يحاول الاحتلال الإسرائيلي عزل المدنيين الفلسطينيين بما يمكن وصفه بـ"الكنتونات" داخل غزة، بشكل يذكّر بما قام به في الضفة الغربية منذ عام 1967، ليفتت مناطقها ويعزلها عن بعضها، ليكون الواقع أمام السكان هو تقلص مساحة غزة.
يتضح تكرار ذلك في القطاع وفق ما تتبعه "عربي بوست" من تطورات الاجتياح العسكري والمناطق التي أعلن جيش الاحتلال إخلاءها في قطاع غزة، متسبباً بنزوح داخلي كبير فيه.
ضفة ثانية وتقلص مساحة غزة
من 365 كيلومتراً مربعاً، مساحة غزة، بات المدنيون محصورين بما مجموعه 50,24 كيلومتر مربع في محافظات القطاع الخمس، وفقاً لما رصده "عربي بوست" للتوزيع الجغرافي في غزة بعد عمليات النزوح في محافظات القطاع، بالتالي تقلص مساحة غزة بالنسبة للساكنين بفعل الاجتياح الإسرائيلي.
بحسب ما حصل عليه "عربي بوست" من أرقام من مصدر في المكتب الإعلامي الحكومي في غزة متعلقة بالتجمعات السكانية في القطاع بعد الحرب، فإن أهالي غزة الذين يبلغ عددهم 2.3 مليون فلسطيني، باتوا يعيشون تحت واقع من النزوح هرباً من آلة الحرب الإسرائيلية بمشاهد أشبه بنكبة ثانية كما حصل في عام 1948، متكدسين في مناطق عدة.
قام الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 بتفتيت مناطق الضفة الغربية لتتقلص مساحة ما تبقى من فلسطين بعد الاحتلال من 22% إلى 15% فقط.
في حين ركزت العملية الإسرائيلية في حربها ضد المدنيين في غزة، على شمال القطاع في بداية العدوان 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ليقوم بعدها بدفع الفلسطينيين هناك إلى النزوح جنوباً باتجاه وادي غزة، لتبقى هناك كثافة سكانية في كل من جباليا وبيت لاهيا فقط.
لاحقاً، قام الاحتلال باستكمال عمليته نحو مدينة غزة، ثم إلى محافظة الوسطى، ومؤخراً ركز هجماته على مدينة خان يونس، ليتسبب بأكبر تكدس سكاني في محافظة رفح، التي كانت تُعد قبل الحرب أقل محافظات غزة كثافة سكانية، ليصبح تعداد المدنيين فيها من الساكنين والنازحين نحو 1.2 مليون شخص.
حشر للسكان في مناطق معينة على خريطة غزة
ترصد خريطة غزة التالية ما تتعرض له غزة من تقسيم وتفتيت، إذ إن محافظاتها الخمس، تكدس فيها المدنيون في مناطق محددة باتت محاصرة من قوات الاحتلال الإسرائيلي، الذي صار يتحدث عن مناطق إدارية لتحكمها العشائر.
وفقاً للأرقام بشأن تقلص مساحة غزة التي رصدها "عربي بوست"، بحسب مصادر حكومية في غزة، فإنه عند توزيعها على حسب المساحات التي فيها كثافة سكانية يتبين التالي:
شمال غزة: من 6958 شخص في الكليومتر المربع الواحد إلى 42016 بعد الحرب، محافظة غزة: من 9683 إلى 39215، الوسطى: من 5409 إلى 34083، خان يونس: من 3828 إلى 12376، رفح: من 4182 إلى 94488 شخص.
بحسب المناطق الأكثر كثافة سكانياً بعد عمليات النزوح، فإن:
محافظة شمال غزة باتت يتكدس فيها نحو 300 ألف شخص في مساحة 7,14 كيلومتر مربع فقط، في حين أنه كان يسكن فيها نحو 389 ألف شخص عام 2023، في مساحة 62 كيلومتراً مربعاً.
أما محافظة غزة، فإنه من أصل نحو 894 ألف شخص قبل الحرب كانوا يعيشون فيها، إلا أنه بات هناك ما يقرب من 300 ألف شخص فقط في هذه المنطقة منذ العدوان الإسرائيلي، وفي مساحة 7,65 فقط، من أصل 70 كيلومتراً مربعاً يجري فيها جيش الاحتلال عملياته، ويقوم بإجبار سكان غزة للنزوح عنها، ما أدى إلى تقلص مساحة غزة بالنسبة للساكنين والنازحين.
محافظة الوسطى، نزح إليها الكثير من المدنيين في الشمال، إلا أنه بسبب وصول العمليات العسكرية الإسرائيلية إليها، فإنهم اضطروا إلى عملية نزوح أخرى باتجاه محافظات الجنوب.
وصل عددها الحالي إلى نحو 500 ألف شخص، في حين كان عدد سكانها قبل الحرب يبلغ 333 ألف شخص، ليزداد بذلك تكدس سكان غزة فيها، ولكن في مساحة تبلغ 14,67 كيلومتر مربع فقط، من أصل مساحة المحافظة الكاملة 56 كيلومتراً مربعاً قبل الحرب في غزة.
أما خان يونس، فإنها تعد الأقل من بين المحافظات حالياً بعدد سكان غزة، وهي التي يركز فيها جيش الاحتلال عملياته الحالية في شهر فبراير/شباط 2024، بأحزمة نارية ودمار هائل، دفع بأهالي المحافظة إلى النزوح باتجاه رفح (جنوب خان يونس)، وإلى محافظة الوسطى (شمالها).
يبلغ عدد السكان في خان يونس حالياً، نحو 100 ألف فلسطيني، من أصل 331 ألف شخص قبل الحرب، وفي مساحة تبلغ 8,08 كيلومتر مربع، من أصل 54,56 كيلومتر مربع مساحة المحافظة كاملة.
في محافظة رفح، التي كانت تعد الأقل من حيث نسبة عدد السكان قبل الحرب، باتت تشهد أكبر تكدس سكاني في غزة، بعد نزوح أكثر من مليون شخص باتجاهها، ليصبح عدد قاطنيها حالياً نحو نصف عدد سكان القطاع بأكمله، بـ 1.2 مليون شخص من أصل 2.3 مليون.
أما عن مساحة رفح، فإنها تقدر بـ65 كيلومتراً مربعاً، في حين أن غالبية النازحين مكدسون في مساحة تبلغ 12,70 كيلومتر مربع بسبب ضربات الجيش الإسرائيلي، واحتمالية شنه عملية برية في المحافظة، في سيناريو لتهجير الفلسطينيين إلى خارج القطاع.
نزوح عكسي
من خلال رصد حركة النازحين داخل غزة، تبين أنه بدأ منذ بداية فبراير/شباط 2024، نزوح عكسي في كل من محافظتي رفح وغزة.
بدأ النزوح من رفح مع اشتداد الضربات الإسرائيلية على المحافظة جنوب القطاع، والتهديد الإسرائيلي باجتياحها برياً.
بحسب شهود عيان لـ"عربي بوست"، فإن آلاف الفلسطينيين ينزحون عكسياً باتجاه الشمال وتحديداً إلى المحافظة الوسطى، ليعود بعضهم إلى منازلهم التي تركوها.
مسار النزوح العسكري تركز في شارع الرشيد المحاذي لشاطئ قطاع غزة، بحسب نازحين تحدثوا لـ"عربي بوست".
"عدنان. أ"، كان مع عائلته يعيش في خيمة غرب محافظة رفح، ليقرر العودة إلى محافظة الوسطى حيث بيته، قائلاً لـ"عربي بوست": "من نزوح إلى نزوح، هذا حالنا. نزحنا ثلاث مرات، من الوسطى إلى خان يونس، ومنها إلى رفح، ونتجه الآن إلى مخيم النصيرات في الوسطى".
وأفاد بأنه وابنته الصغيرة يعانيان صحياً بسبب إصابات تعرضا لها جراء القصف الإسرائيلي في بداية الحرب، مشدداً على أهمية عرضهما للعناية الصحية، ولكنه شدد على أن الأولوية بالنسبة له ولعائلته هو سلامة جميع أفراد العائلة بعيداً والبقاء في مكان يحظى ولو ببعض الخدمات مثل الحال التي عليها بعض المناطق في محافظة الوسطى.
وقال: "أخبرنا أقرباؤنا عن الأوضاع في المحافظة الوسطى، حيث بعض الخدمات الغذائية والطبية، ونحن نرى نية الاحتلال دخول رفح، فكان لابد من العودة على الأقل إلى بيتنا"، مضيفاً: "إذا ميتين هون ولا هون، خلينا نموت في بيتنا أفضل".
"أحمد. ع"، قرر كذلك النزوح عن مدينة رفح، بعد مغادرة منزله في الزوايدة في محافظة الوسطى، بسبب القصف الإسرائيلي، حاملاً أمتعته وخيمته التي عاش فيها لأشهر في رفح، يخاف من تكرار نزوح مجدداً.
وقال: "لا نعرف ما سيحصل لنا، مررنا في شارع الرشيد، والوضع آمن في التنقل من خلاله إلى محافظة الوسطى، وهذا ما شجعنا على قرار العودة إلى منزلنا".
عن حالتهم هذه، أضاف: "تعبنا، لا أحد في العالم يسأل على حالنا، الغزاوي إما نازح أو شهيد".
شمال غزة يشهد كذلك نزوحاً عكسياً إليه من محافظة غزة تحديداً، ليصل عدد سكانه حالياً إلى نحو 300 ألف، بعد أن كان وصل عددهم إلى 120 ألفاً فقط بسبب عمليات النزوح باتجاه وادي غزة.
الهجرة العسكية هذه، سببها بحسب المصادر، البحث عن مأوى وبعض الخدمات والغذاء.
يغادر النازحون محافظة غزة على أقدامهم باتجاه شمال غزة، إلى جباليا وبيت لاهيا، وذلك خشية استهدافهم في حال استخدام المركبات أو حتى العربات التي تجرها الحيوانات.
مناطق إدارية
يأتي واقع المحافظات الخمس في غزة، من تكدس السكان والنازحين فيها وتقلص مساحة غزة بالنسبة لهم، فيما يتحدث الإعلام العبري عن خطة للجيش الإسرائيلي تتضمن تقسيم غزة إلى مناطق، وأن تسلم حكمها إلى العشائر، لتتولى مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية.
جاء ذلك بحسب قناة "كان" التابعة لهيئة البث الإسرائيلي الرسمية، 2 يناير/كانون الثاني 2024، بأنه "سيتم تقسيم القطاع إلى مناطق ونواح، حيث ستسيطر كل عشيرة على ناحية، وستكون مسؤولة عن توزيع المساعدات الإنسانية".
ما يدعم هذا التوجه، ما أوضحته الخرائط في بداية التقرير، من تكدس السكان في مناطق ونواح أشبه بـ"الكنتونات".
وأفادت "كان" العبرية بأن "العشائر المعروفة لدى الجيش وجهاز الأمن العام (شاباك)، ستقوم بإدارة الحياة المدنية في غزة لفترة مؤقتة"، دون تحديدها.
ونقلت عن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، قوله أمام لجنة الأمن والخارجية في الكنيست، إنه "لا جدوى من الحديث عن السلطة الفلسطينية كجزء من إدارة غزة، طالما أنها لم تخضع لعملية تغيير جوهرية"، وفق تعبيره.
خطة تجريبية في حي الزيتون
كذلك أورد إعلام عبري الخميس 22 فبراير/شباط 2024، أن الاحتلال يسعى لإطلاق "خطة تجريبية" يسلّم خلالها مدنيين فلسطينيين إدارة أحياء قطاع غزة عوضا عن حركة "حماس".
بحسب القناة "12" العبرية، فإن الخطة التجريبية ستكون في "حي الزيتون" في محافظة غزة، قائلة: "باشر الجيش الإسرائيلي بتطهير حي الزيتون شرق مدينة غزة من المسلحين، حتى تتمكن إسرائيل من تنفيذ خطة تجريبية، يتولى في إطارها مواطنون مدنيون من غزة إدارة الحي بدلاً من حماس".
لكن لم توضح كيف سيتمكن الاحتلال الإسرائيلي من إقناع الفلسطينيين بالتعاون معها بهذا الإطار.
يأتي الحديث الإسرائيلي عن تسليم حكم حي الزيتون للعشائر فيه، بعد أيام من شن جيش الاحتلال عملية عسكرية واسعة في حي الزيتون، بهدف إخلائها من المسلحين، وفق قوله.
إطالة أمد الحرب
عن الهدف من إجبار سكان غزة على التكدس في مناطق محددة ومنعهم من التحرك في باقي مناطق القطاع وتقلص مساحة غزة أمامهم، قال الخبير في الشأن الإسرائيلي مأمون أبو عامر لـ"عربي بوست"، إنه يعتقد بأن السبب هو "إطالة أمد الحرب" في غزة قدر الإمكان.
وقال إنه في حال شن عملية عسكرية على رفح، فإن الاحتلال قد يتذرع بالمناطق المتبقية في شمال غزة وغزة والوسطى لدخولها أيضاً بعد رفح أو قبلها، بسبب الضغوط الأمريكية والدولية عليه بعدم شن الهجوم البري عليها، لا سيما أنها تضمن أكبر نسبة للنازحين في القطاع.
رأى في ذلك سعياً من الاحتلال إلى "تحويل هذه المناطق إلى رصيد احتياطي لوقت العملية، بحيث كلما يريد أن يمدد العملية العسكرية واستمرار الحرب، يبرر ذلك بأن هذه المناطق ما يزال فيها مقاومة فلسطينية.،وأنه لا بد قبل إنهاء الحرب القضاء على القدرة العسكرية لكتائب القسام، بالتالي تسيير العملية إلى مدى أكبر، كما يريد نتنياهو، ووفق ما هو متفق عليه مع الإدارة الأمريكية".
في حين ما يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي، يشن عمليات هجومية في محافظتي غزة وخان يونس، مركزاً عملياته هناك، ضمن الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، التي راح ضحيتها أكثر من 29 ألف شهيد فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء، في حين يأتي تقلص مساحة غزة أمام الفلسطينيين بفعل الاجتياح البري الذي قام به في القطاع، بإجبار الناس على إخلاء غالبية مناطقه.