يدفع نفوذ الصين المتنامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دول المنطقة إلى إعادة النظر في اعتمادها على الدولار الأمريكي. إذ إن اعتماد هذه الدول على الدولار يحدُّ من سيادتها الاقتصادية ويُضعفها أمام تقلبات الاقتصاد الأمريكي. أما في حالة البلدان التي تعاني ضائقة الديون، فيؤدي ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض، وارتفاع تكلفة مدفوعات الديون، وتضخم أسعار الواردات، ما يحد من قدرتها على موازنة النمو الاقتصادي المحدود.
هل ستطرد الصين الدولار الأمريكي من الشرق الأوسط؟
يقول تقرير لمجلة National Interest الأمريكية، إنه اعتباراً من عام 2021، ارتفع الدين الخارجي المستحق لدائني القطاع الخاص- الذي غالباً ما يكون مقوَّماً بالدولار الأمريكي- إلى 42% في المنطقة العربية.
وفي الوقت نفسه، يتحول التركيز الاقتصادي لدول الخليج نحو الشرق. وتشير التقديرات إلى أن تجارة دول مجلس التعاون الخليجي مع الدول الآسيوية الناشئة- ومنها الصين- ستتجاوز التجارة مع الغرب بحلول عام 2026.
تتزايد جاذبية عملة الصين "اليوان" في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ يستخدم العراق اليوان في التجارة مع الصين، بسبب نقص الدولار. واستُخدم اليوان أيضاً في صفقة تبادل عملات بقيمة 6.93 مليار دولار بين الصين والسعودية. وأضافت إسرائيل اليوان إلى احتياطياتها؛ لتقليل الاعتماد على الدولار واليورو.
هذا ويتمتع اليوان بسعر صرف مستقر، ويزداد تقبُّله في السوق. وأدت أسعار الفائدة المنخفضة في الصين إلى ارتفاع الطلب على الديون المقومة باليوان. وانخفضت أسعار الفائدة على اليوان إلى مستويات قياسية، متجاوزاً اليورو، ليصبح ثاني أكبر عملة في تمويل التجارة العالمية.
مصر أول دولة بالشرق الأوسط تصدر سندات مقومة باليوان
ومصر، التي تتجاوز احتياجاتها المالية ثلث ناتجها المحلي الإجمالي، معرضة لخطر تقلبات أسعار الفائدة وزيادة أعباء الديون. ولتخفيف تكاليف الديون، أصدرت مصر سندات مقومة باليوان، لتصبح أول دولة في المنطقة تفعل ذلك.
وساهم بنك الشعب الصينيُّ بدور رئيسي في تدويل اليوان بإنشائه خطوط مقايضة عملات، وبنوك مقاصة للرنمينبي، ونظام دفع بين البنوك عبر الحدود باليوان. وتدعم هذه التدابير استخدام اليوان في التجارة والتمويل ودعم السيولة الطارئة.
وقد أفادت الإمارات، باعتبارها الشريك التجاري الرئيسي للصين في دول مجلس التعاون الخليجي، من زيادة استخدام اليوان، وعمدت مؤخراً إلى تمديد اتفاقية مبادلة عملات بقيمة 4.9 مليار دولار مع الصين. وفضلاً عن ذلك، قدمت شبكة خطوط المقايضة العالمية التي أنشأها بنك الشعب الصينيُّ تمويل إنقاذ بقيمة 170 مليار دولار عام 2022، وكانت مصر من ضمن المستفيدين منه.
مركزية الشرق الأوسط بالنسبة للصين
تتلخص أهمية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وإمكانية التجارة في الطاقة باليوان بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي من العوامل الرئيسية التي تزيد من جاذبية اليوان. والتجارة بين الخليج والصين تعادل تقريباً التجارة المشتركة لدول الخليج مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
وارتفعت المعاملات المقومة باليوان لدول مبادرة الحزام والطريق بنسبة 90% على أساس سنوي. وعلاوة على ذلك، أدى انضمام السعودية وإيران والإمارات ومصر مؤخراً إلى مجموعة البريكس+ إلى تعزيز قدرة المجموعة على الوصول إلى مناطق التجارة الحرة الجديدة، وهو ما من شأنه أن يعزز جهود وقف الاعتماد على الدولار.
وتهتم دول الخليج بالتجارة في الطاقة باليوان بفضل الطلب الصيني المرتفع على الطاقة ودور الشرق الأوسط الرئيسي في تصدير النفط إلى الصين. وأفادت تقارير بأن السعودية سمحت لصندوق استثماراتها العامة (PIF) بالاستثمار في الصين، وتسهيل تجارة النفط القائمة على اليوان باستخدام احتياطيات اليوان للاستثمار. وتتماشى هذه الخطوة مع جهود دول الخليج لتنويع اقتصاداتها. وأجرت الصين بالفعل أول صفقة طاقة مقومة باليوان مع الإمارات.
والصين رائدة في تطوير عملتها الرقمية، التي تسمح بإتمام المعاملات خارج نظام سويفت. وتتطابق قيمة اليوان الرقمي مع قيمة اليوان الفعلي، مما يوفر تحويلات أسرع بين البنوك، والتوافق مع بطاقات الائتمان الدولية، وإمكانية المرور للأجانب. ويعمل مشروع mBridge، وهو عبارة عن منصة عملات رقمية تشمل عدة بنوك مركزية وتضم الصين وتايلاند وهونغ كونغ والإمارات، على تقليل الوسطاء؛ لتسريع التحويلات التجارية بين البنوك. ويشجع استخدام العملة المحلية، ويعزز السيطرة على السياسات الاقتصادية والتجارة بين بلدان الجنوب. وإذا نجحت مبادرة mBridge، فيمكن أن تعزز النظام المالي العالمي لمجموعة البريكس+.
لكن ما عوائق التخلص من الدولار؟
تقول مجلة National Interest الأمريكية، إن اليوان يفتقر إلى الصفات الأساسية التي تتمتع بها عملة قيادية، مثل الاستقرار، والسيولة، والقبول العالمي، في حين يحتفظ الدولار بهيمنته بفضل سوقه المالية القوية والحصة الثابتة من معاملات الصرف الأجنبي.
والضوابط الصارمة التي تفرضها الصين والقابلية المحدودة للتحويل في حسابات رأس المال تعيق اليوان عن أن يصبح عملةً استثمارية مستخدمة على نطاق واسع، ما يؤدي إلى انخفاض الاستثمار الأجنبي في الأسواق الصينية. ورغم الجهود المبذولة لتحقيق استقرار اليوان، فإن التحديات لا تزال قائمة في التحوط ضد تقلباته باستخدام سوق المشتقات المالية الصيني.
ودأبت بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مواءمة مصالحها الاقتصادية مع الدولار، حيث ربطت العديد منها عملاتها به. وغالباً أيضاً ما يُعاد استثمار عائدات النفط في دول مجلس التعاون الخليجي، المقومة بالدولار، في سندات الخزانة الأمريكية وغيرها من الأصول الأمريكية، مما يعزز أهمية الدولار في المنطقة.
وقد يُستبعد أن يضاهي نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود (CIPS) الصيني الأنظمة الغربية، لأنه يضم عدداً أقل من المشاركين والمعاملات مقارنة بنظام CHIPS الأمريكي. ومعظم مدفوعات CIPS تعتمد على تقنية سويفت للتواصل مع المؤسسات المالية الدولية.
وفي حين تتنامى مشاركة الصين في التوسط في الصراعات بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن نهجها في التعامل مع الأمن يظل دبلوماسياً، عكس الولايات المتحدة، التي تتمتع بحضور عسكري كبير. وتمتلك الدول التي لها علاقات عسكرية مع الولايات المتحدة جزءاً كبيراً من الأصول الأمريكية الآمنة، وهو ما قد يضمن استمرار هيمنة الدولار على العملة الاحتياطية في المنطقة، كما تقول المجلة الأمريكية.
وتسعى دول الخليج إلى الموازنة بين استخدامها للدولار واليوان؛ للحفاظ على حيادها الاستراتيجي وسط التحولات الجيوسياسية العالمية. ورغم أنه من المتوقع أن ينمو استخدام اليوان في المنطقة، فمن غير المرجح أن يقضي على هيمنة الدولار.