يقول جو بايدن إنه يريد أن يحتوي الموقف المشتعل في الشرق الأوسط، بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لكن أفعاله وضرباته العسكرية لا يبدو أنها تحقق أهدافها، فماذا يحدث؟
"الضربات الأمريكية ترسل رسالة خاطئة"، تحت هذا العنوان نشرت شبكة CNN مقالاً يرصد تأثير الرد الأمريكي على هجوم الأردن، الذي أودى بحياة 3 وأصاب العشرات من القوات الأمريكية، وهل نجح ذلك الرد، الذي جاء مساء الجمعة 2 فبراير/شباط على أهداف في العراق وسوريا، في تحقيق أهداف الرئيس جو بايدن أم لا؟
ما "رسالة" الرد الأمريكي على هجوم الأردن؟
كانت قاعدة "البرج 22" في الأردن قد تعرضت الأسبوع الماضي لهجوم بمسيرة أطلقتها من وصفتها واشنطن بأنها ميليشيات مدعومة من إيران، وأعلنت إدارة الرئيس جو بايدن أنها سترد بقوة على أول هجوم منذ أكتوبر/تشرين الأول يتسبب في مقتل أمريكيين، وأثار الهجوم مطالبات من الكونغرس إلى البيت الأبيض للردِّ بعمل عسكري يستهدف طهران مباشرة.
ووصفت وسائل إعلام أمريكية الضربات العسكرية، التي أمر بها بايدن واستهدفت أكثر من 85 هدفاً على الأراضي العراقية والسورية، بأنها مصممة "لإرسال رسالة"، لكن ما هي تلك الرسالة تحديداً وهل من المحتمل أن تكون قد وصلت إلى مستقبليها؟، هكذا تساءل مقال "واشنطن بوست".
كان جو بايدن قد أخبر الصحفيين، الثلاثاء 30 يناير/كانون الثاني، أنه قد "اتخذ القرار بشأن ما سيقوم به، بينما قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض إنه "من حسن الفِطَن أن تتوقعوا أننا سنرد بالطريقة المناسبة". وبعد نحو 4 أيام، وقعت الضربات العسكرية، وهو وقت كافٍ بالنسبة لأي عسكريين إيرانيين تابعين للحرس الثوري أن يحزموا حقائبهم ويغادروا القواعد المستهدفة بطبيعة الحال، بحسب مقال الصحيفة الأمريكية.
كما رصد المقال تصريحات إدارة بايدن المتكررة بأنها لا تريد الدخول في حرب مباشرة مع إيران، وهو ما يراه كاتب المقال خطأ استراتيجياً، على أساس أن جزءاً رئيسياً من أي خطة ردع هي ألا "تخبر عدوك بما تنوي فعله أو بما قد تفعله".
وبشكل عام، لا يعتبر ما أقدم عليه بايدن، أي توجيه ضربات عسكرية إلى أهداف في العراق وسوريا يقول إنها تخص ميليشيات تدعمها إيران، حدثاً فريداً من نوعه، فتلك هي السياسة نفسها التي تتبعها الولايات المتحدة على مدى سنوات بل عقود، ولم تنجح تلك السياسة مطلقاً في وقف "حرب الظل" المستمرة بين واشنطن وطهران في أنحاء المنطقة.
لماذا لا تحقق ضربات بايدن أهدافها؟
"السبيل الوحيد للتقليل من خطر اندلاع حرب إقليمية على نطاق واسع يمر عبر تركيز الولايات المتحدة جهودها على التعامل مع السبب الجذري لهذا الحريق المشتعل: الحرب (الإسرائيلية) المستمرة على قطاع غزة"، بحسب مقال واشنطن بوست.
وفي هذا الإطار، يقول المقال إن الهجمات الأمريكية خلال الأشهر الماضية فشلت في "ردع إيران ووكلائها"، حيث وجهت الولايات المتحدة ضربات متكررة لأهداف حوثية في اليمن، لكن تلك الضربات لم تمنع الحوثيين من استهداف السفن التجارية الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى إسرائيل، كما أطلقت الجماعة اليمنية، التي تقول واشنطن إن إيران تدعمها، صواريخ استهدفت سفينة حربية أمريكية. ويوم الجمعة 2 فبراير/شباط، أسقطت القوات الأمريكية 12 صاروخاً حوثياً خلال 12 ساعة فقط. وتكرر الأمر السبت، قبل أن تضرب القوات الأمريكية والبريطانية 33 هدفاً في 10 مواقع داخل اليمن.
هذا السيناريو بات متكرراً ولا يبدو أنه يحقق أياً من أهدافه، بل العكس هو الصحيح تماماً. الشهر الماضي، استهدف هجوم بمسيرة أمريكية أحد قادة ميليشيات عراقية مدعومة من إيران، مما أدى إلى غضب عراقي انعكس في المفاوضات الجارية لانسحاب القوات الأمريكية من البلاد، وهي خطوة تهدم في نهاية المطاف أهداف السياسة الإيرانية وليست الأمريكية.
وتطرَّق مقال واشنطن بوست إلى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان صيف 2021 وكيف أن ذلك صبّ في مصلحة إيران، ولا شك أن "الانسحاب من العراق لن يخدم سوى الأهداف الإيرانية. فمن وجهة نظر طهران، يبدو أن هدف استبدال أمريكا كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط يسير في الاتجاه الصحيح".
كما أن تصريحات وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بأن ضربات الجمعة هي مجرد البداية لا يبدو أنها تمثل أي إضافة في هذا السياق. أما شن هجمات سيبرانية على أهداف عسكرية داخل إيران قادرة على إلحاق الضرر بعناصر رئيسية في هياكل القيادة والسيطرة قد تستغرق أسابيع للقيام بها.
حرب إسرائيل على غزة
إذا كانت هذه الضربات العسكرية والأفعال التي يرتكن إليها بايدن لا تحقق أهدافه بل ترسل رسالة "خاطئة" لجميع الأطراف وتقرّب المنطقة أكثر من صراع أوسع وأشمل، فلا بد أن تتحرك واشنطن وبسرعة للتعامل مع الدافع وراء الحريق الإقليمي الحالي الذي يهدد بالانتشار في ربوع الشرق الأوسط. وهذا الدافع هو الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، وعقد صفقة تبادل الأسرى، إضافة إلى وجود خطة قابلة للتنفيذ لما بعد توقف القتال.
كانت إسرائيل قد شنَّت منذ عملية "طوفان الأقصى" العسكرية، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، قصفاً جوياً وبحرياً على قطاع غزة، تبعه اجتياح بري، تسبب في ارتقاء أكثر من 27 ألف شهيد، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، من نساء وأطفال، كما دمرت البنية التحتية للقطاع بشكل كامل.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر 7 أكتوبر/تشرين الأول، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني"، والتي تجاوزت كل الخطوط الحمراء منذ تولي أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً المسؤولية أواخر عام 2022.
لكن أفعال بايدن لا يبدو أنها تخدم هدف إيقاف تلك الحرب الإسرائيلية المدمرة، في ظل دفاعه المستمر عن إسرائيل وتبنيه لكل موقف تتخذه حكومتها المتطرفة، على الرغم من أن بايدن بدأ يفقد صبره مع رئيس تلك الحكومة بنيامين نتنياهو، بحسب التسريبات الإعلامية الأمريكية.
ففي الوقت الذي يقول بايدن إنه يعمل على تنفيذ تلك الأهداف – أي وقف الحرب على غزة وتبادل الأسرى ووضع خطة قابلة للتنفيذ في اليوم التالي لتوقف القتال – نجد أنه يتبنى الادعاءات الإسرائيلية بحق الأونروا، وهي المؤسسة الوحيدة التي يمكنها توفير المأكل والمسكن والتعليم لأهالي قطاع غزة، كما فعلت على مدار العقود الماضية، بحسب مقال واشنطن بوست؛ إذ إن حقيقة الأمر هي أنه لا تمتلك أي دولة عربية القدرة على أو الرغبة في الاضطلاع بهذا الدور في القطاع. كما أن إسرائيل، دولة الاحتلال، لا يمكنها أصلاً أن تحكم غزة، "فهذا تفكير غير واقعي تماماً".
هل يغرق بايدن في رمال الشرق الأوسط؟
كانت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية قد رصدت مأزق بايدن، قبل توجيه الضربات في العراق وسوريا، وكيف أن الحرب غير المباشرة بين واشنطن وطهران قد تتحول إلى حرب مباشرة. فقد خاضت الولايات المتحدة وإيران حربَ ظلٍّ مشتعلة في جميع أنحاء الشرق الأوسط طيلة عقود من الزمن على أساس قاعدةٍ أضمرَ الطرفان التوافقَ عليها، وهي أنه إذا هاجم أيُّ طرف منهما الآخر، فإن الطرف الآخر سيرد عليه، وبالقوة ذاتها على الأقل.
فإدارة جو بايدن تعتقد أن مهاجمة قوات الحرس الثوري الإيراني تخاطر بتعريض القوات الأمريكية وقواعد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لضربات مقابلة تستخدم فيها طهران ترسانتها الهائلة من الصواريخ الباليستية المتقدمة والطائرات المسيَّرة، ويعني ذلك المجازفة بتوسيع الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين في قطاع غزة إلى صراع إقليمي ممتد، وهو أمر يسعى البيت الأبيض إلى تجنب وقوعه لأن الإدارة الأمريكية مقبلة على الانتخابات الرئاسية.
وفي هذا الإطار جاء الرد الأمريكي على هجوم الأردن، بحسب تحليل لشبكة CNN، عنوانه "ماذا نفهم من الضربات الأمريكية الانتقامية ضد وكلاء إيران في العراق وسوريا". "كانت تلك الضربات عبارة عن خيار واضح ومحسوب، حيث تواجه إدارة بايدن مهمة مستحيلة؛ الضرب بقوة كافية لإظهار أنك تعني ما تقول، لكن أيضاً تضمن أن عدوك لديه القدرة على امتصاص الضربة دون أن يرد بعنف".
وفسر تحليل الشبكة، بناء على مصادر داخل الإدارة، أسباب إصدار تحذيرات مسبقة بالضربات وربما أهدافها أيضا قبل 5 أيام من وقوعها، وتلك الأسباب هي إعطاء الفرصة للميليشيات المستهدفة لإخلاء تلك المواقع وتقليل الخسائر في الأرواح، وأيضاً لضمان عدم وقوع خطأ في الحسابات يؤدي إلى اعتبار أنها ضربات إسرائيلية فترد الميليشيات المستهدفة بتوجيه ضربات إلى أهداف إسرائيلية.
وقارنت CNN في تحليلها بين اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بأمر من الرئيس السابق دونالد ترامب، وبين الضربات التي أمر بها بايدن، معتبرة أن الاختلاف ينبع من طبيعة الظروف في المنطقة. فاغتيال سليماني في يناير/كانون الثاني 2020 جاء في توقيت كان الشرق الأوسط لا يشهد حريقاً مشتعلاً كما هو الحال مع ما يواجهه بايدن حالياً.
الخلاصة هنا هي أن بايدن يبدو وكأنه يغرق في الصراع المشتعل في الشرق الأوسط، فبدلاً من أن يتعامل مع السبب الجذري والوحيد لهذا الصراع، يركز الرئيس الأمريكي على التعامل مع أعراض المرض، ويزيد الطين بلة حسابات الرئيس الأمريكي الانتخابية؛ مما يجعل الخيارات أمامه "أحلاها مر".