روَّجت إسرائيل وجيشها على مدى أسابيع إلى أن قادة حماس ومركز سيطرتها موجودون في قلب مدينة غزة شمال القطاع، ثم انتقل الحديث إلى خان يونس في الوسط، والآن يتحدثون عن رفح في الجنوب، فما قصة هذا التخبط؟
كانت إسرائيل قد شنَّت منذ عملية "طوفان الأقصى" العسكرية، يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قصفاً جوياً وبحرياً على قطاع غزة، تبعه اجتياح بري، معلنةً عن هدفين رئيسيين هما: تدمير المقاومة، وتحرير الأسرى بالقوة العسكرية.
وبعد مرور 105 أيام على هذه الحرب الإسرائيلية، استشهد أكثر من 24 ألف فلسطيني وأصيب أكثر من 61 ألفاً آخرين، إضافة إلى أكثر من 7 آلاف مفقود تحت الأنقاض، وارتكب جيش الاحتلال ما يربو على الألفَي مجزرة، والغالبية الساحقة من الضحايا هم من الأطفال والنساء والمدنيين بشكل عام، وتم تدمير البنية التحتية المدنية وأكثر من نصف مباني القطاع بشكل كامل، دون أن تحقق إسرائيل أياً من أهدافها العسكرية المعلنة.
من مجمع الشفاء إلى خان يونس
صحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية نشرت تقريراً يزعم أن حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" قد نصبت فخاً لجيش الاحتلال في رفح جنوب قطاع غزة.
ورغم التقارير التي تفيد بأن الجيش الإسرائيلي لديه خطة عملياتية محدثة لدخول رفح في جنوب قطاع غزة، أو على الأقل لتأمين الحدود بين مصر وغزة، المعروفة باسم محور فيلادلفيا، ليس هناك في الوقت الحالي أي قرار فوري للمُضي قُدُماً، فلماذا إذاً لم يدخل الجيش الإسرائيلي إلى رفح حتى الآن؟
تقول الصحيفة العبرية إن الأسباب قد تطورت، ولكن من المفارقة أن هناك مشاكل أكثر اليوم تتعلق بالعملية، ولكنها أيضاً أكثر أهمية من أي وقت مضى، وهو ما يعكس التخبط والارتباك وعدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بالأهداف الإسرائيلية التي تعلنها الحكومة برئاسة بنيامين نتنياهو.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حماس على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني". ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنَّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وعلى مدى أسابيع، قرر الجيش الإسرائيلي تركيز اجتياحه البري على شمال غزة، "ولم يترك رفح فحسب، بل أيضاً معظم خان يونس وبقية جنوب غزة دون مساس"، بحسب زعم صحيفة جيروزاليم بوست، الذي تناقضه تماماً حملة القصف المستمر جواً وبراً وبحراً والتي لم تترك شارعاً ولا مبنى في شمال ووسط وجنوب القطاع إلا واستهدفته.
ففي الأسابيع الأولى للحرب على القطاع، قصفت إسرائيل أكثر من مرة معبر رفح الحدودي، وأصدرت بيانات تصف ما حدث بأنه "بطريق الخطأ"، وعلقت مصر أيضاً على ذلك القصف، وهو ما يؤكد أن جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يفرض حصاراً خانقاً على قطاع غزة منذ أكثر من 16 عاماً، لم يركز حربه على شمال القطاع فقط منذ اليوم الأول.
على أية حال، يزعم تقرير الصحيفة العبرية أن "الأمل -أو الرهان- كان على أن تشهد قيادة حماس الهيمنة والقوة والدمار في شمال غزة، فتدعو إلى عقد صفقة مواتية لإسرائيل لتجنب نفس المصير بالنسبة لخان يونس".
وبعد صفقة الأسرى في أوائل ديسمبر/كانون الأول، قرر جيش الاحتلال الإسرائيلي اقتحام خان يونس ونقل معظم المدنيين الفلسطينيين هناك إلى رفح في الجنوب. ومرة أخرى، احتاج المدنيون إلى مكان يذهبون إليه بعد أن جعلت الغارات الإسرائيلية العيش هناك مستحيلاً، كما زعمت الصحيفة.
لكن ما لم يذكره تقرير الصحيفة الإسرائيلية هو رواية مجمع الشفاء الطبي في شمال القطاع، حيث ظل جيش الاحتلال يروج على مدى أسابيع مزاعم وجود قيادات حماس والأسرى أيضاً هناك، لكن بعد أن حاصرت إسرائيل المجمع واقتحمته مرتكبة مجازر وجرائم حرب، بحسب غالبية خبراء القانون الدولي، اتضح كذب روايتها، فلم تعتقل أياً من قيادات حماس ولم تجد الأسرى. وكشف تحقيق لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن ما قدمته إسرائيل من أدلة لا يرقى لمستوى إظهار أن حماس استخدمت مجمع الشفاء الطبي مركزاً للقيادة والسيطرة.
ماذا تقول إسرائيل الآن عن رفح؟
الآن انتقل حديث إسرائيل إلى رفح. إذ تزعم صحيفة جيروزاليم بوست أن السبب الإضافي لعدم رغبة جيش الاحتلال في "مهاجمة رفح هو أنها تقع على حدود مصر"، وكأن رفح لا تتعرض بالفعل لهجوم وقصف ليل نهار منذ بدأت الحرب.
كانت مصر قد انتقدت علناً الحرب الإسرائيلية بشدة، لكن في الوقت نفسه تشكل القاهرة جزءاً حاسماً من المفاوضات بشأن الأسرى و"ستكون ضروريةً لخطط الحكم مستقبلاً في غزة"، بحسب الصحيفة العبرية، في إشارة إلى الحديث الأمريكي عن خطط ما بعد الحرب، وهي الخطط التي كان وزير الخارجية أنتوني بلينكن قد ناقشها في جولته في المنطقة قبل أسابيع، دون التوصل إلى أي نتيجة.
وهذا يعني أن إسرائيل، بحسب تقرير جيروزاليم بوست، لا تستطيع أن تتحمل استعداء مصر بسبب التوترات المتعلقة بأعمالها في رفح ومحور فيلادلفيا. وفي غياب الدعم المصري فإن احتمالات التوصل إلى صفقة أسرى تنخفض بشكل كبير، في حين تتزايد احتمالات تعثر إسرائيل في "امتلاك وإدارة غزة ضد إرادتها بشكل كبير".
لا تريد مصر تجنب الاشتباكات الحدودية فحسب، بل تريد أيضاً منع احتمال تدفق آلاف الفلسطينيين من غزة إلى الأراضي المصرية. وعلاوة على ذلك، لا يريد المصريون أن يُتَّهموا بتسهيل وتأييد السيطرة الإسرائيلية على غزة، الأمر الذي قد يؤدي إلى اعتبارهم خونة للفلسطينيين، تقول الصحيفة الإسرائيلية.
لهذه الأسباب لا يستطيع جيش الاحتلال الإسرائيلي القيام بـ"عمل مهم" في رفح، أو السيطرة على محور فيلادلفيا، دون مفاوضات متأنية للغاية مع القاهرة. وكانت هذه مشكلة دائمة، لأنها تعني أن رفح يمكن أن تكون بمثابة ملاذ لإطلاق الصواريخ على إسرائيل حتى عندما يبدأ الجيش الإسرائيلي الحد من قدرة حماس على إطلاق الصواريخ من شمال غزة، ووسط غزة، وخان يونس.
ولكن ما دامت إسرائيل أكثر ثقة في أن قادة حماس والأسرى الإسرائيليين موجودون في خان يونس، فقد كان أمامها متسع من الوقت خلال شهري ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني لمحاولة إنهاء الحرب من خلال محاصرة قيادة حماس في عاصمتها الجنوبية.
التخبط سيد الموقف في الحرب على غزة
لكن مع مرور الوقت، وعدم وجود أي إشارة لاعتقال قيادة حماس في خان يونس، بعد أسابيع من المحاولات، هناك شكوك أكبر في أن أعضاء من قيادة حماس يمكن أن يكونوا في رفح، وهو الأمر الذي كان دائماً مصدر قلق، تقول جيروزاليم بوست.
وإذا كان هذا صحيحاً، فربما لم تكن إسرائيل قد بدأت حتى في ممارسة الضغوط المباشرة اللازمة لإطاحة قيادة حماس والحصول على صفقة مواتية لإطلاق سراح الأسرى.
"وبعبارة أخرى، إذا كانت قيادة حماس لا تفكر في التوصل إلى اتفاق حتى يقترب الجيش الإسرائيلي بما يكفي منها، وإذا كان بعضهم في رفح، التي لم تمس في الغالب، فإن القوة المُلقاة على خان يونس لن تحقق نقطة تحول حاسمة أكثر مما فعلت السيطرة على شمال غزة"، بحسب الصحيفة العبرية.
فلنفترض إذاً أن إسرائيل أدركت أخيراً أنها بحاجة إلى التحرك في رفح، أو على الأقل تأمين ممر فيلادلفيا لمنع حماس من الهروب ووقف عملية التهريب وإعادة التسلح. للقيام بذلك، ستحتاج الحكومة الإسرائيلية إلى إنهاء تأخيرها وتحديد السياسة التي ستتبعها في اليوم التالي، لأن مصر لن تتعاون دون رؤية مرضية طويلة المدى، ومن ناحية أخرى معرفة كيفية التصرف دون قتل مدنيين فلسطينيين في ظل الوضع الأكثر ازدحاماً الذي واجهته غزة حتى الآن، مع وجود خيارات قليلة للإخلاء، وكذلك ما قد تقرره حكومة نتنياهو بشأن ما ستفعله حال عثورها على أيٍّ من قادة حماس بينما الأسرى الإسرائيليون حولهم. وهذا هو الفخ الذي نصبته حماس للجيش الإسرائيلي، بحسب الصحيفة العبرية.
لكن هذه المزاعم تتناقض بشكل صارخ مع الحقائق على الأرض من جهة ومع تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم من جهة أخرى. ففي الأسبوع الأول من يناير/كانون الثاني الجاري، أعلن وزير الدفاع يوآف غالانت وغيره من قيادات جيش الاحتلال أن المرحلة الثالثة من الحرب على غزة قد بدأت. ونقلت صحيفة The New York Times الأمريكية، عن كبير المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري، قوله إن المرحلة الجديدة من الحملة ستشهد خفضاً لأعداد القوات والغارات الجوية. وأضاف أن "إسرائيل ستواصل خفض عدد قواتها في غزة، وكانت بدأت في ذلك هذا الشهر". وأضاف أن "شدة العمليات في شمال غزة بدأت تتراجع بالفعل، مع تحول الجيش نحو شن غارات قصيرة محددة، بدلاً من الاستمرار في مناورات واسعة النطاق".