يعكس التغيير الجديد في سياسة إدارة بايدن مع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة استياءها المتزايد من إسرائيل وكذلك المأزق السياسي الذي يواجهه الرئيس الأمريكي، خاصة مع اقتراب الانتخابات التمهيدية الديمقراطية في ميشيغان٬ وذلك على الرغم من تناقض أقوال وأفعال بايدن وإدارته حول إسرائيل.
بايدن عالق في مأزق سياسي بسبب سياسته مع إسرائيل
وتقول صحيفة The New York Times الأمريكية٬ إن شعوراً داخل إدارة بايدن "يسود بتنامي الاستياء من تصرفات إسرائيل"، خاصة في سياق حرب غزة وقضايا أخرى. وهذا الاستياء المتنامي أفضى إلى مزيد من "الإدانات الصريحة" من جانب المسؤولين الأمريكيين، مثل قرار فرض عقوبات مالية على أربعة إسرائيليين، ثلاثة منهم مستوطنون، اتهموا بالاعتداء على فلسطينيين في الضفة الغربية.
لكن الرئيس بايدن وجد نفسه في وضع لا خيارات رابحة فيه. إذ أثارت تحركاته الأخيرة للضغط على الحكومة الإسرائيلية للإسراع بإنهاء الحرب في غزة والدخول في مفاوضات لإقامة دولة فلسطينية غضب بعض النافذين المؤيدين لإسرائيل في الولايات المتحدة٬ كما أن أي تغيير حقيقي في علاقته مع إسرائيل يخاطر بتنفير الناخبين اليهود، كما تقول الصحيفة الأمريكية.
ومع ذلك، لم تقترب سياسة بايدن المتناقضة بأي شكل، من استرضاء أشد منتقدي إسرائيل في اليسار السياسي وبين الأمريكيين العرب. فهي لا تحقق ما يطالب به الناخبون التقدميون الشباب والأمريكيون من أصول عربية: وقف فوري لإطلاق النار في حرب غزة، ووقف المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل. ويزيد عدم إبداء نتنياهو أي علامة على التراجع من هذه المطالبات.
ويواجه بايدن ضغوطاً متعارضة، فهو بحاجة إلى إنهاء الحرب في غزة لإعادة بناء تحالفه الانتخابي، في حين يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن يستمر الصراع ليعزز مكانته السياسية وربما ليساعد حليفه دونالد ترامب على العودة إلى السلطة.
خطوات غير كافية وخطاب رسمي متناقض
وكان التصريح الأخير للوزير الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، عن وحدات سكنية جديدة في المستوطنات هو ما دفع بلينكن إلى الإدلاء بتصريحه، الذي سلط الضوء على التوترات المستمرة بشأن التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية. وبينما يرى البعض بيان بلينكن خطوة إيجابية، ينتقده آخرون باعتباره ليس كافياً ومتأخراً جداً ومتناقضاً، ويطالبون باتخاذ مزيد من الإجراءات القوية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
يقول يوسف منيّر، وهو أمريكي من أصل فلسطيني يرأس البرنامج الفلسطيني الإسرائيلي بالمركز العربي في واشنطن، إن "العقوبات التي فرضها بايدن على عنف المستوطنين والتصريح بأن المستوطنات غير قانونية ليست خطوات كافية بالنظر إلى مدى تفاقم الفصل العنصري في إسرائيل. لكنه الآن يدعم الإبادة الجماعية في غزة. وهذا يشبه محاولة إطفاء حريق ضخم بكوب من الماء وإعطاء الوقود لمُشعِل الحريق في الوقت نفسه".
ورغم تعهد بايدن بإلغاء بعض سياسات ترامب مع إسرائيل، فكثير منها لا يزال معمولاً به. فلم تُعِد إدارة بايدن فتح قنصلية منفصلة في القدس، كانت قناة تواصل بين الأمريكيين والفلسطينيين، رسمياً بعد أن أغلقتها إدارة ترامب؛ ولا تزال البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في واشنطن مغلقة؛ ومعظم المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، التي تحكم أجزاء من الضفة الغربية، تم تجميدها بموجب تشريع وقّعه ترامب.
وخلال أول عام ونصف من ولاية بايدن، دافع المسؤولون الأمريكيون عن نهجهم الحذر باعتباره محاولة لتجنب تقويض التحالف الهش بين اليسار واليمين والوسط الذي أطاح نتنياهو بصفة مؤقتة. لكن تلك الحكومة انهارت في منتصف عام 2022، ما أدى إلى إجراء انتخابات إسرائيلية خامسة خلال أربع سنوات.
وبعد عودة نتنياهو إلى السلطة أواخر عام 2022 على رأس ائتلاف يميني متطرف مليء بالقوميين المتطرفين وقادة المستوطنين، انفجر التوسع الاستيطاني. ومر ما مجموعه 12.349 وحدة سكنية في المستوطنات عبر مراحل مختلفة من عملية التخطيط البيروقراطية عام 2023، مقارنة بـ4.427 وحدة سُجلت العام السابق، وفقاً لمنظمة السلام الآن الإسرائيلية.
وحتى حدث الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول والهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة الذي أعقبه، كانت إدارة بايدن تتجنب الصدام المباشر مع إسرائيل بشأن القضايا الخلافية المتعلقة بالفلسطينيين، مفضلةً التركيز على أهداف أخرى في المنطقة، مثل التطبيع بين إسرائيل والسعودية.
وقال ناتان ساكس، الذي يدير مركز سياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينغز، إن المسؤولين الأمريكيين كانوا يركزون جهودهم السياسية على الخصوم مثل إيران، وبعدها على تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
وقال ساكس، في إشارة إلى تصريحات بلينكن: "هذه خطوة مهمة رغم أنها أقل حسماً من العقوبات التي فرضتها الإدارة على المستوطنين المتطرفين". وأضاف: "كانت الأخيرة غير مسبوقة وإشارة حقيقية لسياسة جديدة. أما تصريح بلينكن فهو أحد أعراض حاجة الإدارة الأمريكية إلى استعادة دورها".
لا رغبة لإدارة بايدن بممارسة نفوذها على إسرائيل
في السياق٬ يقول تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني٬ إن تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة نتيجة الحرب الإسرائيلية المدمرة، واستمرار التهديد الإسرائيلي بالهجوم البري في مدينة رفح المكتظة باللاجئين، يبرهنان على قلة الرغبة لدى الولايات المتحدة في ممارسة نفوذها- الذي لا يضاهيه نفوذ آخر في العالم- على إسرائيل، حتى إذا كانت مساعي إسرائيل تعوق واشنطن عن بلوغ الأهداف المرجوة من سياساتها المعلنة.
ويقول مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون للموقع البريطاني، إن الإدارة الأمريكية ترى أن أي اتفاق بين إسرائيل والمقاومة في غزة يمنح الولايات المتحدة فسحة لتهدئة التوترات مع الجماعات المدعومة من إيران مثل حزب الله والحوثيين في اليمن، وزيادة المساعدات إلى غزة، وتوفير مهلة (تنفيسٍ) سياسية للرئيس الأمريكي جو بايدن قبيل الانتخابات، وفرصة للتخفيف من وطأة الانتقادات التي يتعرض لها من التيار التقدمي في حزبه الديمقراطي بشأن دعمه المطرد لإسرائيل.
وبحسب هؤلاء، يريد بايدن أن يمتد اتفاق الهدنة حتى يصل إلى "وقف مستدام للقتال"، ويرى البيت الأبيض أن هذا المسار سيمنحه الفرصة لبدء محادثات أولية مع الحلفاء العرب بشأن حلِّ الدولتين، وسُبل التسوية النهائية للصراع.
ويرى محللون أن الإدارة الأمريكية لا تستخدم إلا جزءاً قليلاً من أدواتها الدبلوماسية لصرفِ إسرائيل عن هجومها المزمع على رفح، وإبرام صفقة تبادل الأسرى، فهي في ذلك كمن يدفع بيدٍ ويده الأخرى مكبلة خلف ظهره، وهي تكبح نفسها عن استخدام قدر أكبر مما لديها من نفوذ على إسرائيل لبلوغ أهدافها السياسية.