هل أصبح البشر أكثر غباءً بسبب وباء كورونا؟ هذا السؤال لم يعد يُطرح على سبيل المزاح، بل إن هناك مؤشرات علمية على أن أضرار كورونا على المخ قد تؤدي لتراجع الذكاء، بل هناك احتمالات بأنها قد تتسبب في بعض الأمراض العقلية.
فلقد كشف "اختبار الذكاء البريطاني العظيم"، الذي لم يكن في البداية مشروعاً جدياً، عن بيانات مرتبطة بالإدراك أثناء الجائحة عن غير قصد، حسبما ورد في تقرير صحيفة The Times البريطانية.
وكشف تحليل أجراه آدم هامبشاير، من جامعة إمبريال كوليدج، عن ارتباط مثير للقلق بشأن أضرار كورونا على المخ: هو أن من أُصيبوا بكوفيد-19 تراجع أداؤهم، خاصة في الوظيفة التنفيذية، ويفقدون على الأرجح 3 نقاط من معدل ذكائهم.
وهذه النتيجة، إلى جانب فكرة "ضبابية الدماغ"، دفعت الباحثين إلى إجراء مزيد من الدراسات بشأن أضرار كورونا على المخ والذكاء. وكانت دراسة هامبشاير الجديدة أكثر جدية، لأنها تركز على مشكلة لها آثار عالمية.
وفي البحث الجديد، درس هامبشاير وزملاؤه عدداً أكبر من الأشخاص، وبجدية أكبر، ولمدة أطول بعد الإصابة، وتوصلوا إلى النتائج نفسها، ووجدوا أن من أفضت إصابتهم إلى دخول العناية المركزة انخفض معدل ذكائهم بحوالي 9 نقاط. أما من أُصيبوا بأعراض استمرت لفترة طويلة – كوفيد طويل الأمد– فانخفض بحوالي 6 نقاط. ولعل الأكثر إثارة للدهشة أنه حتى من كانت إصابتهم خفيفة تراجع معدل ذكائهم مقارنة بمن لم يُصابوا بعدة نقاط.
وهذا ليس بالكثير، لكنه مرتبط بملايين الأشخاص، ففي ظاهر الأمر، تعتبر الآثار المترتبة على ذلك "مخيفة جداً"، وفقاً لهامبشاير. فهل أصبح جزء كبير من العالم أغبى قليلاً؟ ولو أن هذا صحيح، فهل سنتعافى، أم أننا نبالغ في تفسير البيانات التي لا يمكنها توفير إجابة كاملة عن السؤال التي نريدها أن تجيبه؟
الفيروس الأصلي أسوأ من متحور أوميكرون
استعان ماكسيم تاكيت، من جامعة أكسفورد، بتشبيه تغير المناخ ليشرح تأثير التغيرات الإدراكية بسبب كوفيد-19. فكما أن الزيادة الطفيفة في درجة حرارة الكوكب تكون لها آثار كبيرة، فانخفاض طفيف في معدل ذكاء سكان العالم قد يكون له تأثير كبير على الاقتصاد.
ووجدت دراسة هامبشاير، التي شملت أكثر من 100 ألف شخص، تأثيرات إدراكية طويلة الأمد لدى المصابين بكوفيد-19، وكلما اشتدت الإصابة ازداد التدهور الإدراكي. ووجدت الدراسة أيضاً أن حالة ضبابية الدماغ التي سجلها الأفراد الخاضعون للدراسة متسقة مع التدهور المعرفي. وفضلاً عن ذلك، كان لتوقيت الإصابة دوراً أيضاً، إذ تبين أن الإصابة بالسلالة الأصلية ومتحور ألفا يؤدي إلى تراجع أكبر في معدل الذكاء مقارنة بمتحور أوميكرون، وتبين أيضاً أن اللقاحات مفيدة في الوقاية.
أضرار كورونا على المخ والذكاء تختلف باختلاف درجة الإصابة
في دراسات كهذه، يحرص العلماء على استخدام لغة حذرة، فيتحدثون عن علاقة "ارتباطية" وليس "سببية"، وعن "اختلاف" و"تراجع"، وليس "خسارة". وقارن الباحثون القدرات الإدراكية للأشخاص المصابين مع من لم يصابوا أبداً، ولكن من الصعب الخروج بمقارنة لا تشوبها شائبة؛ إذ لا تزال التساؤلات مطروحة حول طبيعة من لم يُصابوا وإن كانوا مختلفين بطبيعتهم.
وفي حين أن تأثر معدلات الذكاء في الإصابات الشديدة تظهر جلية، كانت التغيرات في معدل الذكاء في الحالات الخفيفة محل خلاف بين الخبراء. وأشار بنديكت مايكل، مدير مختبر علم أعصاب العدوى بجامعة ليفربول، إلى ضرورة التركيز على الحالات الخطيرة لفهم الآليات المسببة لضبابية الدماغ قبل تطبيقها على حالات الإصابة الخفيفة.
لماذا يؤثر كورونا على الذكاء؟ إليك ما يحدث في الدماغ بسببه
أصبح البنك الحيوي في المملكة المتحدة، المصمم في الأصل لدراسة التغيرات الصحية بين السكان، مصدراً قيماً لأبحاث كوفيد-19. فقد أتاح للباحثين فحوصات دماغية لمئات البريطانيين قبل الجائحة، وبالتالي صار بإمكانهم مقارنة صحة الدماغ قبل وبعد كوفيد-19. ورغم أن 96% منهم لم تتطلب حالتهم دخول المستشفى، رصد الباحثون اختلافاً ملحوظاً في فحوصات الدماغ بعد كوفيد-19، الأمر الذي فاجأ الباحثين مثل جوينيل داوود، الأستاذة في قسم نوفيلد لعلوم الأعصاب السريرية في أكسفورد، التي قالت: "الخوف أن تستمر هذه الأضرار". فهل ستستمر؟.
يشير مايكل إلى أن أضرار كورونا على المخ التي لوحظت لدى مرضى كوفيد-19 يُحتمل ألا تكون ناجمة بشكل مباشر عن إصابة الفيروس للدماغ بل كنتيجة ثانوية، مثل تأثير الفيروس على الأوعية الدموية وتقليل تدفق الأوكسجين، أو الاستجابة المناعية المسببة للالتهاب في الدماغ. وهذه التأثيرات قد تكون شديدة، ويكون سلوك الدم خلالها مشابهة لسلوك الدم في مرضى إصابات الدماغ الرضية.
وتشير الأبحاث التي تقارن آثار الإنفلونزا بتأثيرات كوفيد 19 الصحية ومنها أضرار كورونا على المخ إلى أن الخطر يكون أعلى مع كوفيد-19.
ويرى مايكل أن الحديث عن التأثيرات المعرفية لفيروس كوفيد سببه ببساطة أن هذه التأثيرات، بعد الجائحة، كانت واضحة، لأنه حتى نسبة صغيرة تتأثر بدرجة خطيرة تشكل رقماً كبيراً.
ويؤكد هامبشاير على ضرورة فهم سبب اختلاف تأثر الأشخاص بكوفيد-19. ورغم انتهاء الجائحة، أكد على أهمية مواصلة البحث لتأثيره الكبير على العديد من الأفراد.
هل تختفي أضرار كورونا على المخ بمرور الوقت؟
وترى جوينيل أنه في حين تظهر بعض الدراسات أن أضرار كورونا على المخ تتضاءل بمرور الوقت، إلا أنها قد لا تختفي تماماً، لأنه صحيح أن الدماغ يعرف بمرونته وصلابته، لكنه أيضاً "يتذكر الأعطاب". وبعد إصابة الدماغ الرضية، من النوع الذي ينتج نفس سلوك الدم، يرتفع خطر الإصابة بالخرف. والأدلة متضاربة حول إن كان الأمر نفسه يحدث عند الإصابة بكوفيد، وهل تؤدي أضرار كورونا على المخ إلى نفس التداعيات.
وفي نهاية المطاف، تظل التأثيرات طويلة المدى لكوفيد-19 على الدماغ سؤالاً بحثياً مهماً لأن أثره يطال الجميع. وفهم إن كان فيروس كوفيد-19 يسبب هشاشة تزيد من خطر الإصابة بمشكلات معرفية مستقبلاً أمر ضروري لتخطيط الرعاية الصحية مستقبلاً.