منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، اهتز الشرق الأوسط باحتجاجات حاشدة. تظاهر المصريون -وإن كان بصعوبة بالغة- تضامناً مع الفلسطينيين الذين تعرضوا لحرب إبادة جماعية، ونزل العراقيون والمغاربة والتونسيون واليمنيون إلى الشوارع بأعداد هائلة. وفي الوقت نفسه، كسر الأردنيون الخطوط الحمراء التي طال أمدها من خلال حصار السفارة الإسرائيلية لأسابيع في عمّان ومحاولة اقتحامها. فيما تخشى دول أخرى مثل السعودية المضي قدماً في مشاريع التطبيع العلنية مع إسرائيل. لكن بالنسبة لواشنطن، فإن هذا الغضب الشعبي المتواصل منذ أشهر لا يهم حقاً. فالزعماء العرب أكثر من يتقن في العالم سياسة تجاهل شعوبهم، كما تقول مجلة Foreign Affairs الأمريكية، ولهم سجل حافل في ذلك.
ورغم أن الاحتجاجات كانت كبيرة وخطيرة في بعض الأحيان، إلا أنه كان من الممكن السيطرة عليها. وشجع الرئيس المصري السابق حسني مبارك وغيره من الزعماء منذ فترة طويلة الاحتجاجات التضامنية مع الفلسطينيين، حيث كانت وجهة نظره أنها تسمح لهذه الشعوب بالتنفيس عن غضبها، وتوجيهه نحو عدو أجنبي مثل "إسرائيل"، بدلاً من توجيهه نحو الفساد الداخلي الفقر وانعدام الكفاءة. وبمرور الوقت، أو هكذا تقول الحجة، سوف ينتهي القتال في غزة، وسوف يعود المحتجون الغاضبون إلى ديارهم، وسوف يستمر قادتهم في ملاحقة مصالحهم الشخصية، وهو النشاط الذي يتفوقون فيه، كما تقول "فورين أفيرز".
تجاهل الأنظمة العربية وأمريكا للغضب الشعبي على حرب غزة سيعرضها للخطر
لدى صناع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة أيضاً تاريخ طويل من تجاهل الرأي العام في الشرق الأوسط، أو ما يسمى بالشارع العربي. ففي نهاية المطاف، إذا كان الزعماء العرب المستبدون هم من يتخذون القرارات، فليس من الضروري إذن أن نفكر في ما يصرخ به الناشطون الغاضبون أو ما يقوله المواطنون العاديون لمنظمي استطلاعات الرأي أو وسائل الإعلام.
وبما أنه لا توجد ديمقراطيات في الشرق الأوسط، فلا داعي للاهتمام بما يفكر فيه أي شخص خارج القصور. وعلى الرغم من كل حديثها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت واشنطن دائماً أكثر ارتياحاً في التعامل مع "المستبدين الواقعيين" أكثر من التعامل مع الجماهير التي تعتبرها حشوداً "متطرفة وغير عقلانية". ونادراً ما تتوقف للتفكير في الكيفية التي قد يساهم بها هذا في سجلها الكئيب من إخفاقات السياسات.
تتعزز رغبة الولايات المتحدة في تجاهل المخاوف الشعبية بذكرى العام 2003، حين كان الرأي العام العربي معارضاً بشدة للغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، ولكن أغلب زعماء المنطقة تعاونوا مع الغزو ولم يتخذ أي منهم خطوات لمعارضته رغم أنه بُني على كذبات مثل امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل.
وعلى الرغم من عقود من الاحتجاجات الجماهيرية المتكررة ضد الإجراءات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، حافظت الأردن ومصر على معاهدات السلام مع إسرائيل، حتى إن مصر شاركت بنشاط في حصار غزة ولا تزال الأردن تمد إسرائيل بجسر بري من الطعام والشراب والمنتجات الأخرى. والواقع أن الرضا عن الذات في الولايات المتحدة تزايد بالفعل مع فشل تفجر الغضب الشعبي المتوقع ــ على سبيل المثال- بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أو قصف اليمن. اهتزت قناعة واشنطن لفترة وجيزة بسبب الانتفاضات العربية عام 2011، لكنها عادت بكامل قوتها مع استعادة الأنظمة الاستبدادية سيطرتها وقدرتها على التنكيل المضاعف في السنوات التالية.
ويبدو أن هذا هو ما تتوقعه الولايات المتحدة وأغلب المحللين السياسيين هذه المرة أيضاً. وعندما ينتهي القصف أخيراً، ستعود الحشود إلى منازلهم وتجد أشياء أخرى تثير غضبهم، ويمكن أن تعود السياسة الإقليمية إلى طبيعتها. لكن هذه الافتراضات تعكس سوء فهم جوهري لكيفية أهمية الرأي العام في الشرق الأوسط، فضلاً عن قراءة خاطئة عميقة لما تغير حقاً منذ انتفاضات عام 2011 حيث أن استمرار تجاهل الأنظمة العربية وأمريكا للغضب الشعبي المتصاعد اليوم سيعرضها للخطر. كما تقول المجلة الأمريكية.
لماذا تفضل أمريكا المستبدين العرب وتتجاهل صرخات شعوبهم؟
يستخدم صناع السياسات مصطلح "الشارع العربي" لتقليص الرأي العام الإقليمي إلى مجرد صخب جماهيري غير عقلاني ومعادٍ وعاطفي قد يتم استرضاؤه أو قمعه ولكنه يفتقر إلى تفضيلات أو أفكار سياسية متماسكة. ولهذا التعبير جذور عميقة في الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي، وقد تبنته الولايات المتحدة عندما دخلت الحرب الباردة، واعتقدت أن التعليم والرأسمالية قادران على تحويل الشرق الأوسط إلى صورة الغرب. وقد عززت هذه الأفكار سياسة واشنطن في التعاون مع الطغاة العرب الذين يستطيعون السيطرة على شعوبهم.
وكان هذا يناسب الزعماء العرب، الذين كان بوسعهم أن يصرفوا الضغوط الغربية بشأن قضايا مثل إسرائيل أو التحول الديمقراطي من خلال الإشارة إلى التهديد المتمثل في الانتفاضات الشعبية والبعبع الإسلامي الذي ينتظرهم في الأجنحة ليأخذوا مكانهم.
قبل عام 2011، حدثت ذروة وعي الشارع العربي خلال ما يسمى بالحرب الباردة العربية في الخمسينيات، عندما حقق القادة الشعبويون العرب نجاحاً كبيراً في تعبئة الجماهير ضد الحلفاء الغربيين المحافظين باسم الوحدة العربية ودعم العرب والفلسطينيين. إن مشهد آلاف المتظاهرين الغاضبين وهم يردون على خطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر الإذاعية من خلال الاندلاع في الشوارع في بلدان بما في ذلك الأردن، ترك انطباعاً قوياً لدى صناع القرار الغربيين. وخلصت واشنطن، على وجه الخصوص، إلى أن الشارع العربي كان خطيراً؛ مما خلق فرصاً للسوفييت.
إذاً، لم يكن من المفترض أن يتم التفاهم مع هذه الشعوب، بل يجب السيطرة عليها بالقوة. وبعد فترة طويلة من انتهاء الحرب الباردة ، استمر هذا التصور، على الرغم من أنه يعتمد على سوء فهم أساسي للسياسة العربية ويستمر في دفع سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فضلاً عن العديد من التحليلات السياسية للمنطقة.
لقد تغيرت فكرة الشارع العربي إلى حد ما في التسعينيات والعقد اللاحق. تبلورت القنوات الفضائية، وخاصة قناة الجزيرة، في هذه العقود وشكلت الرأي العام العربي الوعي. وقد أدى ظهور استطلاعات الرأي العام المنهجية والعلمية في تسعينيات القرن العشرين إلى توفير قدر كبير من الوضوح بشأن الفروق الوطنية، والمواقف المتغيرة استجابة للأحداث، والتقييمات المتطورة للظروف السياسية.
وسمح ظهور وسائل التواصل الاجتماعي لمجموعة واسعة من الأصوات العربية بكسر سيطرة وسائل الإعلام وتحطيم الصور النمطية من خلال تحليلاتها المباشرة ومشاركتها التفاعلية مع الجماهير. وحطمت انتفاضات عام 2011 الشعور العام بالرضا عن استقرار الحكام المستبدين في المنطقة، وأظهرت أن أصوات الناس بحاجة إلى الاستماع إليها.
المستبدون يهتزون لكنهم ينجون
لا تزال ذكرى انتفاضات عام 2011 تخيم على كل حسابات استقرار أنظمة الشرق الأوسط اليوم. وحملت نتائج تلك الأحداث الثورية دروساً مختلطة. أظهر الانتشار السريع للاحتجاجات التي تهدد النظام من تونس إلى جميع أنحاء المنطقة تقريباً أن الاستقرار المفترض للأنظمة الاستبدادية العربية كان في الغالب أسطورة.
وللحظة وجيزة، لم يعد من المنطقي أن تتجاهل واشنطن خفايا الرأي العام العربي أو تذعن لتأكيدات الحكام العرب المنهكين. ومن الواضح أن الانتفاضات لم تكن مجرد ثوران لشارع عربي طائش. بل إن الثوريين الشباب الذين استحوذوا على روح العصر أعربوا عن انتقادات مدروسة وحاسمة للحكام المستبدين الذين تحدوهم، وحتى الإسلاميين في وسطهم تحدثوا بلغة الحرية والديمقراطية. في البداية، تسابقت الحكومات الغربية للتعامل مع هؤلاء القادة الشباب المثيرين للإعجاب وحاولت دعم جهودهم لتحقيق التحولات الديمقراطية وأنظمة سياسية أكثر انفتاحاً.
لكن مثل هذه الدروس سرعان ما تم نسيانها مع استعادة الأنظمة العربية السيطرة من خلال الانقلابات العسكرية، والهندسة السياسية، والقمع واسع النطاق. لقد ساعد المستبدون في جميع أنحاء المنطقة المستبدين الآخرين على استعادة قوتهم، ووقف الغرب ببساطة موقف المتفرج. على سبيل المثال، لم تتصرف الولايات المتحدة عندما دعمت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودول الخليج الأخرى القمع الشرس الذي مارسته البحرين لاحتجاجاتها في عام 2011، وضخّت الدعم المالي والسياسي للانقلاب العسكري المصري عام 2013.
جلبت استعادة الاستبداد التي أعقبت ذلك مستوى من القمع تجاوز بكثير ما كان موجوداً قبل عام 2011، حيث قامت الأنظمة في جميع أنحاء المنطقة بسحق وإسكات المجتمع المدني، خوفاً من عودة المعارضة. وساعدت المراقبة الرقمية في تنفيذ هذه الإجراءات القمعية، مما أعطى الأنظمة فهماً دقيقاً بشكل غير مسبوق لآراء مواطنيها وإمكانية ظهور حركات المعارضة مستقبلاً.
وسرعان ما أدت استعادة الاستبداد إلى عودة نموذج قديم للسياسة الخارجية الغربية يقوم على التعاون مع النخب الاستبدادية وتجاهل آراء الجماهير العربية. ولا يمكن رؤية هذا الأمر بشكل أوضح من سياسة الولايات المتحدة في التعامل مع مشكلة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. حيث ظلت واشنطن تتجاهل الرأي العام الفلسطيني والعربي ببساطة وشجعت على "اتفاقيات إبراهيم"، التي طبعت العلاقات بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة، دون حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وشملت الاتفاقيات أيضاً السودان، وكذلك المغرب، بعد أن وافقت واشنطن على الاعتراف بسيادتها على "الصحراء الغربية".
وليس من قبيل الصدفة أن هجوم حماس على المستوطنات الإسرائيلية في 7 أكتوبر/تشرين الأول تزامن مع ضغوط إدارة بايدن الكاملة من أجل التوصل إلى اتفاق تطبيع سعودي في خضم استفزازات غير مسبوقة من قبل المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية. كانت هناك علامات كثيرة على الاستياء العربي من التطبيع وتحذيرات لا حصر لها من انفجار وشيك في غزة، لكن واشنطن تجاهلتها باعتبار أن حلفاءها المستبدين يمكنهم السيطرة عليها.
الانفجار القادم أصبح وشيكاً وواشنطن تتجاهل ذلك
يهتم القادة العرب بشيء واحد فقط: البقاء في السلطة. وهذا لا يعني فقط منع الاحتجاجات الجماهيرية التي تهدد النظام بشكل واضح، بل يعني أيضاً الانتباه إلى مصادر السخط المحتملة وقمعها. ومع معاناة كل دولة عربية تقريباً خارج منطقة الخليج من مشاكل اقتصادية حادة، يتعين على الأنظمة أن تكون أكثر حذراً في الاستجابة لقضايا مثل الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، كما تقول "فورين أفيرز".
ومن ناحية أخرى، يركز الزعماء العرب أيضاً على اللعبة السياسية الإقليمية ويتنافسون بشراسة لوضع أنفسهم باعتبارهم المدافعين الأكثر فعالية عن هوياتهم ومصالحهم المشتركة. ولهذا السبب فإنهم غالباً ما يلبسون حتى التحركات الأكثر سخرية وأنانية من قبلهم، مظهر خدمة مصالح الفلسطينيين أو الدفاع عن الشرف العربي. حتى إن التصرفات الأخيرة التي اتخذتها دولة الإمارات، مثل عندما حاولت تبرير اتفاقيات إبراهيم بالادعاء بأنها منعت خطط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لضم الضفة الغربية، هي مثال واضح على ذلك.
واليوم، من الواضح بشكل صارخ أنه كان من الخطأ أن تفترض الولايات المتحدة أنها تستطيع تجاهل الرأي العام العربي بشأن معاملة الفلسطينيين. والواقع أن العرب لم يفقدوا اهتمامهم بالقضية الفلسطينية التي أكدت اليوم على مركزيتها. ويجد كل نظام تقريباً الآن جماهيره معبأة إلى حد غير عادي بسبب حملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد غزة وبرنامج التهجير والاحتلال الجديد.
إن المستوى الناتج عن ذلك من التعبئة والغضب الشعبي يتجاوز الغضب الذي اندلع في عام 2003 إزاء الغزو الأمريكي للعراق، ومن الواضح أنه يؤثر على سلوك الأنظمة في المنطقة. وفي الواقع، يمكن رؤية درجة وقوة التعبئة الشعبية ليس فقط في وسائل الإعلام والحشود في الشوارع، ولكن أيضاً في الانتقادات غير المعهودة لإسرائيل والولايات المتحدة التي تعبر عنها الأنظمة التي تحتاج إلى الحصول على هذا الحق من أجل البقاء أو حفظ ماء الوجه. وحتى مصر، الشريك الوثيق للولايات المتحدة، هددت بتجميد اتفاقيات كامب ديفيد إذا غزت إسرائيل رفح أو طردت سكان غزة إلى سيناء، كما تقول فورين أفيرز.
ومجدداً، عادت وسائل التواصل الاجتماعي، ليس تويتر أو فيسبوك وإنستغرام الخاضعين للرقابة الشديدة، بقدر ما عادت التطبيقات الأحدث مثل تيك توك، وواتساب، وتلغرام. إن الصور ومقاطع الفيديو الصادرة من غزة تطغى على الدعاية التي تقدمها إسرائيل والولايات المتحدة وتتجاوز بسهولة التغطية التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية للدفاع عن إسرائيل. الناس يرون المجازر والدمار، ويرون الناس الذين يشبهونهم يواجهون كل يوم مشاهد مأساة لا تصدق. وهم يعرفون الضحايا بشكل مباشر. إنهم لا يحتاجون إلى وسائل الإعلام لفهم رسائل الواتساب من سكان غزة المذعورين أو لمشاهدة مقاطع الفيديو المرعبة المنتشرة على نطاق واسع على تلغرام.
ويمكن رؤية مدى هذا الغضب الشعبي في فك ارتباط عدد كبير من العاملين الشباب في المنظمات غير الحكومية والناشطين عن المشاريع والشبكات المدعومة من الولايات المتحدة والتي تم بناؤها على مدى عقود من الدبلوماسية العامة.
ولا يزال البيت الأبيض يتصرف وكأن لا شيء من هذا يهم حقاً. سوف تبقى الأنظمة الاستبدادية العربية على قيد الحياة، وسوف يتلاشى الغضب أو يُعاد توجيهه نحو قضايا أخرى، وفي غضون أشهر قليلة، تستطيع واشنطن العودة إلى العمل المهم المتمثل في التطبيع الإسرائيلي السعودي. هذه هي الطريقة التي عملت بها الأمور تقليدياً.
لكن هذه المرة قد تكون مختلفة. إن الفشل الذريع في غزة، في لحظة تحول القوى العالمية وتغيير حسابات القادة الإقليميين، يظهر مدى ضآلة ما تعلمته واشنطن من سجلها الطويل من الإخفاقات السياسية. إن طبيعة ودرجة الغضب الشعبي، وتراجع التفوق الأمريكي وانهيار شرعيتها، وإعطاء الأولوية للأنظمة العربية لبقائها الداخلي، فضلاً عن المنافسة الإقليمية، تشير إلى أن النظام الإقليمي الجديد يجب أن يخشى الرأي العام. وإذا استمرت واشنطن في تجاهل صوت الشارع، فسوف تقضي على خططها لما بعد انتهاء الحرب في غزة حول إسرائيل ودول المنطقة.