يبدو أن روسيا تلعب على الجانبين في الحرب الأهلية السودانية، حيث تبرم سلسلة من الصفقات مع القوات المسلحة السودانية بينما تواصل مجموعة فاغنر الروسية للمزتزقة دعم قوات الدعم السريع التي تحارب الجيش السوداني، وسط تقارير عن سعي موسكو لإحياء فكرة القاعدة الروسية بالسودان.
إذ تتحرك روسيا لتطوير وتأمين مصالحها الاستراتيجية في السودان، بما في ذلك تقديم أسلحة للقوات المسلحة السودانية مع استمرارها في إمداد عدو الجيش السوداني المتمثل في قوات الدعم السريع شبه العسكرية، بالأسلحة وشراء الذهب منه من خلال مجموعة فاغنر.
روسيا تستغل غياب أمريكا وتريد مواجهة نفوذ أوكرانيا
وقال محللون لموقع Middle East Eye البريطاني إن روسيا تعمل على ملء فراغ النفوذ الذي خلفته الولايات المتحدة، كما تسعى لمواجهة الوجود العسكري الأوكراني في السودان، حيث يوجد ما بين 100 إلى 300 جندي أوكراني على الأرض، ويعمل معظمهم ليلاً إلى جانب القوات المسلحة السودانية.
وفي الوقت نفسه، قالت مصادر في المعارضة المسلحة في جمهورية أفريقيا الوسطى للموقع البريطاني إن مجموعة فاغنر العسكرية الروسية، لا تزال تعمل هناك، ما يسهل توريد الأسلحة من الإمارات العربية المتحدة إلى قوات الدعم السريع. وقالت المصادر إنهم أسروا مقاتلين من فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى الأسبوع الماضي.
وحافظت روسيا على علاقاتها مع قوات الدعم السريع والجيش منذ ما قبل بدء الحرب في السودان، والآن، بعد مرور أكثر من عام، خلفت الحرب عشرات الآلاف من القتلى وشردت ثمانية ملايين آخرين، لتصبح أكبر كارثة إنسانية في العالم.
في نهاية شهر أبريل/نيسان الماضي، وصل السفير الأوكراني لدى الخرطوم والمقيم حالياً في القاهرة، ميكولا نارهوني، إلى بورتسودان حيث التقى عدداً من كبار المسؤولين في الحكومة السودانية، وأشرف بنفسه على توزيع آلاف الأطنان من المساعدات الغذائية للمتضررين من الحرب التي قدمتها بلاده إلى السودان.
ولم تكد تمر أيام قلائل، حتى سارع مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، بزيارة المدينة الساحلية، والتقى أيضاً بكبار المسؤولين الحكوميين، وأعلن اعترافه بشرعية مجلس السيادة الذي يسيطر عليه الجيش، كما أبدى استعداد بلاده للتعاون مع السودان في كافة المجالات.
ووصف جلال حرشاوي، الزميل المشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة لدراسات الدفاع والأمن ببريطانيا (روسي)، زيارة بوجدانوف بأنها "حدث مهم".
وتوافق خلود خير، المحللة السودانية بمؤسسة شركة كونفلوينس الاستشارية، على أن روسيا "تتصدى لأوكرانيا" وتملأ الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة.
وقبل أسابيع من الحرب الأهلية السودانية بين الجيش وميليشيات قوات الدعم السريع، ً زار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الخرطوم، حيث عقد اجتماعات منفصلة مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وزعيم قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، القائد السابق للجنجويد المعروف باسم حميدتي.
وأكدت مصادر متعددة أن عناصر فاغنر شاركوا في توريد الأسلحة من الإمارات إلى قوات الدعم السريع طوال فترة الحرب، على الرغم من أن الحكومة السودانية المتحالفة مع الجيش قالت علناً إن الأمر لم يعد كذلك.
وزعمت مجموعة فاغنر أنها لم تعد تعمل داخل السودان، لكن مصدراً دبلوماسياً وشهود عيان في الخرطوم ودارفور قالوا إنه لا يزال هناك مرتزقة روس هناك.
روسيا تحول تركيزها من الدعم السريع للجيش السوداني
مع ذلك، هناك دلائل على أن روسيا تركز الآن بشكل أكبر على علاقتها مع البرهان والحكومة المتحالفة مع الجيش، حسب الموقع البريطاني.
وفي حديثه باللغة العربية في بورتسودان في 28 أبريل/نيسان، كان نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف واضحاً بأن مجلس السيادة السوداني الذي يسيطر عليه الجيش هو الذي يمثل الشعب السوداني حقاً.
والتقى المسؤول الروسي، الذي رأس وفداً يضم ضباطاً عسكريين، بالبرهان في المدينة المطلة على البحر الأحمر، حيث تعمل الحكومة التي يسيطر عليها الجيش.
وأشاد بوجدانوف بـ "التجربة الغنية" التي اكتسبتها روسيا والسودان معاً في مشاريع التعدين، وقال إن زيارته يمكن أن تؤدي إلى زيادة التعاون وأعرب عن دعمه "للشرعية القائمة في البلاد التي يمثلها مجلس السيادة".
من جانبه، أشاد مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة، بـ"التاريخ العريق والتعاون المشترك في مختلف المجالات بين البلدين، وشدد على ضرورة تعزيز التعاون والتنسيق المشترك بين السودان وروسيا في المنابر الدولية وخاصة الأمم المتحدة".
وها هي تبيع وقوداً وأسلحة للحكومة السودانية
لم تكن زيارة بوجدانوف مفاجئة. وفقاً لمسؤولين متحالفين مع الجيش السوداني تحدثا إلى موقع "Middle East Eye" بشرط عدم الكشف عن هويتهما، كان رئيس المخابرات السوداني أحمد مفضل في روسيا للاجتماع مع نظرائه قبل أسبوع من زيارة بوغدانوف للسودان.
وقالت المصادر، في وقت سابق من أبريل/نيسان 2024، إن سفير روسيا لدى السودان، أندريه تشيرنوفول، اتصل بالبرهان وعرض عليه تزويد القوات المسلحة السودانية بالأسلحة.
وذكرت صحيفة سودان تريبيون أنه خلال المناقشات بين وفد بوجدانوف والمسؤولين المتحالفين مع الجيش، عرض الروس على القوات المسلحة السودانية "مساعدة عسكرية نوعية غير مقيدة". ومن الممكن أن يشمل هذا العرض "خبرة متخصصة وربما وجوداَ روسياً في السودان".
وفي 4 مايو/أيار 2024، هبطت طائرة نقل مسجلة في روسيا في بورتسودان قادمة من دبي.
وقامت الطائرة التابعة لشركة Abakan Air الروسية بعدة رحلات من دبي إلى أكتاو في كازاخستان في الأيام التي سبقت رحلة بورتسودان، وفقاً لبيانات لخدمة Flightradar 24 السويدية لمتابعة حركة الطيران.
في بداية أبريل/نيسان، بدأت روسيا في تصدير الديزل إلى السودان، من خلال ناقلتي وقود، بافو روك وكونجا، حيث قامتا بتسليم ما مجموعه حوالي 70 ألف طن متري من الديزل إلى بورتسودان في 2 و5 أبريل، وفقًا لبيانات مجموعة بورصة لندن للمعلومات المالية " LSEG".
وهناك ناقلة نفط أخرى، هي مارابيلا صن، راسية حاليًا في بورتسودان، وفقاً لموقع مارين ترافيك. وتسعى روسيا جاهدة لإيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها المكررة منذ فرض الحظر الكامل الذي فرضه الاتحاد الأوروبي عليها في فبراير/شباط 2023.
بينما ما زالت تتاجر بالذهب مع حميدتي
وللشركات الروسية مصالح طويلة الأمد في السودان، لا سيما في مجال تعدين الذهب، حيث قال دبلوماسيون غربيون في الخرطوم سابقًا إن مجموعة فاغنر كانت تعمل مع عائلة دقلو لشحن الذهب خارج دارفور.
ويمتلك حميدتي وعائلته شركة لتعدين الذهب تعمل على الأراضي التي استولى عليها في دارفور، غرب السودان، في عام 2017. وقد أقر حميدتي بامتلاكه لمناجم الذهب حيث تحدث صراحة عن أنه ليس "الرجل الأول الذي يمتلك مناجم الذهب"، وتوفر إيرادات الذهب له ولقوات الدعم السريع المصدر الرئيسي للسلطة والثروة.
وفي حديثه لموقع " Middle East Eye" في أبريل من العام الماضي، قال مسؤول أمريكي مقيم في شمال أفريقيا إنه تم تهريب ما يقدر بنحو 32.7 طناً من الذهب من السودان على 16 رحلة طيران مستأجرة بقيمة تقدر بـ 1.9 مليار دولار بين فبراير/شباط 2022 وفبراير/شباط 2023.
وقال المسؤول إن الشحنات كانت تُنقل في بعض الأحيان جواً إلى قاعدة جوية تسيطر عليها روسيا في سوريا، وكانت دائماً تحمل علامة البسكويت.
هل ما زال الكرملين مصراً على إحياء مشروع القاعدة الروسية بالسودان؟
وفي بورتسودان، وفقاً للمصادر المتحالفة مع الجيشين الروسي والسوداني، ناقش الوفد الروسي أيضاً الوجود العسكري الأوكراني في السودان واحتمال إنشاء قاعدة بحرية روسية على ساحل البحر الأحمر، وهو ما تم الاتفاق عليه لأول مرة في أيام الرئيس المخلوع عمر البشير.
وتأمل روسيا في إنشاء قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر السوداني بالقرب من بورتسودان.
في فبراير/شباط 2023، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر صحفي في الخرطوم إن اتفاقاً لتحقيق ذلك تم التوقيع عليه في وقت سابق بين البلدين وهو قيد التنفيذ. فقط في انتظار تقنينه.
وقال كاميرون هدسون، المحلل السابق في وكالة المخابرات المركزية وزميل برنامج مجموعة الأزمات الدولية CSIS في أفريقيا، لموقع "Middle East Eye" : ترى روسيا فرصة في أي مكان لا تعمل فيه الولايات المتحدة. وتذكر أنهم لم يتخلوا عن طموحهم في إنشاء ميناء على البحر الأحمر. أعتقد أن كل ما يفعلونه في السودان يخدم هذا الهدف.
وقال جلال حرشاوي، الزميل المشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة لدراسات الدفاع والأمن (روسي) لموقع Middle East Eye: "لقد أبرمت روسيا اتفاقاً طويل الأمد فيما يتعلق بميناء بورتسودان، وهو أصل استراتيجي لم تتح لعدو البرهان، الجنرال حميدتي، أي فرصة للاستيلاء عليه".
الصعوبات أمام حميدتي والدعم الإيراني للجيش من أسباب تغيير روسيا لبوصلتها بالسودان
"حتى الآن، دعمت روسيا حميدتي، لكنها أيضاً تدرك تماماً الصعوبات الحالية التي يواجهها حميدتي، خاصة بالنظر إلى دعم إيران المتزايد للبرهان هذا العام".
وظهرت تفاصيل الدعم الإيراني للقوات المسلحة السودانية في الشهرين الماضيين. ووفقاً لموقع Africa Confidential، تعمل الطائرات المسيرة الإيرانية، ولا سيما طائرات مهاجر 4 ومهاجر 6 وأبابيل، منذ يناير/كانون الثاني 2024 من قاعدة وادي صيدنا الجوية التابعة للقوات المسلحة السودانية، شمال الخرطوم.
هذا يمنح موسكو فرصة ذهبية. وقال حرشاوي إن الروس قد يستفيدون بشكل كبير من خفض المساعدات العسكرية لقوات الدعم السريع التابعة لحميدتي، مقابل التوصل إلى اتفاق شامل مع البرهان.
"روسيا ليست متزوجة بأي حال من الأحوال من الإمارات العربية المتحدة، التي تكثف جهودها بشأن دعم حميدتي في الوقت الحالي: حسب وصف الموقع البريطاني في إشارة إلى إمكانية حدوث افتراق بين البلدين في تحالفاتهما بالسودان.
وقد نشرت تقارير عدة عن الطرق التي تستخدمها الإمارات للحفاظ على إمدادات قوات الدعم السريع. ولا تزال هذه الطرق قائمة، وقد أشارت الولايات المتحدة مؤخراً، ولأول مرة علنًا، إلى أنها تحدثت إلى المسؤولين الإماراتيين حول دعمهم للقوات شبه العسكرية.
إذ قالت ليندا توماس جرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، في 29 أبريل/نيسان: "نحن نعلم أن كلا الجانبين يتلقيان الدعم، سواء بالأسلحة أو أشكال الدعم الأخرى، لدعم جهودهما لمواصلة تدمير السودان.
وأضافت: " لقد تواصلنا مع الأطراف بشأن هذا الأمر، بما في ذلك مع زملائنا من الإمارات العربية المتحدة".
روسيا تراهن على أنه سيكون لديها حصان فائز بالسباق بغض النظر عن النتيجة
وبحسب موقع قناة الشرق السعودية، فإن وفداً أمنياً أميركياً وصل إلى بورتسودان، الأحد، لعقد جولة مباحثات مشتركة مع مسؤولي الدولة المتحالفين مع الجيش.
وقالت مصادر قريبة من الجيش السوداني لموقع Middle East Eye ، إن محادثات وقف إطلاق النار التي توسطت فيها الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية من المقرر أن تبدأ مرة أخرى في مدينة جدة الساحلية السعودية في 15 مايو/آيار الجاري.
وقالت المحللة السودانية خلود خير: "تلعب روسيا والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل على كلا الجانبين، ولا يختارون مرشحين مفضلين بعينهم. (في إشارة لاستعدادهم لتغيير تحالفاتهم)".
وقالت: "بالنسبة للروس التوقيت الحالي مهم بالنظر للوجود الأوكراني، لكن السياسة الروسية كانت دائماً هي نفسها، وهي أن الكرملين يدعم البرهان ومجموعة فاغنر، التي تعد بالطبع ذراع السياسة الخارجية الروسية، تدعم قوات الدعم السريع".
"وبهذه الطريقة يكون لديهم حصان فائز في السباق بغض النظر عن النتيجة".