أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي حكماً أولياً لصالح ادعاء جنوب أفريقيا بأن الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة يمكن وصفه بأنه إبادة جماعية. وفي تصويت جاء بشبه إجماع، أمرت اللجنة الدولية للمحكمة المؤلفة من 17 قاضياً بأن إسرائيل يجب أن تفعل كل ما في وسعها لمنع أعمال الإبادة الجماعية، وتضييق الخناق على التحريض المحلي على الإبادة الجماعية، وضمان المساعدات الإنسانية الفورية والفعالة للفلسطينيين في غزة.
قد يقرأ البعض أمر محكمة العدل الدولية باعتباره تدخلاً قانونياً محدوداً يرفض الطلب الرئيسي لجنوب أفريقيا بإصدار حكم ينهي الحملة الإسرائيلية المدمرة، بتدابير وقف إطلاق النار، بل إن القضاة قدموا غصن زيتون للحكومة الإسرائيلية، مؤكدين بوضوح أن جميع أطراف النزاع في غزة "ملتزمون بالقانون الإنساني الدولي"، ودعوا إلى "الإفراج الفوري وغير المشروط" عن أكثر من 100 أسير إسرائيلي لا يزالون في غزة تحت يد حماس وجماعات أخرى.
لكن حكم المحكمة يحتوي أيضاً على طموح خفي، فهو يتحدى جميع الدول- وبالأخص الولايات المتحدة- أن تأخذ القانون الدولي على محمل الجد في وقت يتسم بتزايد العنف والصراع، وتضاؤل احترام سلطة المؤسسات القانونية الدولية، كما يقول تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
المحكمة تلقي "طوق نجاة" لواشنطن
في الواقع، في الوقت الذي تقول إدارة بايدن إن جهودها للحد من ضرر الحرب على المدنيين متعثرة، ألقت المحكمة إليها طوق نجاه، وهو الطريق إلى سياسة جديدة تجاه الصراع، يتعين على البيت الأبيض أن يتبنَّى حكم المحكمة، وأن يستخدمه كأداة دبلوماسية جديدة لإنهاء العملية العسكرية الإسرائيلية، بحسب المجلة.
يمثل الحكم الصادر، في 26 يناير/كانون الثاني، مجرد بداية قضية محكمة العدل الدولية. من المرجح أن تمتد دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل لسنواتٍ من التقاضي بشأن الاختصاص القضائي والأسس الموضوعية النهائية لادعاء الإبادة الجماعية، وهي دعوى سمحت المحكمة الآن بالمضي قدماً فيها.
وفي غضون ذلك، فإن كيفية استجابة الولايات المتحدة وأوروبا لحكم المحكمة أهم من القرار نفسه. إذا كانت واشنطن والقوى الغربية الأخرى تدور في فلك العلم الإسرائيلي، فإنها تخاطر بإلحاق المزيد من الضرر بالقانون الدولي وما يسمى بالنظام الدولي القائم على القواعد الذي تبنته في قضايا سابقة لمحكمة العدل الدولية، مثل مطالبة أوكرانيا عام 2022، ضد العدوان الروسي وادعاء غامبيا ضد ميانمار بارتكاب إبادة جماعية بحق الروهينغا في 2019.
وهي تخاطر كذلك بالمزيد من تنفير عدد كبير من الحكومات حول العالم، بما في ذلك قسم كبير من دول الجنوب العالمي، التي دعمت المحكمة في الماضي، والتي تدعم قضية جنوب أفريقيا على نطاق واسع.
في الواقع سيكون للهجوم الخطابي على حكم المحكمة عواقب سياسية داخلية على الرئيس الأمريكي جو بايدن، بينما يبدأ حملةً انتخابيةً صعبةً، بالنظر إلى خيبة الأمل واسعة النطاق لدى المجتمع العربي الأمريكي، والتي نتجت بالفعل عن احتضان الإدارة غير المشروط لإسرائيل، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
إن المخاطر كبيرة بشكل خاص بالنظر إلى ضبط النفس النسبي لحكم محكمة العدل الدولية والحلول الوسطى التي قام عليها هذا الحكم. وكان من شأن إصدار أمر أكثر عدوانية أن يؤدي إلى تعقيد الرد الأمريكي بشكل كبير.
على سبيل المثال، لو وافقت المحكمة على طلب جنوب أفريقيا بأن تأمر بإنهاء العملية العسكرية الإسرائيلية فوراً، فمن شبه المؤكد أن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا سترفضان المحكمة والتدابير التي تبنتها.
"الحقوق التي تطالب بها جنوب أفريقيا معقولة"
ورغم أن قراءة رئيسة محكمة العدل الدولية جوان دونوغو المتأنية للحكم تعكس خطورة الوضع في غزة، فقد فعلت ذلك بلغةٍ معتدلة، متجنبةً بعض الاستحضارات الحية للدمار والموت التي استخدمتها جنوب أفريقيا في مطالبتها المؤلفة من 84 صفحة. وبدلاً من ذلك كان بوسع المحكمة أن ترفض ادعاء جنوب أفريقيا.
وبدلاً من ذلك، كما توقع معظم المراقبين عن كثب، وضعت المحكمة بعناية فقهها القضائي في سياق القضايا الأخيرة التي تناولت ادعاءات الإبادة الجماعية، وأصدرت ما يسمى بالتدابير الأولية التي لم تكسر أي أساس قانوني، وفي الواقع أعادت التأكيد على التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي.
وفي كل سؤال من الأسئلة الرئيسية، اتبعت المحكمة قواعدها الخاصة، وبالاستناد إلى نموذج القضايا السابقة المماثلة، اتفق القضاة على أن جنوب أفريقيا قد تحملت العبء المنخفض المتمثل في إظهار أن المحكمة من المرجح أن يكون لها اختصاص النظر في دعوى الإبادة الجماعية ضد إسرائيل، مع التأكيد على أن هذه النتيجة لا تعني أن المحكمة أثبتت أن أي انتهاكات لاتفاقية الإبادة الجماعية قد ارتُكِبَت بالفعل.
نظرت المحكمة في سلسلة من النتائج التي توصلت إليها الأمم المتحدة بشأن الدمار في غزة، بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الحملة الإسرائيلية، ووجدت أن "الحقوق التي تطالب بها جنوب أفريقيا، والتي تسعى على أساسها للحماية، حقوق معقولة"، وهو الحد الأدنى الذي كان على جنوب أفريقيا تجاوزه حتى تتمكن المحكمة من إصدار تدابير مؤقتة.
وفي أثناء قراءة الحكم، أشارت دونوغو أيضاً إلى تصريحات "كبار المسؤولين الإسرائيليين"، بمن فيهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، التي وصفتها جنوب أفريقيا ودول أخرى بأنها تجرُّدٌ من الإنسانية، إن لم تكن تحرِّض على الإبادة الجماعية.
ردّت المحكمة على ادعاء جنوب أفريقيا بضرورة الاستعجال، وهو شرط عتبة آخر في الفقه القانوني، ربما ببيانها الأكثر خطورة: "في هذه الظروف، ترى المحكمة أن الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة معرض لخطر شديد قبل أن تصدر المحكمة حكمها النهائي".
"نتائج خطيرة للغاية"
سمح هذا الأمر للمحكمة بالمضي قدماً في ادعاء جنوب أفريقيا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، ووضع سيف ديموقليس الفعلي ليس فقط على رقبة إسرائيل في سلوكها المستقبلي في غزة، بل أيضاً على الدول، مثل الولايات المتحدة، التي منحتها مثل هذا الدعم القوي.
ووجدت المحكمة أن تأكيد جنوب أفريقيا على ضرورة حماية حقوق الفلسطينيين من أعمال الإبادة الجماعية أمر معقول. وحتى القاضي أهارون باراك، الذي عينته إسرائيل في المحكمة، انضم إلى مطالبة إسرائيل بمنع التحريض العلني والمباشر على الإبادة الجماعية، واتخاذ "تدابير فورية وفعالة" لتمكين المساعدات الإنسانية. وهذه نتائج خطيرة للغاية وتعكس القلق القانوني العالمي بشأن الوضع الإنساني في غزة.
في الوقت نفسه، تكمن قوة حكم المحكمة في الجهود الحثيثة التي يبذلها القضاة لعزل هذا الحكم عن لغة السياسة، وترسيخه في السوابق القانونية. والقرار الجوهري الذي اتخذته المحكمة بعدم السعي إلى ما لا تملك حقاً سلطة تنفيذه دون دعم من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة- إنهاء العملية العسكرية الإسرائيلية- يعطي التدابير التي دعت إليها أهمية أكبر.