"أول شيء يريد الطبيب القيام به هو تخفيف آلام مرضاه، لكن هذا أمر مستحيل في غزة"، هكذا لخص طبيب بريطاني متطوع موقف الكارثة الصحية في قطاع غزة، فكيف جاءت شهادته؟
الطبيب جيمس سميث، البالغ من العمر 35 عاماً، عمل كمتطوع في غزة ضمن وفد طبي طارئ، وبعد عودته إلى لندن، أجرت صحيفة Haaretz الإسرائيلية مقابلة معه، وصف فيها بعضاً مما شاهده من آثار الكارثة الصحية في قطاع غزة.
وضع إنساني "مستحيل" في غزة
وصف الدكتور سميث المشهد الذي كان يتكرر عدة مرات في اليوم: سكان قطاع غزة يحملون مصابي القصف الإسرائيلي، ملفوفين بالبطانيات، ويضعونهم على أرض المستشفى.
وقال لـ"هآرتس" في مقابلة بعد عشرة أيام من عودته إلى لندن: "إلى أن نفك البطانيات من على المصاب، لم نكن نعرف ما إذا كان الشخص الموجود بالداخل لا يزال على قيد الحياة". عمل سميث في غزة كمتطوع في أواخر ديسمبر/كانون الأول وأوائل يناير/كانون الثاني.
جاء سميث إلى غزة كجزء من وفد طبي طارئ نُظِّمَ بشكل مشترك من قبل جمعية العون الطبي للفلسطينيين، ومقرها لندن، ولجنة الإنقاذ الدولية. ويدخل العشرات من أفراد الطواقم الطبية مثله إلى غزة كل أسبوع. ويعود جميع المتطوعين إلى بلدانهم بنفس النتيجة، وهي أنه من بين جميع مناطق الحرب التي تطوعوا فيها، بما في ذلك سوريا وأوكرانيا، فإن قدرتهم على إنقاذ الأرواح هي الأكثر تقييداً في غزة.
سميث، وهو متخصص في طب الطوارئ، عمل أيضاً لدى منظمة أطباء بلا حدود. وأضاف أن "الكارثة في غزة أسوأ من أي شيء رأيته في الماضي". لكن ذلك لم يمنعه من محاولة العودة إلى غزة رغم الإحباط المستمر.
قال سميث للصحيفة العبرية: "أول شيء يريد الطبيب القيام به هو تخفيف آلام مرضاه. ولكن بدون وجود ما يكفي من الموظفين والمعدات والأدوية، خاصة مسكنات الألم التي يحتاجها المرضى والجرحى في غزة، فإن هذا مستحيل".
ووصف عجز الأطباء بأنه مؤلم للجميع، مضيفاً: "إننا نمر بأزمة مزدوجة: حجم العنف نفسه وعدم قدرتنا على الاستجابة وتوفير الاحتياجات الأساسية للناس".
حديث "المساعدات"
وعلّق الطبيب البريطاني على الحديث المتكرر عن إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، قائلاً "إن وسائل الإعلام العالمية مهووسة بالمساعدات، وهذا يخلق انطباعاً خاطئاً بأن الوضع يتحسن. ولكن داخل غزة، يعلم الجميع أنه طالما استمرت الحرب ولم يكن هناك وقف لإطلاق النار، فلن تتمكن من الوصول إلى المساعدات الإنسانية".
سميث يعمل أيضاً كمحاضر في السياسات والممارسات الإنسانية في كلية لندن الجامعية. وكان يقضي ساعات عمله كافة في غزة في غرفة الطوارئ في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح.
وسرعان ما اكتشف الطبيب البريطاني أن الجرحى الذين نُقِلوا إلى المستشفى لم يتلقوا الإسعافات الأولية قبل تحميلهم في سيارة إسعاف أو سيارة شخصية. وبسبب خطر قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف منطقة أو مبنى مرة أخرى، يضطر رجال الإنقاذ إلى نقل الجرحى إلى المستشفى دون السيطرة على حالتهم في مكان الحادث. وتُوفِّي العديد منهم وهم في طريقهم إلى المستشفى نتيجة لذلك.
ومنذ شنّت إسرائيل عدوانها على غزة، تعرضت مستشفيات القطاع والأطقم الطبية وعربات الإسعاف إلى الاستهداف المباشر، وهو ما يعتبر جريمة حرب بحسب القانون الدولي والإنساني.
يقع العديد من حوادث الإصابات الجماعية كل يوم بالقرب من دير البلح أو داخلها. عندما كان سميث هناك، كان المستشفى مكتظاً جداً بحيث لم يكن من الممكن علاج الجرحى إلا على الأرض. ويتم إحضار العديد من المرضى إليه لأن نظام الطب الوقائي انهار تماماً. فقد دمر القصف الإسرائيلي العيادات، وهجَّر أو قتل أو أصاب العاملين في المجال الطبي، علاوة على أن الأدوية نادرة. وتمتلئ غرف الطوارئ بالأشخاص الذين يمكنهم الحركة ولكنهم يشتكون من بعض الألم أو المرض، بحسب تقرير هآرتس.
المصابون في أروقة المستشفى
كان المستشفى يضم 650 مريضاً عندما كان سميث هناك، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف عدد الأسرّة الـ250. ولأن الناس شعروا أن المبنى أكثر أماناً من الخيمة أو المدرسة، استمر الكثيرون في البقاء هناك بعد العلاج. وانضمت إليهم عائلاتهم والنازحون بعد أن أمرهم جيش الاحتلال بمغادرة منازلهم. ونتيجة لذلك، استأجر المستشفى عدة مبانٍ مجاورة. لكن أولئك الذين لجأوا إلى هناك وجدوا أن المستشفى والمباني المستأجرة حوله لم تكن آمنة وسط اقتراب المعارك والقصف المتكرر.
خلال أيامه القليلة الأولى في غزة في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، لم يتمكن سميث من تذكُّر ما حدث في اليوم السابق. وقال: "غضبت من نفسي لأنني شعرت أن هذا النسيان ربما يكون نوعاً من عدم احترام المرضى". لكن الصدمة الأولية والفوضى والأزيز المتواصل للطائرات المسيَّرة تقدم تفسيراً أكثر إقناعاً لنسيانه.
"كان الأزيز المزعج للطائرات المسيَّرة هو أول ما لاحظته، وسرعان ما فهمت التهديد الذي تمثله". وأضاف: "في بعض الأحيان، تحلق طائرتان مسيَّرتان فوق منطقة معينة، وكان زملائي الذين اعتادوا على ذلك، يتوقعون أن المكان سيتعرض للهجوم قريباً. الكبار مثل الأطفال يعرفون كيفية التمييز بين أنواع القنابل والقذائف المختلفة"، يقول سميث.
وربما كانت صعوبته في التذكُّر ترجع أيضاً إلى الحرمان من النوم خلال تلك الأيام القليلة الأولى؛ حيث هزت الغارات الجوية المبنى بأكمله. كانت شديدة بشكل خاص في الليل ومتواصلة تقريباً. وقال: "أتذكر هذا الرقم جيداً. لقد قُتل 374 عاملاً طبياً في الغارات الجوية الإسرائيلية". ولكن في النهاية، انتصر الإرهاق، وتمكن من النوم.
رغم مشكلات الذاكرة هذه، لا تزال بعض الأحداث محفورة في ذاكرته. كان هناك، على سبيل المثال، متطوع في الأونروا (وكالة الأمم المتحدة التي تساعد اللاجئين الفلسطينيين) "مستلقى على الأرض، ينزف، ويطلب الماء طوال الوقت. بُتِرَت ساقاه. ويُعَد بتر الأطراف شائعاً جداً بسبب الإصابة بصواريخ أو شظايا قنابل".
الوضع في غرفة الطوارئ!
في إحدى حوادث الإصابات الجماعية، أُحضِرَ طفل يبلغ من العمر 6 سنوات إلى المستشفى، ملفوفاً ببطانية ملونة، ووُضِعَ على الأرض. وقال الطبيب: "كان هناك أشخاص حوله، لذا افترضت أنهم أقاربه وأنه يتلقى الرعاية". وقال سميث إنه عندما يكون أقارب المريض معه، فإنهم يكونون قادرين على حثه على العلاج والمطالبة به. وقال إن تدخلهم موضع ترحيب بشكل خاص عندما تكون غرفة الطوارئ فوضوية لأنه "من الصعب للغاية الاهتمام بالجميع عندما يكون هناك مئات الأشخاص".
وبعد فترة، دخل أحد الجراحين غرفة الطوارئ بالصدفة، واشتبه في أن الصبي لا يتلقى أي رعاية. ذهبوا إليه. وكان يعاني من حروق في وجهه وجرح غليظ في الجانب الأيمن من صدره وصل إلى رئته. وقال سميث: "خضع الصبي لعملية جراحية، وعندما غادرت المستشفى، كان لا يزال على قيد الحياة".
وكان مريضه الأخير طفلاً يبلغ من العمر 12 عاماً أُصيبَ بالرصاص بالقرب من مخيم النصيرات للاجئين. وأضاف الطبيب البريطاني: "عثر عليه شقيقه وأحضره في عربة يجرها حمار. كان يعاني من جروح مفتوحة رهيبة في حوضه، على الجانب الأيمن. فقد الكثير من الدماء وكان شاحباً للغاية. قمنا بنقل دم له، وتلقى الإسعافات الأولية اللازمة ونُقِلَ إلى سرير خارج غرفة الطوارئ. بدا وكأنه يتعافى. كنت أعلم أنه بحاجة إلى تطعيم".
"لم أره لبضع ساعات. ولكن قبل وقت قصير من مغادرتي المستشفى، قمت بفحصه مرة أخرى. كان شاحباً جداً مرة أخرى. ثم اكتشفت بركة من الدم في السرير تحت ظهره. ووقف أبوه بجانبه وبكى"، بحسب سميث.
رأى سميث العديد من المصابين الذين "في أي حالة أخرى، لم يكونوا ليمرضوا، أو لم تكن حالتهم لتتدهور كثيراً، لأنهم لم يروا طبيباً، ولم يجدوا الدواء، ولم يأكلوا ما يكفي لأيام، أو يشربون مياهاً ملوثة … جاء الناس يعانون من آلام في الصدر، وآخرون أصيبوا بنوبة قلبية".
وقال: "رأيت رجلاً يبلغ من العمر 50 أو 60 عاماً نُقل إلى المستشفى ميتاً. وقالت عائلته إنه سقط ومات في منتصف الشارع. ورأيت اثنين من مرضى الكلى الذين فاتتهم علاجات غسيل الكلى المعتادة". وكان جيش الاحتلال قد حاصر المستشفى الذي كان يقدم فيه العلاج.
كيف يتعامل الأطباء والممرضون في غزة؟
لاحظ سميث علامات الصدمة فور دخوله غزة. لقد رآها في الوجوه الخالية من التعبير وفي ذلك السكون وسط كل هذه الفوضى. وقال: "لم يكن هذا قبولاً، بل صدمة جماعية". وأضاف: "جاءني أحد الأطباء في المستشفى في اليوم الثاني بعد وصولي، وهو طبيب عمل دون توقف لمدة 10 أسابيع. وسألني من أين أتيت، ثم سألني: "لماذا يكرهنا العالم نحن الفلسطينيين؟" بالنسبة لي، لخص هذا حالة اليأس والاستنزاف العام".
بالإضافة إلى ذلك، يعاني الأطفال غير المصابين من قلق متواصل. لقد أصبح ذلك واضحاً من خلال العادات العصبية التي تطورت لديهم.
مثل كل طبيب أجنبي تطوع في غزة، يشعر سميث بالرهبة أمام العاملين الفلسطينيين في القطاع الطبي. وقال إن تفانيهم في خدمة المرضى والجرحى أمر استثنائي.
اضطر فريقه إلى مغادرة غزة في وقت أبكر مما كان مخططاً له، وهو ما يأسف له. وفي 6 يناير/كانون الثاني، أُبلِغوا بأن الجيش الإسرائيلي قد أسقط منشورات تأمر كل من يعيش في المباني المحيطة بالمستشفى -والعديد منهم كانوا نازحين بالفعل من مناطق أخرى- بمغادرة المنطقة.
ويعيش المتطوعون الطبيون في مجمع سكني في منطقة المواصي الصغيرة جنوب دير البلح، مع عائلات الموظفين الفلسطينيين. وكانوا يسافرون يومياً إلى المستشفى عبر الأحياء التي حدَّدها الجيش الإسرائيلي ليقصفها. علاوة على ذلك، كما هو الحال في أماكن أخرى، كان من الواضح أن الخطوة التالية ستكون تطويق المستشفى نفسه ومطالبة جميع المقيمين فيه بالمغادرة.
ونتيجة لذلك، لم يعد كامل طاقم الطوارئ الطبي الذي تطوع فيه إلى المستشفى مرة أخرى. ومُنِعَ الطاقم الطبي المحلي من الذهاب، رغم بقاء مئات المرضى في الداخل. وكانت إحداهم موظفة في وكالة المغرب العربي للأنباء أُصيبَت في غارة جوية ضربت المبنى الذي كانت تقيم فيه هي وعائلتها منذ نزوحهم. وقُتِلَ في القصف بعض أقاربها، ومن بينهم ثلاث شقيقات.