تناولت صحيفة هآرتس مقالاً لمصطفى البرغوثي، رئيس المبادرة الوطنية الفلسطينية الذي لا يخفي انتقاداته للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، حيث يقول البرغوثي: "لماذا الحاجة إلى مشروع وطني فلسطيني جديد؟"، هكذا تساءل الدكتور مصطفى البرغوثي في مقالةٍ نشرها موقع العربي الجديد الأسبوع الجاري. وأردف البرغوثي: "لأن الممثل الرسمي للفلسطينيين، منظمة التحرير الفلسطينية، تبنَّت برنامج حلّ الدولتين، أي إقامة دولة فلسطينية مستقلّة على حدود 1967، وحل متفق عليه لقضية اللاجئين… وقد بُني هذا الهدف على وهمين: إمكانية الوصول إلى حل وسط مع الحركة الصهيونية، وأن الولايات المتحدة يمكن أن تقوم بدور الوسيط والضامن للحل".
فشل المشروع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية
البرغوثي هو عضو في اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقد أسس المبادرة الوطنية الفلسطينية عام 2002، كما يُعد من الأصوات الفلسطينية البارزة؛ إذ درس ليصبح طبيباً، ثم صار من المثقفين الفلسطينيين الذين لا يخفون انتقاداتهم اللاذعة لقيادة منظمة التحرير ورئيسها محمود عباس. وفي مقاله الأخير تحدَّث البرغوثي عن فشل المشروع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو ما يُعرف "بمشروع أوسلو".
ونتيجةً لذلك "نشأت فجوة واسعة وعميقة بين القيادة الرسمية لمنظمة التحرير (ومعظم الفصائل المنضوية فيها) والجمهور، وخصوصاً الأجيال الشابة التي تشعر بالتهميش والإقصاء، في وقت تتعاظم فيه المؤامرات لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني والالتفاف عليها".
فما الحل؟ "توحيد مكونات الشعب في حركته النضالية والحفاظ على وحدة الأرض والوطن الفلسطيني، ولا يحلّ المزج بين الأمرين إلا بتشكيل قيادة وطنية موحّدة، تضم جميع القوى والطاقات النضالية في إطار منظمة التحرير… وبناء منظومة ديمقراطية داخلية على أساس الشراكة الديمقراطية، ورفض التفرد والهيمنة [لحركة فتح]، وإجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية تشمل الفلسطينيين في الداخل والخارج".
وتقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية، معلقةً على ذلك: ليست أفكار ومطالب البرغوثي هذه بالأمر الجديد، لكنها تحظى بأهميةٍ أكبر خلال الأسابيع القليلة الماضية على وجه التحديد؛ حيث شهدت الأسابيع الأخيرة نقاشات مكثفة داخل صفوف منظمة التحرير الفلسطينية من أجل إعادة بناء المنظمة، وتوسيع صفوفها، لتضم حماس والجهاد الإسلامي وغيرها من الكيانات التي لم تنضم إليها حتى اليوم. وقبل حرب غزة كان مصطلح "إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية"، أو "إعادة بناء الوطن الفلسطيني" مرادفاً للسؤال حول هوية مَن سيخلف عباس (88 عاماً) بعد رحيله.
ولم يعد بإمكان قضية "إعادة البناء" أن تنتظر تسلسل الخلافة "الطبيعي"، عندما يصبح عباس غير قادر أو غير راغب في قيادة المنظمة، بل صارت تستوجب حلاً قريباً، إن لم يكن فورياً. ويأتي هذا نتيجةً للحرب على غزة، وعلى خلفية المطالبة الأمريكية بإصلاح هياكل السلطة الفلسطينية في المقام الأول، وذلك كشرطٍ مسبق لتسلُّم المسؤولية الإدارية في غزة بعد الحرب.
الرؤية الأمريكية للقيادة الفلسطينية التالية بعد وقف إطلاق النار في غزة
تقول هآرتس في حال الوصول إلى وقف إطلاق النار في غزة كجزءٍ من اتفاق لتبادل الأسرى، مع استمرار الاتفاق لفترةٍ طويلة، 6 أشهر وربما أكثر، فسوف يتمثل هدف الإدارة الأمريكية في تقديم آلية فلسطينية توافقية للبدء في إدارة قطاع غزة. ومن المفترض أن تبدأ تلك الإدارة في شمال القطاع، ثم تنتقل إلى جنوبه، حتى يصبح بالإمكان البدء في إعادة تأهيل حياة 2.3 مليون إنسانٍ من سكانه.
ويبدو من الواضح أن الهيكل الذي سيجري بناؤه يحظى بقبول مصر والأردن والسعودية، التي ناقشت الأمر مع مسؤولين أمريكيين بارزين. ويتمثل الهدف هنا في بناء حكومة خبراء انتقالية غير حزبية- ليست تابعةً لفتح أو حماس- من أجل العمل بتمويل أمريكي وعربي، وبقوة شرطة تخضع للتدريب الأمريكي والمصري، كما تقول الصحيفة الإسرائيلية.
لكن مثل هذه الحكومة التكنوقراطية، كتلك التي تأسَّست عقب اتفاق القاهرة بين فتح وحماس عام 2017، ثم انهارت بعد عامٍ واحد، من المفترض أن تكون الذراع العملياتية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث تُعرَّف المنظمة على أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
ويتمتع عباس، من الناحية الفنية والدستورية، بسلطة تعيين حكومة كهذه واختيار رئيس وزراء للعمل بالنيابة عنه، لكن هذه السلطة تواجه تحدياً من كبار مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك بزعمٍ مُبرَّر يقول إن عباس لم يعد الزعيم الشرعي بعد انتهاء ولايته القانونية عام 2010، ويأتي هذا رغم أن اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية انتخبته لولايةٍ غير محددة المدة عام 2009.
أما بالنسبة للمطلب الأمريكي المتعلق بتعيين عباس لنائب يمتلك سلطات واسعة، فقد أوضح عباس أن الدستور الفلسطيني لا يحتوي على بندٍ كهذا، وأن أي تعديل دستوري سيتطلب قراراً من المجلس الوطني الفلسطيني (الذي لم تنعقد جلساته منذ سنوات، وهو موجود على الورق فقط)، أو من المجلس التشريعي الفلسطيني الذي حلَّه عباس عام 2018.
عباس ومنافسوه يتطلعون إلى مبادرة أمريكية تحدد لهم شكل السلطة القادمة
تقول صحيفة هآرتس إن منظمة التحرير الفلسطينية تنظر إلى المبادرة الأمريكية، التي يصعب تصنيفها باعتبارها خطة عمل واقعية، على أنها فرصة لوضع الأسس اللازمة لتغييرات القيادة وتقليل سلطات عباس على أقل تقدير.
شغل ناصر القدوة، ابن شقيقة ياسر عرفات، منصبَ وزير خارجية فلسطين بين عامي 2003 و2005. ويُعد من الأصوات البارزة التي تطالب بالإطاحة بعباس. وخلال مقابلةٍ أجراها مع وكالة Agence France-Presse الفرنسية، الأسبوع الجاري، قال: "يجب الطلاق طواعيةً من عباس، الذي سيظل رئيساً شرفياً، مع السماح لرئيس وزراء فلسطيني بإدارة الضفة الغربية وقطاع غزة".
ويُمكن وصف القدوة بأنه "شريك ائتلافي" لمحمد دحلان، الذي لديه حساب طويل يرغب في تصفيته مع عباس، والذي يسعى لمنصبٍ قيادي رغم نفيه ذلك.
لكن دحلان والقدوة يواجهان حسين الشيخ، الأمين العامة للجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، والرجل الذي وصفه الضباط الإسرائيليون ذات مرة بأنه "رجل إسرائيل في الضفة الغربية"، ووريث عباس الذي عيّنه في منصبه.
ويتفق جميع هؤلاء المرشحين والمنافسين، الحقيقي منهم والنظري، على الموقف القائل إن منظمة التحرير الفلسطينية "بعد إعادة بنائها" يجب أن تضم في صفوفها حماس والتنظيمات الفلسطينية الأخرى، وذلك كجزءٍ من الإصلاح.
ما شكل منظمة التحرير القادمة؟
لكن حماس، التي لا تخفي عزمها الانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية، لم توضح شكل منظمة التحرير الفلسطينية التي تريد الانضمام إليها. فهل تريد الانضمام إلى المنظمة التي وقعت معاهدات أوسلو، وتعترف بدولة إسرائيل وتلتزم بحل الدولتين، أم تريد الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي ستلتزم بتغيير مبادئها وسياساتها؟
حيث قال موسى أبو مرزوق، عضو المكتب السياسي لحماس، في تصريحه يوم 22 فبراير/شباط، إن حماس مستعدة لتبني فكرة "حكومة التكنوقراط". وتقول صحيفة هآرتس ليس من المهم فعلياً التساؤل عما إذا كانت لدى حماس أي نية للسماح لحكومة تكنوقراط فلسطينية بالعمل في غزة، ويرجع هذا لأسباب منها موقف إسرائيل، غير المستعدة للاستماع إلى احتمالية عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة.
بل يتمحور السؤال الجوهري الذي يواجه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حول إمكانية وكيفية صياغة اتفاقيات التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك فيما يتعلق بغزة وبقية الأراضي على حدٍّ سواء. ويأتي هذا في ظل المواقف المعلنة لكافة المرشحين لخلافة عباس، حول ضرورة إخضاع اتفاقيات أوسلو لعملية جراحية عميقة، وضرورة أن تصبح حماس شريكةً في منظمة التحرير الفلسطينية.
ولا شك أنها أسئلة مهمة، وليس من المؤكد أن المنظمة ستنجح في الإجابة عنها خلال فترة وقف إطلاق النار، إذا تم التوصّل إليه من الأساس. كما أن الإطار الزمني الذي ينبغي على المنظمة خلاله أن تقدم خطة واقعية لإدارة غزة يقترب بسرعة.