اندلعت الحرب بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وسط اتجاه إقليمي كان يسير للتطبيع النهائي مع إسرائيل على المستوى الرسمي، رغم هضم حقوق الفلسطينيين. وقد تمثل التحول في الشرق الأوسط على هذا المنوال في التحالف الوثيق على ما يبدو بين السعودية والإمارات، والذي ترمز إليه الشراكة بين زعيميهما الفعليين، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد.
واتَّحد البلدان لمواجهة القوة الناعمة المتوسعة لقطر في العالم العربي، مثلما تجلى ذلك في الحصار الفاشل الذي فرضاه عليها في عام 2017. وكانا على نفس الجانب في حملتهما العسكرية ضد الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن منذ عام 2014. وقد تواصلت الدولتان مع بكين وموسكو، وتبنتا سياسة أكثر استقلالية تختلف عن تحالفهما التقليدي مع الولايات المتحدة.
ولكن ما يكمن تحت سطح هذا التحالف الواضح هو صراع هادئ، حيث يتنافس البلدان على الزعامة داخل العالم العربي. وخلف الكواليس تخوض السعودية والإمارات منافسة جيواقتصادية نشطة بأبعاد متعددة، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
ما أشكال التنافس بين السعودية والإمارات؟
أولاً: المنافسة الهائلة على الاستثمار الأجنبي
يعود التنافس إلى عام 2009، عندما اعترضت أبوظبي على الموقع المقترح لمقر البنك المركزي لدول مجلس التعاون الخليجي في الرياض، والذي لعب في نهاية المطاف دوراً في إحباط إنشاء البنك نفسه.
بين عامي 2012 و2022، كان تدفق الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي في الإمارات أكبر بنحو 3.5 مرة من نظيره في المملكة السعودية، وأصبحت دبي الموقع المفضل لنحو 70% من المقرات الرئيسية للشركات الكبرى متعددة الجنسيات في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، أدى ارتفاع أسعار النفط في عام 2022، بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى دفع الاقتصاد السعودي إلى النمو بنسبة 8.7%، وهو أعلى معدل بين دول مجموعة العشرين، التي أنتجت تدفقات كبيرة من رأس المال.
وقد شجعت السعودية بنشاط الشركات الأجنبية العاملة في منطقة الخليج العربي على نقل مقرها الرئيسي إلى أراضيها، وأصدرت تحذيرات من أن الشركات التي لا تنقل مقرها الرئيسي تخاطر بوقف العلاقات التجارية مع الرياض.
وقد أدت سياسات الطاقة بين السعودية (أكبر مصدر للنفط في العالم) والإمارات (خامس أكبر مصدِّر للنفط) إلى زيادة حدة هذه المنافسة. وفي صيف 2021، برز خلاف واضح بين الرياض وأبوظبي بشأن خطة تقودها السعودية ضمن أوبك+ لإطالة أمد تخفيضات الإنتاج، مع رفض الإمارات للمقترح. ورغم التوصل إلى حل واضح لهذا التوتر بسرعة، فقد انتشرت شائعات لاحقة بشأن اعتراض أبوظبي على هيمنة الرياض داخل أوبك+، والتفكير المحتمل في الانسحاب من أوبك.
ثانياً: المكانة العالمية
أدت المنافسة على المكانة العالمية إلى إحداث شرخ بين السعودية والإمارات. ويستثمر كلا البلدين بشكل استراتيجي في الجهود الرامية إلى تعزيز قوتهما الناعمة من خلال استضافة تجمعات دولية بارزة. فقد أنشأت السعودية مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، في حين استضافت أبوظبي منتدى الاستثمار العالمي، وهو حدث سنوي تنظمه الأمم المتحدة.
ويعمل كل من المنتديات والمؤتمرات بمثابة منصات لاجتماع القادة والمستثمرين العالميين، وتسهيل اقتراح حلول مبتكرة للتحديات العالمية. بعد أن نظمت الإمارات معرض إكسبو 2020 في دبي، وهو الأول من نوعه في الشرق الأوسط، دخلت المملكة السعودية التاريخ من خلال تأمين حقوق استضافة معرض إكسبو 2030.
علاوة على ذلك، اختيرت دبي كمكان لمؤتمر الأمم المتحدة السنوي المحوري لتغير المناخ العام الماضي. ويستمر هذا الالتزام باستضافة القمة، حيث من المقرر أن تستضيف أبوظبي المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية، في فبراير/شباط.
وبعد استضافة قطر الناجحة لكأس العالم لكرة القدم 2022، اتخذت الرياض مبادرات لرفع مستوى الدوري الوطني لكرة القدم من خلال جذب نخبة من اللاعبين. منذ أوائل عام 2021، التزمت السعودية بما لا يقل عن 6.3 مليار دولار في اتفاقيات رياضية. ويمكن أن يكون ذلك أول مظهر من مظاهر الجغرافيا السياسية لكرة القدم في العصر الجديد.
وتشتهر دبي بمجتمعها العالمي المنفتح نسبياً، حيث تجتذب المشاهير لاستضافة الحفلات الموسيقية والعروض. إلا أن هذا الامتياز لم يعد يقتصر على دولة الإمارات، ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، استضافت الرياض بنجاح مهرجان MDLBEAST Soundstorm، وهو أكبر مهرجان موسيقي في الشرق الأوسط. وتعكس هذه المساعي مجتمعة الجهود المتعمدة التي بذلتها هاتان الدولتان لإعادة تشكيل صورتهما الدولية وتعزيز التصورات الإيجابية عن نفسيهما على الساحة العالمية.
ثالثاً: الرؤية والسياسة
أما المنافسة الأخيرة والأكثر محورية فتتعلق باستراتيجيات "الرؤية" التي تنتهجها الدولتان. وقد رسخت الإمارات، بعد أن شرعت في رحلة التنويع منذ سنوات، مكانتها كمركز عالمي للنقل والأعمال من خلال مبادرات استراتيجية تتعلق بمينائي خليفة وجبل علي، يكملها نجاح طيران الإمارات. ومع ذلك أطلق محمد بن سلمان رؤية 2030، وهي خريطة طريق طموحة للتنويع الاقتصاد السعودي، في عام 2016.
والمشروع الرئيسي ضمن هذه الرؤية هو مبادرة نيوم، وهو مسعى بمليارات الدولارات يهدف إلى وضع السعودية كدولة بارزة في البنية التحتية والنقل والتكنولوجيا ومركز للمال والأعمال في المنطقة. والتزمت الرياض أيضاً بأكثر من 100 مليار دولار لتحويل نفسها إلى مركز لوجيستي بحري وجوي، وهو ما تميز ببدء شركة طيران الرياض.
وينطوي ذلك على تحدي هيمنة الموانئ الإماراتية من خلال استثمارات كبيرة في ميناء جدة الإسلامي، المقرر أن يصبح أكبر وأكثر الموانئ ازدحاماً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبصياغة مختلفة، دفعت منافسة "الرؤية" الرياض وأبوظبي إلى سباق التحديث والتنويع، وغالباً ما يكون ذلك على حساب بعضهما البعض.
ومن المثير للاهتمام أن التقارب مع إيران قد يزيد من حدة هذه المنافسة. لقد أدى الانفراج الذي قادته بكين بين طهران والرياض إلى القضاء بشكل فعال على التهديد الأساسي المشترك في المنطقة بالنسبة للسعودية والإمارات، وبالتالي الحد من الصراعات الجيوسياسية طويلة الأمد بين الأجزاء الشمالية والجنوبية من الخليج. وبالمضي قدماً، قد تدخل المنطقة حقبة جديدة حيث يتحول التركيز من المنافسة الجيوسياسية بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي إلى المنافسة الجيواقتصادية بين السعودية والإمارات.
ويتبنى كلا البلدين أيضاً سياسات تجارية ترقى إلى مستوى التحديات المباشرة لبعضهما البعض. في يوليو/تموز 2021، نفذت السعودية سياسات حمائية لتعزيز إنتاجها الصناعي المحلي. وتنص هذه الأنظمة على أن البضائع المصنعة في المناطق الحرة أو التي تستخدم مدخلات إسرائيلية مستثناة من الامتيازات الجمركية التفضيلية. وهذا الموقف يتحدى بشكل مباشر المناطق الاقتصادية الحرة التي تشكل حجر الزاوية في الاقتصاد الإماراتي. وتمثل هذه اللوائح، التي تهدف إلى جذب المستثمرين الأجانب لتأسيس أعمال تجارية داخل الدولة، بمثابة رد واضح على العلاقات التجارية المتنامية بين الإمارات وإسرائيل.
وتشكل السياسة تجاه إسرائيل مجالاً محتملاً آخر للخلاف. بينما اعترفت الإمارات رسمياً بإسرائيل في عام 2020، امتنعت السعودية حتى الآن عن الانضمام إلى اتفاقيات إبراهام. وعززت إسرائيل والإمارات العلاقات الثنائية من خلال التوقيع على اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة، وتعتقد الرياض أن هذا وضعها في موقف ضعيف نسبياً.
لقد أدت الحرب بين إسرائيل وحماس الآن إلى تباطؤ عملية التطبيع السعودية الإسرائيلية وربما تعطيلها، لكن من المرجح أن تنتعش الحوارات، حيث من المفترض أن تكون الرياض حجر الزاوية في الاتفاقات. ولن يكون مفاجئاً أن يسعى محمد بن سلمان إلى الحصول على تنازلات إضافية، خاصةً في البرامج النووية والضمانات الأمنية، لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومن الممكن أن تؤدي مثل هذه الخطوة إلى ممارسة الضغط على سياسة محمد بن زايد تجاه إسرائيل.
ومع اتساع الصدع بين السعوديين والإماراتيين، هناك احتمال أن تتسارع علاقاتهما مع موسكو وبكين وحتى إيران كثقل موازن لبعضهم البعض. وهذا بدوره يمكن أن يضعف فاعلية الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط ويدفع البيت الأبيض إلى إعادة تقييم أهمية المنطقة.
وفي هذا السياق، لا ينبغي اعتبار اصطفاف أبوظبي والرياض مع سياسات الولايات المتحدة في المنطقة أمراً مفروغاً منه. وكما هو الحال مع اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، يمكن للمنافسة الجيواقتصادية المتزايدة بين السعودية والإمارات أن تتحدى وجهة النظر التبسيطية القائلة بأن الشرق الأوسط مقدر له أن يصبح أكثر سلاماً.