تجسد الغواصة السوفييتية التي تحمل اسم المشروع 661، والمعروفة أيضاً باسم فئة بابا، استكشاف السرعة في حرب الغواصات في عصر الحرب الباردة. صُمِّمَت في العام 1959، وركز تصميمها على الاعتراض عالي السرعة لقوات حاملات الطائرات الأمريكية، باستخدام بنية متقدمة من سبائك التيتانيوم لتعزيز السرعة والوزن الخفيف٬ لذلك حصلت على لقب "الأسرع في العالم" دون منازع.
سمح هذا الابتكار للغواصة بالوصول إلى سرعات قياسية تصل إلى 44.7 عقدة، وهي سرعةٌ أكبر بكثير مما لدى الغواصات المعاصرة. ومع ذلك، جاءت فوائد السرعة مصحوبة بعيوب، وضمن ذلك تكاليف البناء المرتفعة، ومستويات الضوضاء التي تهدد التخفي، والأضرار الهيكلية عند السرعات العالية.
لكن رغم هذه المشكلات، مهد المشروع 661 الطريق للتقدم المستقبلي في تكنولوجيا الغواصات، لكنه اعتُبِرَ مكلفاً للغاية ويشكِّل مشكلةً في إنتاجه بكميات كبيرة. الغواصة الوحيدة من فئتها، كيه-222، ظلت في الخدمة حتى خرجت منها في العام 1984، مما يمثل فصلاً جريئاً ولكن معزولاً في الهندسة البحرية، كما تقول مجلة National Interest الأمريكية.
ما هي الغواصة الروسية المصنوعة من التيتانيوم من فئة بابا؟
غالباً ما كانت للسرعة جاذبية مختلطة في حرب الغواصات. ففي النهاية، حتى الغواصات الهادئة جداً تصبح صاخبةً عندما تشق طريقها عبر المحيط بسرعتها القصوى التي تتراوح بين 20 و30 عقدة. وكما هو الحال عادةً، يكون الهدف في حرب الغواصات هو اكتشاف خصمٍ غير مُدرَك وإطلاق طوربيدات دون أن تُكتَشَف في المقابل، لذا فإن العديد من الغواصات تبحر بسرعة تزيد قليلاً على مجرد الغوص السريع لتقليل الضوضاء.
ومع ذلك، تتيح السرعة أيضاً مناورات أكثر عدوانية ضد الأعداء المتأهبين والطوربيدات القادمة، علاوة على القدرة على الاقتراب من الخصوم أو الابتعاد عنهم بحسب ما يمليه الموقف. وأحياناً تكون السرعة أمراً مرغوباً فيه لمجرد الحصول على غواصة في المكان الذي يجب أن تكون فيه للاشتباك مع عدو سريع الحركة.
كان هذا هو التفكير وراء الغواصة السوفييتية "المشروع 661 أنشار" التي صُمِّمَت في العام 1959. كانت تلك غواصةً سريعة يمكنها السباق لاعتراض فرق عمل حاملات الطائرات الأمريكية التي تبحر بسرعة 33 عقدة، وقصفها بصواريخ كروز طويلة المدى تُطلَق من تحت الماء.
طُوّرَت الغواصة "المشروع 661″، (المعروفة باسم فئة بابا بتسميات الناتو)، تقريباً بالتوازي مع تصميم آخر عالي السرعة، وهو الغواصة الهجومية الطوربيدية "المشروع 705″، التي أدت إلى الغواصة الشهيرة من فئة ألفا. ورغم أن الغواصتين اختلفتا في كثير من النواحي، كانتا تمتلكان هيكلاً مشتركاً مصنوعاً من سبائك التيتانيوم القوية ولكن خفيفة الوزن بدلاً من الفولاذ لتقليل الوزن، ومن ثم زيادة السرعة.
بينما قام المهندسون الأمريكيون بدمج مكونات التيتانيوم في طائرات مثل الطائرة فائقة السرعة "إس آر-71 بلاك بيرد"، فإن القيام بذلك على شيء بحجم هيكل الغواصة كان يُعتبَر غير ممكن، لأنه لا يمكن لحام التيتانيوم إلا في بيئة غير مؤكسجة. لكن هذا لم يمنع المهندسين السوفييت من أن يرتدي العمال بدلاتٍ مضغوطة ويلحمون ألواح تيتانيوم بسُمك 60 ملم من هيكل الضغط الخاص بـ"المشروع 661 في المبنى رقم 42 المغمور بغاز الأرجون في مدينة سيفيرودفينسك الروسية.
"السمكة الذهبية"
بلغت تكلفة هذا المخطط (آنذاك) مبلغاً كبيراً يصل إلى 2 مليار روبل، ما أدى إلى تسمية غواصة التيتانيوم باسم "السمكة الذهبية". تشققت العديد من صفائح التيتانيوم لاحقاً بسبب عيوب التصنيع، ما تطلب إعادة تصنيع مكونات طويلة ومكلفة.
عكس ألفا الصغيرة والأنيقة نسبياً وطاقمها الصغير المكون من خمسة عشر إلى اثنين وثلاثين فرداً، كان "المشروع 661" عبارة عن تصميم كبير مزدوج الهيكل ذي مظهر تقليدي بلغ وزنها 7 آلاف طن، وطولها 107 أمتار، وتشكَّل طاقمها من 82 ضابطاً وبحاراً. جاءت ميزة سرعتها من حقيقة أنها تضم مفاعلين قويين يعملان بالماء المضغوط من طراز في إم-5 إم، يولد كل منهما 177 ميغاوات لتشغيل عمودين للمروحة جنباً إلى جنب.
كان لدى كيه-222 أربعة أنابيب طوربيد مع 12 طوربيداً فقط للدفاع عن النفس. كان من المفترض أن يكون تسليحها الرئيسي عبارة عن عشرة صواريخ كروز من طراز بي-70 أميثيست بطول 7 أمتار، مثبتة في أنابيب مائلة مغمورة بالمياه على طول كل جانب من قوسها. كانت هذه أول صواريخ كروز مصممة للإطلاق تحت الماء نُشِرَت على الإطلاق.
كيف كانت تعمل هذه الغواصة السوفييتية؟
كان المفهوم التكتيكي للمشروع الغواصة 661 بسيطاً، فالغواصة تتسابق بأقصى سرعة نحو الموقع المُبلغ عنه لفرق العمل الحاملة. وبمجرد تحديد موقع الفريسة باستخدام مجموعة السونار القوية "إم جي كيه 3 روبين"، يقوم السونار بنقل بيانات الاستهداف إلى أنظمة الطوربيد والصواريخ الخاصة بالغواصة "أنشار".
ترتفع الغواصة الصاروخية إلى مسافة 30 متراً من السطح لإطلاق جميع صواريخها التي يبلغ وزنها 3.85 طن في دفعتين من خمس طلقات يفصل بينهما ثلاث دقائق من مسافة تصل إلى 40 ميلاً. وتطفو الصواريخ على السطح مدعومة بصواريخ المرحلة الأولى، وعندها ستمتد أجنحتها ويقذفها صاروخ ثانٍ يعمل بالوقود الصلب إلى السماء.
عند الوصول إلى ارتفاع 200 قدم، يقوم صاروخ ثالث بدفع صواريخ بي-70 بسرعة أقل بقليل من سرعة الصوت نحو منطقة الهدف المحددة باستخدام أنظمة التوجيه بالقصور الذاتي. وفي المرحلة النهائية، تقوم الصواريخ بتشغيل الرادارات النشطة للوصول إلى أكبر هدف قريب. وعندما يهبط الصاروخ نحو هدفه، تعود الغواصة "المشروع 661" إلى القاعدة لإعادة التحميل.
أدت التقنيات الجديدة العديدة المستخدمة في الغواصة "أنشار" إلى بدايات خاطئة للمشروع في عامي 1962 و1963. وأخيراً، وُضِعَت غواصة المشروع 661 كيه-162 في عام 1965 وأُطلِقَت بعد أربع سنوات في عام 1969. في التجارب البحرية الأولية باستخدام مفاعل بنسبة 80% من حيث القوة، حققت سرعةً مذهلة بلغت 42 عقدة، متجاوزةً الـ38 عقدة المنصوص عليها في وثائق التصميم. وعلى النقيض من ذلك، كانت الغواصات الأمريكية من فئة بيرميت في ذلك العصر تبلغ سرعتها القصوى 28 عقدة. لكن أغطية فتحات الوصول وعوامات إشارة الطوارئ ومآخذ المياه تمزقت في أثناء الجري السريع.
في 30 ديسمبر/كانون الأول 1969، أخذ الكابتن جولوبكوف فيليبوفيتش الغواصة كيه-162 في تجربة تشغيل؛ سعياً لدفع الغواصة المصنوعة من التيتانيوم إلى أقصى حدودها. وبعد تجاوز ضوابط سلامة المحرك، حققت الغواصة الصاروخية رقماً قياسياً عالمياً قدره 44.7 عقدة (51 ميلاً في الساعة) باستخدام 97% من قوة المفاعل في أثناء السباحة على عمق 100 متر تحت السطح.
تكررت هذه السرعة في اختبار ثانٍ في 30 مارس/آذار 1971 باستخدام طاقة بنسبة 100%، رغم اضطرار الطاقم إلى إلغاء المرحلة الثالثة من التشغيل عندما بدأت التوربينات تخرج عن نطاق السيطرة. وفي ذلك الخريف، تدربت الغواصة على مطاردة قوة عمل حاملة طائرات أمريكية عبر المحيط الأطلسي، ولم تظهر على السطح إلا مرة واحدة خلال انتشارها الذي استمر 80 يوماً.
عيوب رغم المميزات
مع ذلك، فإن سرعة الغواصة "المشروع 661" المثيرة للإعجاب جاءت مع عيوب كبيرة، حيث أدت السرعة القصوى إلى مستويات ضوضاء لا تطاق تصل إلى 100 ديسيبل للطاقم. من الواضح أن هذا كان سيكون واضحاً للغاية من الناحية الصوتية للأعداء. علاوة على ذلك، كانت الغواصة عرضة لإلحاق الضرر بنفسها عندما تتقدم بأقصى سرعة.
هذه التكلفة الكبيرة التي ينطوي عليها بناء "السمكة الذهبية" تعني عدم بناء غواصات أخرى من فئتها. ومع ذلك، فقد كانت فئة بابا بمثابة التكنولوجيا الرائدة المستخدمة في الغواصات اللاحقة ذات الهيكل المصنوع من التيتانيوم، ما أدى إلى تصميمات متميزة للغواصات القاتلة مثل غواصات ألفا وسييرا وغواصات مايك فئة مايك التجريبية للغوص العميق.
أُعيدَت تسمية الغواصة كيه-222 في عام 1975، وقد خدمت الأسطول الشمالي السوفييتي لمدة 14 عاماً أخرى، حيث شاركت في حادث مفاعل في عام 1980 بسبب سقوط مفتاح ربط في الآلات أثناء إعادة تزويد قلب المفاعل بالوقود. أُخرِجَت الغواصة المصنوعة من التيتانيوم من الخدمة أخيراً في ديسمبر/كانون الأول 1984، وتُرِكَت على رصيف الميناء في سيفيرودفينسك. وظلَّت غير نشطة لمدة 24 عاماً أخرى قبل أن تُلغَى أخيراً في عام 2015.