قبل عام ونصف، عشية الانتخابات التي فاز فيها بولايته السادسة، لخص بنيامين نتنياهو حياته وإنجازاته في كتاب بعنوان "بيبي: قصتي". لكن هذه السيرة الذاتية أصبحت بالية بسرعة لم تسبقها إليها أي سيرة أخرى. فأي كتاب مستقبلي عن نتنياهو سيركز على حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول وتداعياتها الكارثية. ومن تلك اللحظة فصاعداً، باتت قصته هي الكارثة التي حل بها على إسرائيل، وستتحول إلى الحدث الأبرز في حياته المهنية وفي تاريخ إسرائيل٬ كما تقول صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
وأضافت الصحيفة أن أي شيء آخر قاله أو فعله نتنياهو قبلها سيُحصر في الفصل التمهيدي، وفي دروس التاريخ سيُذكر في قائمة "الأسباب والظروف التي أدت إلى هذه الكارثة".
"نتنياهو قاد إسرائيل إلى حافة الفناء"
تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية: "لربما يتساءل المرء إن كان نتنياهو يفكر في ما إذا كان خطأ حياته هو الإصرار على (البقاء في المضمار) والعودة إلى السلطة، بدلاً من التوقيع على صفقة الإقرار بالذنب التي عرضها عليه المدعي العام السابق أفيحاي ماندلبليت، والتقاعد. أم من الممكن أن خلف هذه الصورة العامة التي تبدو متماسكة، شخصاً يعترف بأخطائه، ويدرك أن فوزه في الانتخابات الأخيرة وتشكيل (حكومة يمينية بالكامل) قادا بلاده إلى حافة الفناء؟".
ووجهت محكمة العدل الدولية في لاهاي، يوم الجمعة 26 يناير/كانون الثاني، ضربة أخرى لنتنياهو بموافقتها على النظر في الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا، واتهمت فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.
ولم يجد الإسرائيليون عزاءً في امتناع القضاة عن المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة. إذ يقدم حُكمهم إسرائيل على أنها متهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية، ويحذرها من التلاعب بأي أدلة ويطالبها بتقديم تقارير عن سلوكياتها، إضافة إلى ذكره العديد من الشخصيات البارزة بالاسم، مثل الرئيس الإسرائيلي ووزيري الدفاع والخارجية، في قائمة المتهمين بالتحريض على الإبادة الجماعية.
وصحيحٌ أن نتنياهو كان أكثر حذراً منهم في خطاباته العلنية ولم يندفع إلى الشعارات التحريضية، لكن مسؤوليته الشاملة كانت واضحة أمام القضاة، الذين استشهدوا بتوعده بحرب طويلة الأمد.
ويا لها من مفارقة تاريخية! نتنياهو، الذي يُعتبر في إسرائيل أكثر قادتها خوفاً وتردداً في استخدام القوة وخوض الحروب، أصبح الآن في قائمة واحدة مع فلاديمير بوتين وراتكو ملاديتش وحكام ميانمار. وإذا نجحت جنوب أفريقيا في دعواها وقررت المحكمة أن إبادة جماعية تحدث في غزة، فسيُضاف اسم نتنياهو إلى قائمة أكثر زعماء العالم شراً٬ كما تقول "هآرتس".
"إسرائيل ملزمة بالتعامل مع العواقب القاسية القادمة"
وتقول "هآرتس"٬ إن حكم محكمة العدل الدولية يعد أعظم انتصار، على الإطلاق لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات "BDS"، التي تنكر شرعية وجود إسرائيل. وهو أسوأ ألف مرة من قرار الأمم المتحدة الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية، وأسوأ من المظاهرات في الجامعات الأمريكية أو دعوات المقاطعة التي أطلقها روجر ووترز وأمثاله.
والإذن الظاهري الذي منحه القضاة بمواصلة الحرب قد يتحول إلى فخ لا ينتج عنه إلا تقديم أدلة إضافية ضد إسرائيل في وقت لاحق. وحتى مع ذلك، وحتى لو توقف القتال قريباً، فنطاق القتل والدمار الذي حدث بالفعل في غزة لم يتضح بالكامل بعد، وسيكون لزاماً على إسرائيل أن تتعامل مع العواقب القاسية المترتبة على ذلك.
وحكومة نتنياهو الحالية بدأت ولايتها ببيان يقول إن "الشعب اليهودي له الحق الحصري وغير القابل للنقاش في الأرض بأكملها" (البند الأول في المبادئ التوجيهية للحكومة).
أي بكل وضوح، ليس للفلسطينيين أي حقوق في هذه الأرض، ولا حتى في قطاع غزة. وكان نتنياهو يتمنى، ويبدو أنه صدق، أن الحركة الوطنية الفلسطينية، التي ناضل ضدها طوال حياته، تتراجع وربما تتفكك من تلقاء نفسها.
ويبدو أن خطابه الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي بشر فيه باتفاق سلام وشيك مع السعودية دون اعتراض الفلسطينيين، كان بمثابة احتفال سابق لأوانه بالنصر شجع حماس على شن هجومها بعد أسبوعين.
"دولة مجرمة وقاتلة"
وقضت المحكمة في لاهاي الآن بأن الفلسطينيين مجموعة تتمتع بحق الدفاع عن نفسها. وتبين أن حق الشعب اليهودي ليس حصرياً، وهو بالتأكيد قابل للطعن أمام محكمة العدل الدولية.
وعوضاً عن أن يعمل نتنياهو- الذي بدأ مسيرته بخطابات نارية ومجيدة في الأمم المتحدة- على تعزيز مكانة إسرائيل في المجتمع الدولي، كما تعهد في كتابه الأول "مكانة بين الأمم"، أوصلها إلى هذه المكانة: دولة مجرمة وقاتلة.
فالشخص الذي اتهم إيران بالتحريض على الإبادة الجماعية، ويلوح كثيراً بصور معسكر أوشفيتس، أصبح الآن هو نفسه متهماً بالإبادة الجماعية. وصحيحٌ أن إسرائيل ليست وحدها، وحتى بعد 113 يوماً من القتال، تواصل الولايات المتحدة دعمها، وأعلنت أنها ستزود إسرائيل بالطائرات الحربية والمروحيات القتالية والأسلحة للقوات الجوية التي تشن كثيراً من الغارات الجوية في غزة، فهذا ليس كافياً وقد يتغير.
وكما قال أول رئيس وزراء إسرائيلي، ديفيد بن غوريون: "مصير إسرائيل يعتمد على أمرين: قوَّتها وسرديتها. وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول، تبين أن قوتها أوهى بكثير مما كان يُعتقد. ويوم الجمعة، تلقت سرديتها ضربة موجعة. وتقع مسؤولية هاتين الضربتين على عاتق بنيامين نتنياهو الذي كان يتباهى بالفترة الطويلة التي قضاها في منصبه، وحتى أطول من التي قضاها "مؤسس الدولة".