تعيش إدارة جو بايدن حالة من التخبط والفوضى الاستراتيجية بشأن كيفية التعامل مع إسرائيل وعدوانها المستمر على قطاع غزة، فما الذي يجعل الرئيس الأمريكي غير قادر على اتخاذ قرار حاسم تجاه الحرب؟
"إسرائيل تلتزم بالقانون الإنساني الدولي"، تقول وزارة الخارجية الأمريكية، لكن بعدها بساعات يصرح وزير الدفاع لويد أوستن بأن"غزة تعيش كارثة إنسانية والوضع يزداد سوءاً..".
سفيرة أمريكا لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، تصف قرار مجلس الأمن بوقف الحرب على غزة بأنه "غير ملزم"، وبعدها يخرج المتحدث باسم غرينفيلد نفسها، نيت إيفانز، ليقول للصحفيين إن "جميع قرارات مجلس الأمن لها وزن كبير ويجب تنفيذها".
تصريحات متناقضة بشأن غزة
بدأت الأهداف المتناقضة لإدارة بايدن بشأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تظهر بشكل أكثر وضوحاً في الأسابيع الأخيرة مع سعي البيت الأبيض للحفاظ على سياسة تهدف إلى التأثير على أفعال إسرائيل ومنع حدوث مجاعة في غزة، لكن في الوقت نفسه لا تريد إدارة بايدن أن تستخدم أوراق الضغط الأهم لديها، مثل تقييد إمداد إسرائيل بالأسلحة، حتى لا تتعرض لارتدادات داخلية في عام الانتخابات، حسبما قال محللون لصحيفة الغارديان البريطانية.
"الاستراتيجية في حالة من الفوضى"، بحسب جيريمي كونينديك، المسؤول السابق في إدارة بايدن والرئيس الحالي للاجئين الدوليين وهي جماعة إغاثة، مضيفاً في منشور له على موقع إكس أن "الولايات المتحدة تقول كلاماً كبيراً بشأن محاربة المجاعة التي تسببت فيها قنابلها وغطاؤها الدبلوماسي. ليس هكذا تتم مكافحة مجاعة. هذا تردد بينما الناس يتضورون جوعاً".
كان لويد أوستن، وزير الدفاع، قد أقر بمدى عمق وإلحاح الأزمة الإنسانية في غزة عند لقائه مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت في البنتاغون يوم الثلاثاء 26 مارس/آذار.
وزير الدفاع الأمريكي قال إن حماية المدنيين الفلسطينيين هي "ضرورة أخلاقية واستراتيجية في نفس الوقت"، وأضاف خلال اجتماعه مع غالانت، أن عدد الضحايا المدنيين "مرتفع للغاية" في قطاع غزة.
كما شدد أوستن على أن "غزة تعيش كارثة إنسانية والوضع يزداد سوءاً، ونحن بحاجة ماسة إلى زيادة المساعدات لمنع المجاعة. فتح ممر إنساني مؤقت عن طريق البحر سيساعدنا في تحقيق ذلك، لكن الأهم هو زيادة توزيع المساعدات عن طريق البر".
لكن في اليوم نفسه، أصر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر على أن الولايات المتحدة حالياً ليس لديها سبب للتشكيك في التأكيدات الإسرائيلية أن تل أبيب تلتزم بالقانون الإنساني في غزة: "لم نجد أنهم (الإسرائيليين) ينتهكون القانون الإنساني الدولي سواء فيما يتعلق بالحرب وطريقة تنفيذهم للعمليات العسكرية أو ما يتعلق بتوفير المساعدات الإنسانية".
إمداد إسرائيل بالأسلحة
يعتبر التقييم الأمريكي أساسياً بموجب مذكرة الأمن القومي التي أصدرها جو بايدن في فبراير/شباط الماضي، والتي تعرف باسم NSM-20، وتتطلب "تأكيدات مكتوبة ذات مصداقية ويعتمد عليها" من الدول التي تتسلم أسلحة أمريكية بأن تلك الدول سوف تستخدم "أدوات الدفاع هذه بالتوافق مع القانون الإنساني الدولي".
وأحد هذه الشروط المنصوص عليها في مذكرة الأمن القومي المشار إليها ينص على أن "الدولة المتلقية لأسلحة أمريكية سوف تقوم بتسهيل ولا تمنع بشكل متعمد أو تحظر أو تعرقل بأي طريقة أخرى مباشرة كانت أو غير مباشرة نقل أو تسليم المساعدات الإنسانية الأمريكية والجهود الدولية التي تدعمها الحكومة الأمريكية لتوفير المساعدات الإنسانية".
وفي حالة اعتبار وزير الخارجية أو وزير الدفاع أن هناك ما يدعو للتشكيك في "التزام الدولة المعنية"، يمكن تعليق إمدادات الأسلحة.
في هذا السياق، أثارت تصريحات ميلر بشأن التأكيدات الإسرائيلية غضباً عارماً من جانب منظمات المساعدات وحتى من جانب بعض الأعضاء التقدميين في الكونغرس الأمريكي.
"الادعاء بأن إسرائيل لا تنتهك القانون الدولي أو لا تمنع المساعدات الإنسانية الأمريكية هو أمر عبثي تماماً"، بحسب السيناتور بيرني ساندرز (زعيم التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي)، مضيفاً أن "موقف وزارة الخارجية يعتبر سخرية واستهزاء بالقانون الأمريكي والضمانات التي قدمتها (الخارجية والبيت الأبيض) للكونغرس".
ميلر نفسه قال إن هناك "عملية جارية" لتقييم شرعية العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، في إشارة إلى آلية المراجعة التي وضعتها إدارة بايدن في سبتمبر/أيلول الماضي والتي يطلق عليها "دليل الرد على حادث ضرر مدني": "حتى الآن، لم نتوصل لنتيجة مفادها أن إسرائيل تنتهك القانون الإنساني الدولي"، بحسب ميلر الذي أضاف أن عملية المراجعة متواصلة وأن التقرير الكامل عن الالتزام بموجب المذكرة الرئاسية لن يكون جاهزاً حتى الثامن من مايو/أيار المقبل.
تناقض "مذكرة بايدن" مع ما تفعله إسرائيل
السيناتور الديمقراطي كريس فان هولين قال إن هناك غموضاً بشأن موقف وزارة الخارجية، لكن إذا كانوا يقولون إن إسرائيل حالياً ملتزمة بشروط مذكرة بايدن NSM-20، "فإن موقفهم منفصل تماماً عن الواقع العملي على الأرض، خصوصاً فيما يتعلق بمعايير وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة وتوزيعها داخل القطاع".
الرسالة نفسها عبَّر عنها ديلان ميليامز، نائب رئيس الشؤون الحكومية في مركز السياسة الدولية: "إن التعامل مع التأكيدات الإسرائيلية على أنها كافية في حد ذاتها رغم الجوع المتفاقم والخسائر البشرية المرتفعة للغاية في صفوف المدنيين والتهديدات المتكررة بشن هجوم على رفح، على عكس الرغبات الأمريكية، كلها أفعال تجعل من المذكرة الرئاسية NSM-20 مجرد مؤشر فارغ، وذلك في التطبيق الأول لتلك المذكرة. كما أن ذلك يعتبر ضوءاً أخضر لإسرائيل كي تواصل استخدام أسلحتنا في أعمال تتناقض مع قانوننا (الأمريكي) ومصالحنا وقيمنا".
بايدن ومأزق الانتخابات وسمعة أمريكا
هذه الفوضى الاستراتيجية كما يصفها الخبراء تعكس المأزق الذي يواجهه جو بايدن فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ أكثر من 170 يوماً. فمن ناحية، يواجه الرئيس العجوز عاماً انتخابياً شرساً يسعى خلاله إلى الفوز بفترة ثانية في البيت الأبيض، وبالتالي يحتاج بشدة إلى دعم اللوبي اليهودي، إضافة إلى الموقف الاستراتيجي الأمريكي من دعم إسرائيل بشكل مطلق.
لكن من ناحية أخرى، يواجه بايدن جملة من المعطيات في الاتجاه المعاكس أيضاً، منها وجود جالية مسلمة وعربية مؤثرة في ولاية مثل ميشيغان على سبيل المثال، وهناك أيضاً التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي وهو تيار معارض لاستمرار الدعم غير المشروط لإسرائيل، إضافة إلى التغيير الواضح في المزاج العام في الولايات المتحدة من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حسبما يظهر من استطلاعات الرأي.
إضافة إلى ذلك، تسببت الحرب الإسرائيلية على غزة والدعم المطلق من إدارة بايدن في إلحاق أضرار كبيرة بسمعة الولايات المتحدة عالميا من جهة، وبمصالحها أيضاً من جهة أخرى، سواء في الشرق الأوسط أو حول العالم.
فمن ناحية السمعة الدولية، تقول جماعات لحقوق الإنسان إن ادعاء الولايات المتحدة بأن قرار وقف إطلاق النار في غزة غير ملزم قد يخلق مشاكل في المستقبل، إذ قال لويس شاربونو، مدير شؤون الأمم المتحدة في منظمة هيومن رايتس ووتش، لرويترز إن الموقف الأمريكي "يخاطر بجعل الدول أقل احتمالاً للامتثال للقرارات، وهذا يشمل القرارات التي تريد الولايات المتحدة تنفيذها".
وقالت شيرين تادرس، مسؤولة شؤون الأمم المتحدة بمنظمة العفو الدولية، إن ميثاق الأمم المتحدة واضح بشأن الطبيعة الملزمة لقرارات مجلس الأمن، وأضافت: "لا أذكر أنني سمعت الولايات المتحدة تشكك في تلك الطبيعة الملزمة عندما يتعلق الأمر بالقرارات الأخرى المعتمدة بشأن سوريا على سبيل المثال. ما فعلته الولايات المتحدة لم يجعل تنفيذ القرار الذي كان من شأنه أن ينقذ حياة الإسرائيليين والفلسطينيين أكثر صعوبة فحسب، بل إنه قوَّض النظام الدولي برمته أيضاً".
المصالح في خطر، و"القيم" أيضاً
كانت الولايات المتحدة قد تخلت عن نهجها المعتاد في توفير الحماية لحليفتها إسرائيل في الأمم المتحدة عندما امتنعت عن التصويت (الإثنين 25 مارس/آذار) بدلاً من استخدام حق النقض (الفيتو)، لكن إدارة بايدن وصفت نص القرار الموجز بأنه "غير ملزم"، في محاولة لطمأنة إسرائيل.
لكن هذا التوصيف أثار رد فعل فورياً من أعضاء مجلس الأمن الآخرين ودول أعضاء في الأمم المتحدة وجماعات لحقوق الإنسان وأثار تساؤلات حول كيفية تأثيره على جهود واشنطن لمعالجة الأزمات العالمية الأخرى في الأمم المتحدة.
فبموجب الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة "يوافق أعضاء الأمم المتحدة على قبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها". وقد استشهدت العديد من الدول الأعضاء بهذا – المادة 25 – في الرد على التعليقات الأمريكية.
وقال فرحان حق، نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة، أمس الإثنين: "جميع قرارات مجلس الأمن هي قانون دولي. لذلك إلى هذا الحد، فهي ملزمة مثل القانون الدولي". وأضاف: "في نهاية المطاف، التنفيذ هو مسألة إرادة دولية".
السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة نيكولا دي ريفيير قال أمام اجتماع لمجلس الأمن بشأن الشرق الأوسط، الثلاثاء: "يجب أن يطبق هذا القرار من قِبَل الجميع، كما تنص على ذلك المادة 25 من الميثاق".
وخلال الاجتماع نفسه، تساءل سفير روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا عما إذا كان وصف واشنطن للقرار بأنه غير ملزم يعني أن الولايات المتحدة "لم تعد تعتبر نفسها ملزمة بأحكام ميثاق الأمم المتحدة". وقال: "إذا كان الأمر كذلك، فلا فائدة من مناقشاتنا في القاعة على الإطلاق. فقد قال أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن صراحة إنه لا يقبل ميثاق منظمتنا".
لكن سمعة أمريكا على المسرح الدولي وقدرتها على التأثير في ملفات أخرى ليست الضرر الوحيد الذي تتسبب فيه الفوضى في استراتيجية إدارة بايدن، بل أصبحت المصالح الأمريكية نفسها تواجه الضرر، بحسب تحليل لمجلة فورين بوليسي الأمريكية عنوانه "إسرائيل عبء استراتيجي على كاهل الولايات المتحدة"، راصداً كيف أن واشنطن لا تستفيد من العلاقة الخاصة مع تل أبيب، بل إن تلك العلاقة تعرض المصالح الأمريكية حول العالم للخطر.
كيف يستفيد نتنياهو من ذلك كله؟
لكن على الرغم من الدعم العسكري المستمر والغطاء الدبلوماسي الذي لا يزال قوياً رغم عدم استخدام الفيتو للمرة الرابعة، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو غير راضٍ عن جو بايدن.
فقد أصاب قرار نتنياهو عدم إرسال وفد رفيع المستوى إلى واشنطن لمناقشة اجتياح رفح ومفاوضات صفقة تبادل الأسرى البيتَ الأبيض بالحيرة والدهشة، حسبما صرح جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، وتسبب قرار نتنياهو في مزيد من "الشروخ في العلاقات مع بايدن"، بحسب وصف شبكة CNN الأمريكية.
الوفد الإسرائيلي الذي كان منتظراً في واشنطن كان سيناقش مع مسؤولي إدارة بايدن جملة من الخيارات البديلة كي لا يشن جيش الاحتلال عملية برية في رفح جنوب قطاع غزة، حيث يوجد أكثر من 1.5 مليون نازح من القطاع، وذلك لأن بايدن وإدارته يخشون من وقوع كارثة إنسانية في رفح حال أقدمت إسرائيل على اجتياح المدينة.
وبالتالي فإن قرار نتنياهو عدم إرسال الوفد يمثل ورقة ضغط على بايدن وتلويح بالإقدام على اجتياح رفح رغم الاعتراضات الأمريكية، ويدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي أن الرئيس الأمريكي يواجه انتخابات شرسة ولن يقدم على معاقبة إسرائيل في كل الأحوال، بحسب ما قاله محللون للشبكة الأمريكية.
لكنَّ كثيراً من الخبراء يرون أن بايدن هو من وضع نفسه في هذا المأزق بتبنيه الروايات الإسرائيلية منذ بداية الحرب، رغم وجود نتنياهو على رأس أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً ورغم عدم استقبال بايدن نفسه لنتنياهو في البيت الأبيض منذ عودة الأخير إلى سدة الحكم أواخر عام 2022، وبالتالي فإن بايدن بدا منذ البداية متردداً وضعيفاً وغير قادر على اتخاذ قرارات حاسمة تجاه نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، وعندما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن من تحدٍّ إسرائيلي سافر للولايات المتحدة، لا يزال الرئيس الأمريكي متردداً بين متطلبات الفوز في الانتخابات والأضرار المحدقة بأمريكا سمعةً ومصالح.