بينما الشعب الفلسطيني يذبح على الملأ في غزة، جاء قرار عدد من الدول الغربية بتعليق أو وقف مساعداتها لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، ليكون بمثابة حكم بالموت جوعاً على الشعب الفلسطيني الذي يعتمد بشكل كبير على خدمات الوكالة، وقد يكون هذا أكبر كارثة حلّت بالوكالة منذ نشأتها.
وفصلت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، الجمعة، نحو 12 موظفاً لديها (من بين 13 ألف موظف) بعدما اتهمتهم إسرائيل بالتورط في هجوم حماس على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول. ودفع هذا الأمر وزارة الخارجية الأمريكية إلى الإعلان بعد فترة وجيزة، أنها "أوقفت التمويل الإضافي مؤقتاً" للوكالة، وتبعتها 7 دول غربية أخرى، هي: ألمانيا، بريطانيا، إيطاليا، فنلندا، هولندا، أستراليا، كندا، فيما قالت سويسرا إنها لم تتخذ قراراً بعد بشأن الموافقة على تقديم التمويل لعام 2024 حتى يتم البت في المزاعم.
وقال فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا": "إنه لأمر صادم أن نرى تعليق تمويل الوكالة كرد فعل على الادعاءات ضد مجموعة صغيرة من الموظفين"، لا سيما في ضوء التدابير التي اتخذتها الوكالة الأممية التي "يعتمد عليها أكثر من مليوني شخص من أجل البقاء على قيد الحياة".
ظروف نشأة "الأونروا"، ولماذا هي فريدة من نوعها من بين وكالات الأمم المتحدة؟
تأسّست "الأونروا" في ديسمبر/كانون الأول 1949، بموجب قرار أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في أعقاب الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى، التي اندلعت غداة إعلان قيام الدولة العبرية.
وتُعد "الأونروا" فريدة من حيث التزامها الطويل الأجل لمجموعة واحدة من اللاجئين، عكس مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، وقد ساهمت في دعم 4 أجيال من لاجئي فلسطين، وفي تحقيق تنميتهم البشرية.
ووفق التعريف العملياتي لـ"الأونروا"، فإن لاجئي فلسطين هم أولئك الأشخاص الذين كانت فلسطين هي مكان إقامتهم الطبيعي خلال الفترة الواقعة بين يونيو/حزيران 1946، ومايو/أيار 1948، والذين فقدوا منازلهم ومورد رزقهم نتيجة حرب عام 1948.
وعندما بدأت الوكالة عملها في عام 1950، كانت تستجيب لاحتياجات ما يقرب من 750 ألف لاجئ فلسطيني. واليوم، فإن حوالي 5 ملايين و900 ألف لاجئ من فلسطين من نسل هؤلاء يحق لهم الحصول على خدمات الأونروا من المسجّلين لديها، ويمكنهم الاستفادة من خدماتها، التي تشمل التعليم، والرعاية الصحية، والخدمات الاجتماعية، والبنى التحتية للمخيّمات، والقروض الصغيرة، والإغاثة والمساعدات الطارئة، بما في ذلك خلال الفترات التي تشهد نزاعاً مسلّحاً.
وهناك ما مجموعه 58 مخيماً للاجئين تعترف بها الوكالة الأممية، في فلسطين وخارجها، ويدرس أكثر من 540 ألف طفل في مدارس "الأونروا".
وحققت الوكالة إنجازات حقيقة، في مجال التعليم والصحة بشكل خاص، حيث ساهمت في تمتع الشعب الفلسطيني مستوى تعليم مرتفع وخدمات صحية جيدة رغم المحن والحصار والحروب.
ولـ"الأونروا" أهمية خاصة في قطاع غزة، إذ يعيش في القطاع نحو 2.3 مليون إنسان، 70% منهم، من اللاجئين الفلسطينيين الذين تقع على الأونروا رعايتهم وفق أنظمتها الداخلية.
ويضم القطاع الصغير الواقع بين إسرائيل والبحر المتوسط ومصر، 8 مخيّمات ونحو 1.7 مليون نازح، أي الأغلبية الساحقة من السكان، وفقاً للأمم المتحدة.
ومنذ عام 2007 يعيش سكان قطاع غزة تحت العقاب الجماعي بحسب توصيف الأمم المتحدة، نتيجة للحصار البري والجوي والبحري المستمر منذ ذلك الحين وشن حروب عديدة على القطاع، وتعتبر وكالة الأونروا ملزمة بتقديم خدماتها لمعظم سكان القطاع.
ولا تقوم الوكالة بإدارة المخيمات، وليست مسؤولة عن أمنها أو تطبيق القانون والنظام فيها، لكنها مسؤولة عن إدارة برامج التعليم والصحة والإغاثة والخدمات الاجتماعية، سواء الموجودة داخلها أو خارجها.
مليونا شخص يعتمدون على "الأونروا" للبقاء على الحياة في غزة
63 % من سكّان القطاع، كانوا يعانون انعدام الأمن الغذائي، ويعتمدون على المساعدات الدولية، قبل الحرب حيث يعيش أكثر من 80% من السكان تحت خطّ الفقر، بحسب بيانات الأمم المتحدة الصادرة في أغسطس/آب الماضي.
في الوقت الحالي، يعتمد على"الأونروا" أكثر من مليوني شخص في غزة من أجل بقائهم على قيد الحياة. ويعاني كثيرون من الجوع، بينما تقترب الساعة من مجاعة تلوح في الأفق، حسب وصف الوكالة.
وتدير الوكالة ملاجئ لأكثر من مليون شخص وتوفر الغذاء والرعاية الصحية الأولية حتى في ذروة الأعمال العدائية، ولا يضاهيها في ذلك أي مؤسسة فلسطينية أو أممية أخرى.
وقبل وقف الغرب لتمويلها، قالت الوكالة إن نحو 3.000 موظف أساسي من موظفيها من أصل 13.000 موظف في غزة يواصلون الحضور إلى عملهم، مما يمنح مجتمعاتهم شريان الحياة الذي يمكن أن ينهار في أي وقت الآن بسبب نقص التمويل.
وحتى قبل تعليق مساعدات الدول الغربية، حذرت الأونروا من مجاعة في غزة حيث قال مفوضها العام فيليب لازاريني في 14 ديسمبر/كانون الأول الماضي إن الجوع هو أمر "لم يختبره سكان غزة قط" خلال تاريخهم المضطرب. ولكننا الآن نقابل المزيد من الأشخاص الذين لم يأكلوا منذ يوم أو يومين أو ثلاثة. يُضطر بعضهم لإيقاف شاحنات المساعدات وأخذ الطعام (قبل إيصاله إلى الملاجئ) ليأكلوا في الحال. لا علاقة لذلك بتحويل المساعدات عن مسارها، لكنه متعلق باليأس التام".
وقبل خمسة أيام فقط، حذرت الأونروا من أن 750 ألف شخص في قطاع غزة يواجهون جوعاً كارثياً.
من أين يأتي التمويل؟ إليك قائمة المتبرعين
وتستفيد الأونروا من التبرعات الطوعية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة وهذه المصادر تمثل أكثر من 93.28% من التبرعات المالية للوكالة، والاستثناء الوحيد هو إعانة محدودة جداً من الميزانية العادية للأمم المتحدة، تستخدم حصراً لتغطية التكاليف الإدارية. وتقول الأونروا: "لم يكن من الممكن تنفيذ عمل الأونروا بدون تبرعات مستدامة من حكومات الدول والحكومات الإقليمية والاتحاد الأوروبي والشركاء الحكوميين الآخرين".
وفي عام 2022، جاء 44.3% من إجمالي تعهدات الوكالة البالغة 1.17 مليار دولار أمريكي من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والتي ساهمت بمبلغ 520.3 مليون دولار أمريكي، بما في ذلك من خلال المفوضية الأوروبية. وكانت الولايات المتحدة وألمانيا والاتحاد الأوروبي والسويد أكبر المانحين الأفراد، حيث ساهموا بنسبة تراكمية بلغت 61.4% من إجمالي تمويل الوكالة.
وتعد الولايات المتحدة أكبر مساهم منفرد في ميزانية الأونروا؛ حيث ساهمت في عام 2023 وحده بأكثر من 296 مليون دولار للأونروا، أي نحو ربع ميزانية الوكالة
الدول العربية حاولت معالجة الفجوة التي خلقها وقف ترامب للتمويل الأمريكي
يمثل التمويل الأمريكي والأوروبي معاً نحو 70% من ميزانية الوكالة.
وساهمت إدارة بايدن بحوالى مليار دولار منذ العام 2021، حسب السفيرة ليندا توماس غرينفيلد ممثلة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة.
عندما أوقف ترامب الدعم الأمريكي للأونروا، رفعت الدول العربية مساهماتها في ميزانية الأونروا، لتصبح 25% من موازنة الأونروا في عام 2018، بما يعادل نفس نسبة التمويل الأمريكي تقريباً.
ثم تراجعت مساهمة الدول العربية إلى 3% في 2021، و4% العام الماضي بعد استئناف الولايات المتحدة في عهد بايدن لمساعداتها للوكالة، في عام 2021.
يعني ذلك أن الدول العربية نجحت جزئياً، في تعويض جزء كبير من النقص في ميزانية الوكالة الذي حدث جراء قرار ترامب.
ولكن الوكالة تواجه الآن كارثة مالية غير مسبوقة في تاريخها
ولكن اليوم فإنه إذا علقت معظم الدول الأوروبية الرئيسية، إضافة للولايات المتحدة وأستراليا وكندا، مساعدتها كما تقول، فإن هذا قد يطيح بنحو ثلاثة أرباع ميزانية الوكالة؛ وهو ما يمثل كارثة على الشعب الفلسطيني في غزة الذي يعيش محنة غير مسبوقة في تاريخه، دمرت فيها كل بنية غزة التحتية، ويعيش السكان على حافة الجوع، في ظل ضآلة المساعدات الإنسانية التي تدخل، والتي يأتي كثير منها يأتي عن طريق الأونروا أو يوزع عبر مرافقها.
الأزمة قد تتفاقم إذا طال قرار تعليق التبرعات الغربية للوكالة.
وتحويل بعض المساعدات لمؤسسات أممية أخرى، قد لا يكون فعالاً لأنها لا تمتلك خبرة الأونروا، ومرافقها، وشبكة موظفيها المحليين.
ومن الصعب توقع أن الدول العربية سوف تسدد معظم ميزانية الأونروا، كما أن كثيراً من دول العالم الثالث بما فيها دول عربية وإسلامية قد تخشى توسيع التبرع خوفاً من مزاعم دعم الإرهاب، الأخطر أن إسرائيل سوف تستغل القرار لاستهداف الأونروا ومؤسساتها أكثر، ومحاولة تصفية عملها، كما أعلنت مراراً.
ويعني ذلك أن قرار الدول الغربية، بمثابة حكم بالموت جوعاً على أهل غزة، الذين يعتمدون بشكل شبه كامل على الأونروا، وخاصة أن نسبة كبيرة النازحين من الحرب لجأوا لمؤسسات الوكالة، التي رغم أنها تقصف من قبل إسرائيل، ولكن قصفها ما زال أقل وتيرة مما تتعرض له المنشآت الأخرى.
والآن مع تفاقم أزمة الوكالة المالية، قد تواجه الأونروا مشكلة حتى في مجرد إدارة منشآتها المكتظة بالنازحين.
كما أن القرار قد يساعد على جعل الحياة في غزة أكثر صعوبة، تشجيعاً على ما يبدو على تنفيذ خطة إسرائيل لتهجير الفلسطينيين من غزة.