية للاتحاد الأوروبي، دون نقاش، على إعلان حول مكافحة معاداة السامية وحماية الطوائف اليهودية في أوروبا. ودعت المادة 2 من هذا الإعلان الدول الأعضاء إلى اعتماد تعريف معاداة السامية التي صدّق عليها التحالف الدولي لذكرى المحرقة، فما هو هذا التعريف؟
وترجع القصة إلى عام 2015، في أعقاب العدوان الإسرائيلي على سكان قطاع غزة الذي أدانه الرأي العام الدولي بصفة واسعة. فقد أعاد اللوبي الإسرائيلي إطلاق هجوم يروج لتعريفٍ فضفاض لمعاداة السامية، يشمل أي انتقاد لإسرائيل: "معاداة السامية هي نوع من النظرة لليهود والتي يمكن أن يعبر عنها على أنها كراهية لليهود".
صورة إسرائيل في الغرب
لكن السنوات الأخيرة بدأت تشهد توجهات جديدة فيما يتعلق بمفهوم "معاداة السامية"، وهي توجهات رافضة في معظمها لربط المصطلح بانتقاد إسرائيل وسياساتها بحق الفلسطينيين، حسب ما رصدت تقارير واستطلاعات رأي تجريها مؤسسات غربية بشكل دوري.
ففي استطلاع رأي أجراه مركز "بو" لاستطلاعات الرأي العام، عام 2022، ظهر أن 55% من الأمريكيين يدعمون إسرائيل مقابل 41% يحملون آراءً سلبية تجاهها. لكن تفاصيل الاستطلاع توضح وجود اختلافات عمرية لافتة. فمن بين الفئة العمرية 18-29 عاماً، كان 41% فقط يرون إسرائيل بصورة إيجابية، و69% من الفئة العمرية 65 عاماً وأكثر يعتنقون الرأي نفسه. كما ظهر أن 71% من الجمهوريين يدعمون إسرائيل مقابل 44% فقط من الديمقراطيين.
وفي مارس/آذار 2023، وجد استطلاع لمعهد غالوب أن 49% من الناخبين الديمقراطيين يتعاطفون مع الفلسطينيين مقابل 38% فقط يؤيدون إسرائيل.
لكن الفجوة بين الأجيال فيما يتعلق بالآراء الخاصة بإسرائيل والفلسطينيين واضحة في جميع الاستطلاعات التي أجريت خلال الأعوام الثلاثة الماضية. فجيل الألفية (مواليد الفترة من 1980 إلى 2000)، يميلون إلى الفلسطينيين أكثر من إسرائيل بنسبة 2%، أما مواليد الفترة من 1946 حتى 1964، فهم يؤيدون إسرائيل بنسبة تزيد عن 46%.
ثم جاءت الحرب على غزة
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، سعت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل إلى إعادة إشهار سيف "معاداة السامية" في وجه من يجرؤ على انتقاد عدوانها البربري على قطاع غزة، زاعمة أنها في "حالة دفاع عن النفس"، وسارع زعماء الغرب، بقيادة جو بايدن، إلى دعم كل المزاعم الإسرائيلية. ومن وراء ذلك كله، عملت آلة الإعلام الغربي بكل طاقتها للترويج لأكاذيب قادة دولة الاحتلال بزعامة بنيامين نتنياهو وتصوير المقاومة الفلسطينية، بل وجميع أهل قطاع غزة على أنهم "وحوش بشرية".
لكن النتائج جاءت مختلفة تماماً عما كان يتوقعه قادة إسرائيل وداعموهم الغربيون. فعلى المستوى الشعبي، وبخاصة في الجامعات الأمريكية والأوروبية، ظهرت حركات قوية ومؤثرة تنتقد إسرائيل وتندد بجرائمها وتدعم حقوق الفلسطينيين المشروعة في إقامة دولتهم المستقلة. وظهر بشكل جلي أن هناك "فجوة أجيال في الآراء من إسرائيل" رصدها معهد بروكينغز في واشنطن. هذه الفجوة، التي تظهر ميلاً لتأييد إسرائيل بين الفئات العمرية الأكبر مقابل نظرة سلبية تماماً تجاهها بين جيلي الألفية وجيل زد (مواليد أواخر القرن الماضي وبدايات القرن الحادي والعشرين)، كانت موجودة بالفعل منذ ما قبل الحرب على غزة، لكنها تعمقت بشكل واضح منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
فكيف سعت إدارة جو بايدن لقمع الاحتجاجات الداعمة لوقف الحرب على غزة والمنددة بإسرائيل؟ وصفتها بأنها "معاداة للسامية" ورفعت مؤسسات وأعضاء في الكونغرس تلك الاتهامات ضد المشاركين في الاحتجاجات، وهذا هو التوجه العام في الإعلام الأمريكي بطبيعة الحال.
ووصل الأمر إلى حد تمرير تشريع في مجلس النواب، برئاسة الجمهوري مايك جونسون، تشريعاً يوسع مفهوم "معاداة السامية" في المجال الأكاديمي ويحمي إسرائيل من أي احتجاجات طلابية، لكن المعارضين للتشريع ومنظمات حقوقية اعتبروه "تهديداً لحرية الرأي وتوسيعاً غير مبرر لمفهوم معاداة السامية"، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
"الخطاب المنتقد لإسرائيل لا يمثل تمييزاً غير قانوني (معاداة للسامية)، وهذا التشريع فضفاض أكثر مما ينبغي"، حسب ما قال النائب الديمقراطي جيري نادلر في كلمته أمام مجلس النواب قبل التصويت.
لكن الخلط بين التنديد بما يرتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي من فظائع بحق المدنيين في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وبين "معاداة السامية" هو ما يتبناه أغلب السياسيين الأمريكيين، وخاصة الجمهوريين، في عام انتخابي شرس، وذلك سعياً لإرضاء اللوبي اليهودي المؤثر، بحسب تقرير لمجلة بوليتيكو الأمريكية.
فقد قدمت الاحتجاجات المتصاعدة في الجامعات الأمريكية ضد الحرب الإسرائيلية على غزة "أداة للجمهوريين كي يوجهوا نيران أسلحتهم (السياسية) نحو خصمين رئيسيين: الأكاديمية الليبرالية التي توجد بها مشاعر قوية داعمة لفلسطين، وزعماء الديمقراطيين الذين يرفضون حتى الآن الرضوخ ونشر قوات الحرس الوطني في الجامعات"، بحسب تقرير بوليتيكو.
من جانبه، لم يفوّت المستفيد الأكبر من استمرار الحرب على غزة الفرصة. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انضم هو الآخر لمن يتباكون على "معاداة السامية"، وانتقد تلك المظاهرات الطلابية في أمريكا، واصفاً المشاركين فيها بـ"الإرهاب"، ومطالباً بـ"سحقها" على الفور، بحسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
"كفى استهزاءً بالعقول"
لكن السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز لم يفوّت الفرصة هو الآخر، ووجّه نقداً لاذعاً لادعاءات نتنياهو بأن المظاهرات الداعمة لغزة وأهلها في الجامعات الأمريكية "معاداة للسامية".
ففي منشور على منصة إكس، كتب ساندرز: "كلا، يا سيد نتنياهو، إن تسليط الضوء على مجازر حكومتك المتطرفة التي قتلت أكثر من 34 ألف فلسطيني، 70% منهم من النساء والأطفال، وجرحت أكثر من 77 ألفاً، خلال فترة قصيرة لا تتجاوز 6 أشهر، ليس معاداة للسامية أو تأييداً لحماس".
"لا تستهزئ بذكاء الشعب الأمريكي عبر مساعيك لصرف انتباهنا عن السياسات العسكرية الفاشلة وغير الأخلاقية لحكومتك المتطرفة والعنصرية. لا تستخدم معاداة السامية لصرف الانتباه عن الاتهامات التي تواجهها من المحاكم الإسرائيلية (في قضايا فساد). محاسبتك على أفعالك ليست معادية للسامية"، بحسب منشور ساندرز.
وما عبّر عنه ساندرز في منشوره عبّر عنه كثيرون أيضاً من المشاركين في تلك الاحتجاجات، معتبرين أنه لا يوجد في مطالبهم ما يمثل معاداة للسامية أو كراهية اليهود، وفي الوقت نفسه لا تعتبر خرقاً لقواعد حرية التعبير، بحسب قادة الأسر والجمعيات الطلابية في أعرق الجامعات الأمريكية.
فرانشيسكا ريشيو أكرمان، طالبة الدكتوراه في جامعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كانت قد أكدت في مقابلة مع وكالة الأناضول التركية على بذل جهود خاصة في المؤسسات التعليمية الأمريكية لمواجهة منع حرية التعبير فيما يتعلق بدعم الفلسطينيين أو توجيه الانتقادات لإسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول: "هناك جهد متعمد لإسكات الانتقادات الموجهة لإسرائيل تحت اسم خطاب الكراهية من خلال الخلط بينه وبين معاداة السامية".
هل معاداة الصهيونية معاداة للسامية؟
ترى اللجنة اليهودية الأمريكية أنه حتى تعريف "معاداة السامية"، ذلك التعريف الفضفاض للغاية والذي أقره التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، يشير إلى أن الانتقاد المشروع لممارسات إسرائيل كدولة لا يمكن إدراجه ضمن "معاداة للسامية"، وفي الوقت نفسه تقول اللجنة إنه عندما يدعو المعادون للصهيونية إلى نهاية الدولة اليهودية، فإن هذا "لم يعد انتقاداً للسياسة، بل معاداة للسامية"، فماذا يعني ذلك؟
الطلاب المحتجون في الجامعات الغربية عموماً، والجامعات الأمريكية خصوصاً، لهم مطالب ثلاثة محددة وهي: "وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وأن توقف الجامعات الاستثمارات والتعامل مع إسرائيل، وأن يحصل الفلسطينيون على حقهم المشروع في إقامة دولتهم المستقلة"، أي أنه لا توجد مطالب بتفكيك أو إنهاء وجود دولة إسرائيل.
لكن المشرعين والسياسيين الأمريكيين، وأغلبيتهم داعمة لإسرائيل، يقولون إن شعارات يرفعها بعض المحتجين، أبرزها "من النهر إلى البحر"، تعني ضمنياً إنهاء وجود دولة إسرائيل، وهو ما يمثل معاداة للسامية ومعاداة للصهيونية، كيف؟ الصهيونية تعني إقامة وطن لليهود ومن ثم فإن معاداة الصهيونية تعني الدعوة لتفكيك هذا الوطن. من هذا المنطلق، يرى من يتبنون هذه النظرية أنه "بالطبع معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية".
جوناثان غرينبلات، الرئيس التنفيذي لرابطة مكافحة التشهير، التي تقوم بتعريف ومراقبة معاداة السامية منذ عام 1913 قال لصحيفة نيويورك تايمز: "ليس هناك نقاش، إن معاداة الصهيونية ترتكز على مفهوم واحد، وهو إنكار الحقوق لشعب واحد".
هل تنهي الحرب على غزة هذه السردية؟
لكن واقع الأمر هنا هو أن مثل هذا الطرح يعني أن "معارضة إقامة دولة يهودية على أرض عربية، أو معارضة توسعها، واعتبار ذلك معاداة للسامية، هو بمثابة إسكات لتطلعات الفلسطينيين الوطنية، وإسكات المعارضة السياسية، وتشويه سمعة 75 عاماً من معاناتهم".
هذا ما عبرت عنه ليلى حداد، الناشطة والكاتبة الفلسطينية، لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، تعليقاً على مشروع القانون الذي أقره مجلس النواب الأمريكي في هذا السياق، واصفة إياه بأنه "محاولة مروعة لمعاقبة وإسكات الأصوات المنتقدة للسياسات الإسرائيلية".
وفي السياق نفسه، أثارت مشاهد قمع الشرطة العنيف لطلاب الجامعات الأمريكية المعارضين للحرب الإسرائيلية على غزة في تساؤلات حول الأساليب العنيفة المستخدمة لقمع الاحتجاجات التي اتسعت رقعتها وزاد عدد المشاركين فيها منذ اعتقال أكثر من 100 طالب في جامعة كولومبيا يوم 18 أبريل/نيسان الماضي.
وهنا من المهم التوقف عند موقف "رابطة مكافحة التشهير" اليهودية غير الحكومية والتى تعنى بالدفاع عن الحقوق المدنية، وتتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، وتدعم إسرائيل وتؤيد حل الدولتين الذي يضمن حقوق الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه تعمل على مكافحة معاداة السامية في كافة أنحاء العالم.
ترى الرابطة أن إسرائيل "دولة مثل أي دولة أخرى، لديها بعض السياسات الجيدة والبعض الآخر ليس جيداً. غالباً ما تنتقد الصحافة الإسرائيلية سياسات حكومتها وسياسيها. وكذلك العديد من المواطنين الإسرائيليين"، لكنها تؤكد أنه "ليس علينا أن نتفق مع انتقادات السياسة الإسرائيلية. لكننا لا نستطيع أن نقول إن ذلك يتجاوز حدود الخطاب المعقول، ومن المؤكد أنه ليس معاداة للسامية".
وبالتالي فإن انتقاد المجازر الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي راح ضحيتها حتى الآن أكثر من 100 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، والمطالبة بمعاقبة جيش الاحتلال وحكومته على تلك "الإبادة الجماعية" لا يمكن أن يكون معاداة للسامية أو حتى معاداة للصهيونية (بمعنى وجود دولة لليهود)، بحسب منظمات المجتمع المدني الغربية.
رابطة مكافحة التشهير نفسها تؤكد أن النشاط المعارض لإسرائيل يمكن أن "يعتبر معاداة للسامية عندما يتضمن تحميل جميع اليهود المسؤولية عن تصرفات إسرائيل، أو حرمان إسرائيل من حق الوجود كدولة يهودية وعضو متساو في المجتمع العالمي"، بحسب تقرير لموقع قناة الحرة.
وألقت ورقة بحثية نشرها مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات الضوء على تأثير الحرب الإسرائيلية على غزة في الرأي العام الشعبي حول العالم، وفي الغرب خصوصاً، وكيف أن سردية إسرائيل التي اعتادت أن تبرر بها جرائمها لم تعد تصمد أمام الحقائق التي لم يعد نشرها حكراً على مؤسسات إعلامية تقليدية تتحكم فيها الحكومات.
الخلاصة هنا هي أن استغلال إسرائيل لسيف معاداة السامية الذي اعتادت أن تشهره في وجه أي منتقد لممارساتها الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين والمنطقة العربية، يبدو وكأنه في طريقه لأن يصبح سيفاً من خشب بعد أن ساهمت عوامل متعددة في ازدياد الوعي بين الشعوب الغربية، وبخاصة الأجيال الأصغر سناً، بممارسات الاحتلال وسردياته لتغطية تلك الممارسات.