تصدّر مضيق باب المندب عناوين الأخبار طوال الأسابيع الماضية، في ظل التصعيد غير المسبوق في المنطقة الاستراتيجية الحساسة لحركة التجارة العالمية، حيث تهاجم الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاء آخرون مثل بريطانيا، جماعة "أنصار الله" الحوثية في اليمن، بعد مهاجمة الأخيرة السفن التجارية الإسرائيلية أو التي تتجه نحو إسرائيل منذ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 الماضي، وكذلك السفن الأمريكية، بعد شن واشنطن غارات على مواقع مختلفة للحوثيين الذين يطالبون بفك الحصار عن غزة ووقف الحرب الإسرائيلية المدمرة عليها. فما هو مضيق باب المندب؟ وما أهميته الاستراتيجية والاقتصادية لحركة التجارة العالمية وخطوط الشحن؟
ما هو مضيق باب المندب؟
مضيق باب المندب هو ممر مائي ضيق يفصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي. ويشكّل حلقة مهمة في الطريق التجاري البحري الأقصر والأقل تكلفة، الذي يربط شرق آسيا بأوروبا. ويعد المضيق مفتاح السيطرة على جميع عمليات الشحن تقريباً بين المحيط الهندي والبحر المتوسط عبر قناة السويس.
يحد مضيق باب المندب من الجهة الشمالية الشرقية اليمن، ومن الجهة الجنوبية الغربية إريتريا وجيبوتي. وتُقسِّم جزيرة بريم اليمنية المضيق إلى قناتين، حيث تمر السفن الضخمة عبر القناة الغربية (دقة المايون)، وهي الأوسع والأعمق من بين الاثنتين، ويصل اتساعها عند أضيق نقطة فيها إلى نحو 25 كيلومتراً، وعمقها إلى 310 مترات.
أما القناة الأخرى الأصغر (قناة إسكندر)، فتقع بمحاذاة الساحل اليمني ويبلغ اتساعها 3.2 كيلومتر. وتنقسم الملاحة في "باب المندب" في اتجاهين عبر قناة داخلة وأخرى خارجة، حيث يبلغ اتساع كل منهما 3.2 كيلومتر.
تاريخياً، تحوّل الموقع الاستراتيجي للمضيق إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وقد عملت القوى المتنافسة على تعزيز نفوذها فيه بإنشاء قواعد عسكرية بالجزر والدول المشاطئة هناك، واستغلال التحكم بالمضيق وإغلاقه في وجه الخصوم عند الحاجة، فأصبح ورقة رابحة في الحروب والنزاعات.
ما سبب التسمية؟
تعود أصول تسمية "باب المندب" إلى اللفظ العربي "الندب"، ويعني البكاء على الموتى، فالمراد به "باب الدموع". وقد ذكروا أسباباً لهذه التسمية، منها: الدموع التي سكبتها اليمنيات على البحارة الذين فقدوا أثناء عبورهم المضيق.
كما قيل إن التسمية جاءت لندب الأفريقيات أولادهن وبناتهن الذين كانوا يُؤخذون عبيداً وسبايا إلى الجزيرة العربية عبر المضيق، إبّان غزوات القبائل العربية لأفريقيا.
وتذكر إحدى الأساطير أن سبب التسمية يعود إلى ندب الموتى الذين غرقوا في البحر، بسبب هزة أرضية فصلت بين قارتي آسيا وأفريقيا. وقد ذكرت بعض المصادر أن اسم "باب المندب" مستمد من الفعل "ندب" أي: جاز وعبر، لأن المضيق يمثل معبراً بين البحر الأحمر وخليج عدن.
كيف ازدادت الأهمية الاستراتيجية لمضيق باب المندب بعد حفر قناة السويس؟
كانت الإمبراطورية البريطانية قد استولت على جزيرة بريم في باب المندب خلال الحروب النابليونية، وبعد عقود في عام 1856، خوفاً من عودة القوة الفرنسية من خلال قناة السويس التي كانت قيد الإنشاء في ذلك الوقت، حيث احتلت بريطانيا الجزيرة بالكامل.
واستخدمت بريطانيا جزيرة بريم بشكل رئيسي كمحطة للتزود بالوقود للسفن البخارية التي تعمل بالفحم والمسافرة من وإلى قاعدتها البحرية في عدن، وهي مدينة ساحلية على الساحل الجنوبي لليمن على بعد حوالي 100 ميل إلى الشرق من باب المندب. واستمر الوجود البريطاني في المنطقة حتى أواخر الستينيات، عندما تم تسليم جزيرة بريم إلى حكام جنوب اليمن.
وبرزت أهمية مضيق باب المندب بوضوح مع افتتاح قناة السويس عام 1869، حيث أصبح يشكل إحدى الحلقات المهمة للطريق البحري الأقصر، الذي يصل بين شرق آسيا وأوروبا، والذي يمتد من المحيط الهندي مروراً ببحر العرب وخليج عدن، وعبر باب المندب إلى البحر الأحمر ثم البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس.
وتنامت أهمية المضيق الاقتصادية مع مرور الزمن، حيث شكل ممراً بحرياً للتجارة الدولية، بسبب ما يوفره من الجهد والوقت والتكلفة المادية، وأصبح يتمتع بحركة ملاحة كثيفة في كلا الاتجاهين، إذ تمر به معظم أنشطة التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا.
واكتسب المضيق أهمية اقتصادية كبيرة مع ثلاثينيات القرن العشرين، وظهور النفط في الخليج العربي، ونظراً لما تمتاز به قناتاه من الاتساع والعمق، وقدرته على استيعاب السفن الضخمة وناقلات النفط بسهولة في كلا الاتجاهين، أصبح من أهم المعابر المائية لموارد الطاقة في العالم، وشكل أحد أضلاع مثلث المعابر الاستراتيجي للنقل الطاقوي (هرمز والمندب والسويس).
ويحتل مضيق "باب المندب" المرتبة الثالثة عالمياً من حيث عبور موارد الطاقة، بعد مضيقي ملقا وهرمز، حيث تمر منه معظم صادرات النفط والغاز الطبيعي من الخليج العربي، التي تعبر قناة السويس أو خط أنابيب "سوميد".
متى بدأت قصة الحوثيين مع باب المندب؟
منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2014، وما تبعها من سيطرة الحوثيين على "باب المندب" لسنوات، تضاعف مستوى التهديد الأمني في البحر الأحمر والمضيق، خصوصاً مع دعم إيران لحلفائها الحوثيين بالسلاح والتكنولوجيا والمعدات العسكرية المتطورة، ما مكنهم من تعطيل حرية الملاحة أحياناً حول المضيق.
وانخرطت دول من الجوار الخليجي في الحرب الدائرة باليمن في مارس/آذار 2015، بهدف التصدي لتوسع النفوذ الإيراني بالمنطقة، وتقاطع ذلك مع مصالح مجموعة من الدول التي تسعى للهدف نفسه، مثل أمريكا وإسرائيل. وعلى إثر تعرض الحوثيين لـ3 سفن إحداها سعودية جنوبي البحر الأحمر في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أعلن التحالف أن سلوك الحوثيين يمثل اعتداءً على أمن "باب المندب" وتهديداً حقيقياً لحرية الملاحة الدولية والتجارة العالمية فيه.
وفي محاولة لتأمين خط التجارة الدولي بالبحر الأحمر، شكلت أمريكا وبريطانيا، مع مجموعة من الدول الحليفة في أبريل/نيسان 2022، فريقاً أمنياً تابعاً للقوات البحرية الدولية المشتركة، يحمل اسم "قوة المهام المشتركة 153 الدولية"، ويضم دولاً عربية وأجنبية، ويقوم بمهام أمنية يتركز نطاقها بالبحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن.
ما أسباب التصعيد الآن؟
بعد اندلاع معركة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الثاني 2023 بين فصائل المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، انخرط الحوثيون في القتال الدائر عبر إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة باتجاه إسرائيل، وأعلن الحوثيون في 16 نوفمبر/تشرين الثاني أن "باب المندب" والمياه المحيطة به سيتم إغلاقها في وجه السفن الإسرائيلية وأي سفن حربية تحميها بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي غضون أيام احتجز الحوثيون حاملة المركبات "غالاكسي ليدر" المملوكة لإسرائيل وطاقمها، وأواخر نوفمبر/تشرين الثاني أسقطت المدمرة الأمريكية "يو إس إس كارني" طائرة للحوثيين من دون طيار اقتربت منها في "باب المندب".
وفي 3 ديسمبر/كانون الأول 2023 هاجم الحوثيون سفينتين إسرائيليتين جنوبي البحر الأحمر هما "يونيتي إكسبلورر" و"نمبر 9″ بمسيّرة مسلحة وصاروخ بحري، واستهدفوا كذلك سفناً إسرائيلية بالمحيط الهندي وخليج عدن. أما في 9 ديسمبر/كانون الأول، قرر الحوثيون منع مرور جميع السفن من جميع الجنسيات، المتوجهة من وإلى الموانئ الإسرائيلية، وهاجم الحوثيون العديد من السفن الإسرائيلية والأجنبية أثناء عبورها المنطقة بالصواريخ والطائرات المسيرة.
وعلى إثر ذلك، بدأت كبرى شركات شحن دولية منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023 بوقف مرور سفنها عبر "باب المندب" والبحر الأحمر، ونجم عن ذلك ارتفاع سعر الغاز الطبيعي الرئيسي في أوروبا بنسبة وصلت إلى 7.9%، وسط مخاوف من انقطاع تدفق الطاقة، كما غيرت مجموعة من السفن مسار رحلاتها لتفادي المرور عن طريق البحر الأحمر عبر الالتفاف حول جنوب أفريقيا مروراً برأس الرجاء الصالح.
وسببت التهديدات ضربة اقتصادية لإسرائيل، إذ أصيب ميناء إيلات على البحر الأحمر بالشلل، وزاد وقت الإبحار في المسار البديل إلى إسرائيل بين 17 و22 يوماً على أقل تقدير، وهو ما يرفع من تكلفة الشحن وأسعار البضائع، ويؤدي إلى عرقلة الصفقات وعمليات التبادل التجاري.
لذلك، أعلنت أمريكا في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023 إطلاق عملية "حارس الازدهار"، وهي مبادرة أمنية تتكون من قوة حماية بحرية متعددة الجنسيات، تحت مظلة القوات البحرية الدولية المشتركة، و"قوة المهام 153″ التابعة لها، وعلى إثرها شنت مع بريطانيا عدة غارات جوية على مواقع عسكرية لجماعة أنصار الله الحوثيين.
ما حجم حركة الشحن التي تتحرك عبر باب المندب بين أوروبا وآسيا؟
تقدر المنظمة البحرية الدولية أن ما يصل إلى ربع الشحن العالمي يمر عبر هذا الطريق (المندب، البحر الأحمر، قناة السويس)، وهو ما يعادل عدة مليارات من الأطنان من البضائع كل عام. ويشمل ذلك ما يقدر بنحو 4.5 مليون برميل من النفط يومياً، مصدرها دول الخليج والدول الآسيوية، وفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية. ويقدر عدد السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب بأكثر من 21 ألفاً سنوياً، أي بما يعادل 57 سفينة يومياً.
ما البدائل أمام شركات الشحن التي توقفت عن العبور من باب المندب؟
يمكن أن تتجنب السفن المحمَّلة بالنفط من الخليج العربي والمتجهة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية المرور عبر "باب المندب"، بالإبحار حول رأس الرجاء الصالح (الطرف الجنوبي لأفريقيا). وسيترتب على هذا زيادة طول الرحلة على سبيل المثال من إمارة الفجيرة بالإمارات، التي تقع عند مخرج الخليج، إلى ولاية هيوستن الأمريكية بنحو 2660 ميلاً بحرياً، أي بزيادة نحو 28% عن مسار الرحلة عبر المضيق.
أما المسافة إلى مدينة روتردام (غربي هولندا)، فستزيد بـ4800 ميل بحري أو 78%، في حين ستكون الرحلة إلى مدينة أوغوستا الإيطالية أطول بنحو 3 مرات، أي ستبلغ 10860 ميلاً بحرياً. وستكلف هذه المسافات الإضافية مزيداً من نفقات الشحن والوقود، وستُربِك الإمدادات.
فوفقاً للبيانات التي جمعتها وكالة Bloomberg، تستغرق الرحلة من السعودية إلى روتردام نحو 22 يوماً عبر "باب المندب" وقناة السويس، مقارنةً بـ39 يوماً إذا التفت السفينة حول أفريقيا.
هل يمكن أنَّ تتجنب شحنات دول الخليج النفطية مضيق باب المندب؟
يمكن أن تضخ السعودية فقط مزيداً من النفط الخام عبر المملكة من خلال الأنابيب وصولاً إلى ميناء ينبع على البحر الأحمر، ومن هناك يمكن تحميل البراميل على الناقلات من أجل إيصالها عبر قناة السويس. وذلك سيُمكِّن السفن من تجنب المرور عبر "باب المندب".
ويمتد خط الأنابيب الذي يصل بين شرقي المملكة وغربيها إلى مسافة 1200 كيلومتر، وله طاقة استيعابية تصل إلى 5 ملايين برميل يومياً، لكنَّه يُستخدَم كذلك لنقل النفط الخام إلى 4 مصافٍ على طول ساحل البحر الأحمر، يمكن أن يصل إنتاجها لنحو 1.4 مليون برميل يومياً.