برهن تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة نتيجة الحرب الإسرائيلية المدمرة، واستمرار التهديد الإسرائيلي بالهجوم البري في مدينة رفح المكتظة باللاجئين، على قلة الرغبة لدى الولايات المتحدة في ممارسة نفوذها- الذي لا يضاهيه نفوذ آخر في العالم- على إسرائيل، حتى إذا كانت مساعي إسرائيل تعوق واشنطن عن بلوغ الأهداف المرجوة من سياساتها المعلنة، كما يقول تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
وكشفت بيانات أصدرتها الأمم المتحدة حديثاً عن تناقص مذهل في مقدار المساعدات التي تدخل إلى غزة، إذ بلغ المعدل اليومي لشاحنات المساعدات التي وصلت إلى غزة، في المدة من 9 إلى 20 فبراير/شباط، نحو 57 شاحنة فقط، وذلك بعد أن كان المعدل يبلغ 200 شاحنة، في يناير/كانون الثاني. ويأتي هذا التناقص في وقت تزايدت فيه تحذيرات العاملين في المجال الإنساني من أن غزة المحاصرة "تنحدر انحداراً سريعاً نحو المجاعة".
أمريكا تتطلع فقط إلى صفقة للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين
في غضون ذلك، وصل بريت ماكغورك، كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، إلى إسرائيل، يوم الخميس 22 فبراير/شباط 2024. ويبدو أن إقناع إسرائيل بأن تسمح بدخول مزيدٍ من المساعدات إلى غزة ليس إلا إحدى المعضلات التي تواجه ماكغورك في هذه الرحلة. فالمُعضلة الأولى هي الضغط من أجل التوصل إلى اتفاق هدنة في غزة، لإجراء صفقة تبادل للأسرى بين إسرائيل وحماس.
صار التوصل إلى هدنة لتحرير الأسرى الإسرائيليين، الذين يُعتقد أنهم محتجزون لدى حماس، هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله الجهود الدبلوماسية للإدارة الأمريكية فقط.
قال مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون لموقع Middle East Eye البريطاني، إن الإدارة الأمريكية ترى أن هذا الاتفاق يمنح الولايات المتحدة فسحة لتهدئة التوترات مع الجماعات المدعومة من إيران مثل حزب الله والحوثيين في اليمن، وزيادة المساعدات إلى غزة، وتوفير مهلة (تنفيسٍ) سياسية للرئيس الأمريكي جو بايدن قبيل الانتخابات، وفرصة للتخفيف من وطأة الانتقادات التي يتعرض لها من التيار التقدمي في حزبه الديمقراطي بشأن دعمه المطرد لإسرائيل.
وبحسب هؤلاء، يريد بايدن أن يمتد اتفاق الهدنة حتى يصل إلى "وقف مستدام للقتال"، ويرى البيت الأبيض أن هذا المسار سيمنحه الفرصة لبدء محادثات أولية مع الحلفاء العرب بشأن حلِّ الدولتين، وسُبل التسوية النهائية للصراع.
قال بيني غانتس، الوزير في حكومة الحرب الإسرائيلية، إن مسار المحادثات يشير إلى "إمكانية إحراز تقدم". ومع ذلك قالت الحكومة الإسرائيلية إنها تُمهل حماس حتى أوائل مارس/آذار، للإفراج عن المحتجزين، وإلا فإنها ستمضي قدماً في تنفيذ تعهدها بشنِّ هجوم بري واسع النطاق على رفح.
غير أن حماس لم تُبدِ استعداداً يذكر لتجاوز مطلبها بوقف دائم لإطلاق النار، ورفع المعاناة عن أهالي غزة بزيادة المساعدات، والإفراج عن آلاف الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، والبدء في إعادة الإعمار. وليس لدى الولايات المتحدة إلا قليل من النفوذ على حركة حماس، فهي تصنفها جماعة "إرهابية"، وتتفاوض معها تفاوضاً غير مباشر بوساطة قطرية ومصرية.
لماذا لا تريد أمريكا فرض نفوذها الحقيقي على إسرائيل؟
يرى كثير من المحللين أن الإدارة الأمريكية لا تستخدم إلا جزءاً قليلاً من أدواتها الدبلوماسية لصرفِ إسرائيل عن هجومها المزمع على رفح، وإبرام صفقة تبادل الأسرى، فهي في ذلك كمن يدفع بيدٍ ويده الأخرى مكبلة خلف ظهره، وهي تكبح نفسها عن استخدام قدر أكبر مما لديها من نفوذ على إسرائيل لبلوغ أهدافها السياسية.
وفي هذا السياق، قال السيناتور الديمقراطي كريس فان هولين لموقع MEE: "ما دامت إدارة بايدن لا تستخدم النفوذ الأمريكي بالقدر الفعال، فسيبقى هناك فارق كبير بين ما يطلبونه من حكومة نتنياهو، وما تفعله تلك الحكومة في الواقع".
وألقى بايدن بثقل الولايات المتحدة ونفوذها الكامل في تأييد الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، الذي شنَّته حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية على القواعد العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة.
كان الدعم غير المشروط من إدارة بايدن لإسرائيل، في أحد أوجهه، استجابةً تلقائية من رئيس أمريكي لطالما وَصف نفسه بأنه حليف وثيق لإسرائيل على مدار مسيرته السياسية، لكن مسؤولين أمريكيين قالوا إن هذا الدعم كان أيضاً وسيلةً اتخذتها واشنطن لفرض نفوذها في الصراع، والمشاركة بتأثير أكبر في تشكيل التداعيات السياسية والإنسانية للحرب.
إلا أنَّ ما حدث أن القتال استمرّ من دون نهاية تلوح في الأفق، وأصرَّ نتنياهو على رفض معظم المبادرات الأمريكية. ولم يكتفِ بالمضي قدماً في تهديدات الغزو البري الواسع لرفح، ولا تقييد المساعدات الإنسانية لأهل غزة، بل رفض كذلك رفضاً قاطعاً الدعوات الأمريكية إلى استئناف المحادثات السياسية الرامية إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. كما شرع الجيش الإسرائيلي في بناء منطقة عازلة في غزة، رغم أن ذلك يتعارض مع ما أعلنته الإدارة الأمريكية من رغبة في بقاء حدود غزة كما كانت قبل الحرب.
وأثارت تصرفات إسرائيل بعض الخلافات والتوترات مع الإدارة الأمريكية، كان أبرز ملامحها تزايد الانتقادات العلنية من بايدن للحكومة الإسرائيلية، وتداول تسريبات إعلامية عن البيت الأبيض، يصف فيها الرئيس الأمريكي رئيسَ الحكومة الإسرائيلية بأنه "أحمق" ونعته بشتائم أخرى.
وقالت الولايات المتحدة إنها تفحص التقارير التي أشارت إلى أن إسرائيل تعمدت إلحاق الأذى بالمدنيين في غزة، للتحقق من مدى الالتزام باللوائح السارية على استخدام الدول الأجنبية للأسلحة الأمريكية.
ومع ذلك، فإن بريان كاتوليس، وهو زميل بارز في مركز أبحاث "معهد الشرق الأوسط" الأمريكي، يرى أن تقدم الإدارة الأمريكية في هذا النهج "لا يتعدى الملليمترات" في كل خطوة، و"لا يرقى أي من هذا إلى تغيير حقيقي في سياسة إدارة بايدن. فرغم الخلافات بشأن بعض القضايا الرئيسية، فإن الشغل الشاغل للإدارة الأمريكية في هذه المساعي لم يتغير، وهو دعم [ما تسميه الإدارة الأمريكية بأنه] حق إسرائيل في الدفاع عن النفس" فقط.
فخ الاستثمار الأمريكي في دعم إسرائيل
قال مسؤولون أمريكيون سابقون وحاليون لموقع MEE البريطاني، إنه لا أحد داخل الإدارة الأمريكية يريد أن تستخدم الولايات المتحدة أداةَ نفوذها الأقوى في مواجهة إسرائيل، وهي إمدادات الأسلحة.
واشنطن هي أكبر الرعاة العسكريين لإسرائيل، إذ ترسل إليها نحو 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية كل عام. ولم يكتفِ البيت الأبيض بذلك، بل تجاوز موافقة الكونغرس مرتين، منذ أكتوبر/تشرين الأول، للتعجيل بإرسال مساعدات عسكرية إلى إسرائيل، أي أن الإدارة الأمريكية استبعدت إشراف الكونغرس على مبيعات الأسلحة، وهي أداة نفوذ أخرى كان يمكن استخدامها لإبطاء الصفقات، والضغط على الحكومة الإسرائيلية.
ورغم الانتقادات التي تعرَّض لها بايدن في الأشهر الماضية بشأن دعمه المطلق لإسرائيل، فإنه لم يتوانَ عن الضغط علناً على الكونغرس للموافقة على مساعدات عسكرية إضافية بقيمة 14 مليار دولار.
لكنَّ الدعم الأمريكي لإسرائيل لا ينحصر في بايدن، فحتى نواب الكونغرس الذين ينتقدون قرارات إسرائيل في غزة لم يدفعهم ذلك إلى السعي لتقييد مبيعات الأسلحة للقوات الإسرائيلية، أو على الأقل جعل المساعدات العسكرية مشروطةً بتنفيذ الأهداف السياسية المعلنة للولايات المتحدة.
وقد وافق مجلس الشيوخ على مشروع قانون الدفاع الذي قدمته الإدارة الأمريكية، ويتضمن تخصيص 14 مليار دولار لتقديم مساعدات إلى إسرائيل، وبضع عشرات من المليارات لأوكرانيا، بأغلبية 70 صوتاً مقابل 29 صوتاً.
وقال كاتوليس إن المطالبين بقطع المساعدات العسكرية لإسرائيل لم يستوعبوا التأثير البالغ لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، في قرارات كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية، ولم يدركوا أن الدعم المطلق من الولايات المتحدة لإسرائيل منذ بداية هذه الحرب صار يعني بالضرورة أن نجاح الإدارة الأمريكية أو عدمه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنجاح الحملة الإسرائيلية على غزة أو إخفاقها.
وقال آرون ديفيد ميلر، المفاوض الأمريكي السابق في الشرق الأوسط والباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، لموقع MEE: "الإدارة تدرك أنها واقعة في (فخ استثمارها في دعم إسرائيل)، فقد ربطت نفسها ربطاً لا فكاك منه بالحرب الإسرائيلية، ولو لجأت الآن إلى قطيعة حاسمة مع نتنياهو فإنها ستجد نفسها بلا مسار واضح لسياستها" في الأزمة.
"إسرائيل ترفع ثمن" التراجع عن دعمها
البيت الأبيض مشغول كذلك بحسابات السياسة الداخلية، فتقييد مبيعات الأسلحة أو ربطها بشروط الوقف الفوري لإطلاق النار ربما يعيدان لبايدن ثقة الناخبين التقدميين والأمريكيين العرب والمسلمين، في ولاية ميشيغان المتأرجحة المهمة. لكنه سيؤدي كذلك إلى ردٍّ قوي من جماعات الضغط الإسرائيلية، وذلك في وقت يستعد فيه بايدن لمواجهة محتملة مع بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وقال فرانك لوينشتاين، المبعوث الخاص السابق للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، إن "إسرائيل تُحسن رفع الأثمان السياسية" والعواقب الناجمة عن دعمها أو التخلي عنها.
وإذا كان بايدن يواجه انتقادات حادة من اليسار التقدمي، بسبب دعمه غير المشروط لإسرائيل، فإنه سيواجه ضغوطاً لا تقل وطأة من الجمهوريين في الكونغرس إذا لاح أنه لا يدعم إسرائيل بالقدر الكافي.
وقال لوينشتاين: "لا يتعلق الأمر بأدوات النفوذ التي يمكن -نظرياً- لإدارة بايدن أن تستخدمها في الضغط على إسرائيل، وإنما يرتبط الأمر بحسابات العواقب والفوائد التي ستعود على الإدارة إن فعلت ذلك. ومن ثم إذا استبعدنا مسألة إمدادات الأسلحة، فإن الإدارة الأمريكية ليس لديها إلا القليل من الأدوات الملموسة لفرض نفوذها على إسرائيل، وربما تكون الأمم المتحدة من أدوات الترغيب والترهيب التي يمكن للولايات المتحدة استخدامها في هذا السياق.
الأمم المتحدة وتوابعها "وسيلة للتنفيس عن الضغوط"
استخدمت الولايات المتحدة، يوم الثلاثاء 20 فبراير/شباط، حقَّ النقض (الفيتو) على مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. وهذه هي المرة الرابعة التي تستخدم فيها الولايات المتحدة حق النقض لحماية إسرائيل من القرارات ومشروعات القوانين التي تخالف إرادتها وتنتقدها.
انتقدت منظمات إغاثية وإنسانية الخطوةَ الأمريكية، أما روسيا والصين فقد تزايد سرورهما بعزلة واشنطن في هذا الموقف العالمي، إذ جاء التصويت بأغلبية 13 صوتاً مؤيداً لوقف إطلاق النار مقابل صوت واحد رافض، وامتنعت بريطانيا عن التصويت.
رداً على ذلك، عمدت الولايات المتحدة إلى صياغة مشروع قرارها لوقف إطلاق النار، وضمَّنته مع ما يمكن الزعم أنه أقوى انتقادات رسمية توجهها واشنطن لإسرائيل حتى الآن. إذ يطالب مشروع القرار بالدعوة إلى "وقف مؤقت لإطلاق النار في غزة في أقرب وقت ممكن عملياً"، و"رفع جميع العوائق التي تحول دون توزيع المساعدة الإنسانية على نطاق واسع".
وأبرزت مسودة القرار استياء واشنطن من تهديد إسرائيل بغزو رفح، والدعوة إلى "عدم المضي قدماً" في هجوم بري كبير هناك، لأن ذلك "سيؤدي إلى مزيد من الأضرار للمدنيين، ويدفع إلى نزوحهم إلى دول مجاورة".
وقال لوينشتاين: "إنه أشبه بإنذار إلى بيبي [نتنياهو]"، "فالإسرائيليون حساسون للغاية إزاء قرارات الأمم المتحدة، ويعتبرونها منظمة معادية، ويعتمدون على حماية الولايات المتحدة لهم هناك".
لكن كاتوليس يقول إن هذا التحول الهين في خطاب الإدارة الأمريكية يكشف عن حدود الشروط التي ترغب الولايات المتحدة في فرضها على إسرائيل، "فالأمم المتحدة لديها بعض التأثير، لكن هل هي قادرة على إيقاف القتال؟! الواقع أن الأمم المتحدة أقرب إلى ساحة للتنفيس عن الضغوط فقط".