بعد نحو 100 على الحرب في غزة٬ لا يوجد حتى الآن أي اقتراح متماسك لعقد صفقة تبادل أخرى للأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس في قطاع غزة خلافاً لما قد يتوهمه المرء من متابعة بعض التقارير الإعلامية، كما تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية. ويبدو أن جميع المقترحات المتداولة حتى الآن إنما هي مجرد أفكار طرحها الوسطاء القطريون والمصريون بدعمٍ أمريكي، وبعض التصورات العامة عن المطالب التي يرجَّح أن تسعى إليها قيادة حماس في التفاوض.
عُقدت الصفقة الأولى لتبادل الأسرى في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، وزعمت إسرائيل أن "هذه الصفقة تمَّت لأن حماس كانت واقعة تحت ضغوط عسكرية شديدة جعلتها تسعى إلى وقف طويل لإطلاق النار، واضطرتها إلى الموافقة على ثمن زهيد نسبياً للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين" (ثلاثة معتقلين فلسطينيين من النساء والأطفال مقابل كل أسير إسرائيلي).
لكن يبدو أن يحيى السنوار، زعيم حركة حماس في غزة، كان لديه كذلك دافع آخر لإنجاز الصفقة، وهو أن الأسرى من النساء والأطفال كانوا عبئاً عليه وأراد تحقيق هدف كبير بالإفراج عن الأسيرات الفلسطينيات والأطفال وكلهم من الضفة الغربية والقدس.
مطالب حماس أعلى من أي وقت مضى
وبطبيعة الحال، فإن الحركة لا يزال لديها كثير من أوراق المساومة حتى بعد إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين هؤلاء٬ كما تقول هآرتس. أما مطالب حماس في الجولة الحالية من المحادثات، فهي أعلى من ذي قبل بكثير، فالحركة تطالب بإطلاق سراح "الكل مقابل الكل"، أي جميع الأسرى الإسرائيليين في مقابل جميع المعتقلين الفلسطينيين المحتجزين لدى إسرائيل، كما تشترط حماس وقفاً نهائياً لإطلاق النار، وإعادة إعمار غزة بالكامل ورفع الحصار.
وقد تبدو هذه الالتزامات فضفاضة في أول وهلة، كما تقول الصحيفة العبرية، إذ يصعب فرضها على إسرائيل بمرور بعض الوقت، ويمكن التملص منها بذريعة ما انتهاك حماس لوقف إطلاق النار، ومن ثمَّ الشروع في القتال على أساس أسباب أخرى.
ومع ذلك، فإن موافقة إسرائيل على مثل هذه الصفقة يعني على الحقيقة أن تضع الحرب أوزارها بصورتها الحالية، ويعني كذلك إقرار الحكومة الإسرائيلية والجيش بالإخفاق مرتين: أولاهما الإخفاق في استباق هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول والتصدي له في بداية الحرب، والأخرى هي الإخفاق في بلوغ الأهداف الطموحة التي أعلنت عنها إسرائيل في حربها على غزة، وهي القضاء على حماس وتفكيك قدراتها بالكامل.
في المقابل، فإن طائفة من كبار المسؤولين الحكوميين والعسكريين الإسرائيليين يقولون إن إسرائيل لم يعد لديها خيار آخر سوى المضي إلى هذه الصفقة، لأن القضاء على حماس وتدميرها يقتضي استمرار الحرب وهو هدف ربما يحتاج لسنوات طويلة٬ إلا أن هذه الغاية تُناقض هدف السعي لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وهذا الهدف هو الهدف الوحيد الذي يمكن بلوغه حقاً في الوقت الحالي.
الإفراج عن الأسرى يقتضي الاعتراف بأن حماس انتصرت
ويرى هؤلاء المسؤولون أن الإخفاق الذريع الذي مُنيت به إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتعريض العائلات الإسرائيلية في المستوطنات القريبة من غزة من أخطار القتل والأسر، يجعلان السعي من أجل الإفراج عنهم واجباً على إسرائيل، حتى لو كان ذلك يقتضي الاعتراف بالخيبة في بلوغ أهداف الحرب، أي الإقرار عملياً بأن حماس انتصرت في هذه الحرب.
من المتوقع أن يُكابد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو صعوبة شديدة في القبول بمثل هذه الصفقة. أولاً، لأن هذا المسار يقتضي الاعتراف بالإخفاق في بلوغ أهداف الحرب، والقبول بتنازلات غير مسبوقة تتضمن الإفراج عن معتقلين فلسطينيين ترى فيهم إسرائيل خطراً كبيراً عليها. وثانياً، لأن هذه الصفقة يكاد يكون من المؤكد أنها ستؤدي إلى خروج شريكيه المتطرفين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وحزبيهما من الحكومة، ومن ثم انهيار ائتلافه الحاكم.
ولذلك يتجنب نتنياهو حالياً اتخاذ قرار قاطع في أمر الصفقة، ويراوغ لكسب مزيدٍ من الوقت. فهو يطلق كل يوم أو يومين وعوداً فارغة عن مواصلة الحرب حتى النصر. ومن ناحية أخرى، يرسل ردوداً ملتبسة لحماس من خلال الوسطاء، بحيث يُنشئ صورةً ما عن مفاوضات جارية من دون أن يتخذ خطوات حقيقية نحو التوصل إلى اتفاق، كما تقول هآرتس.
الرأي العام الإسرائيلي يتغير ويطالب بصفقة عاجلة
في الأيام القليلة الماضية، تجدَّد في إسرائيل وخارجها استنفار الحملة العامة والمظاهرات المطالبة بإطلاق سراح الأسرى. ويبدو أن هذا الاستنفار نابع من إدراك لدى كثيرين أن الأسرى لن يطيقوا البقاء في الأسر مزيداً من الوقت، وأنهم معرضون للقتل تحت وقع القصف الإسرائيلي.
زعم الجيش الإسرائيلي أن معلوماته الاستخباراتية وأدلة الطب الشرعي تشير بالفعل إلى مقتل 20 من أصل 136 أسيراً متبقين في غزة. وتُبيِّن شهادات الأسرى الإسرائيليين الذين أُفرج عنهم أن طول مدة الأسر وما يتعرض له الأسرى من مشاق جسيمة يجعلان حياتهم معرضة لخطر مباشر.
ويبدو أن هذه المخاوف هي سبب التغير الذي حدث في الرأي العام الإسرائيلي وكشفت عنه عدة استطلاعات رأي خلال الأسبوع الماضي. إذ أشارت هذه الاستطلاعات إلى أن عدد مؤيدي صفقة تبادل الأسرى (حتى وإن كانت صفقة "الكل مقابل الكل") بات يزيد قليلاً على عدد المعارضين لها.
من المستبعد أن تغير هذه الأمور من معارضة نتنياهو لصفقة تبادل الأسرى، إلا أن شريكيه المؤقتين في مجلس الحرب، الوزيرين بيني غانتس وغادي آيزنكوت، لن يكون لديهما مناص من مواجهة هذه المعضلة عما قريب، ولن يكتفي عائلات الأسرى منهما بالتواصل المنتظم ووعود السعي بالإفراج عن ذويهم. وربما يضطر الاثنان إلى الانسحاب قريباً -ربما خلال بضعة أسابيع- من ائتلاف الذي يقود حكومة الحرب، وقد يلجآن إلى ذلك على الرغم من أن الانسحاب يعني زيادة نفوذ اليمين المتطرف على قرارات الحكومة.
إسرائيل عالقة في غزة
تقول هآرتس٬ في واقع الأمر فإن الإدارة الأمريكية محقة في رأيها بأن إسرائيل عالقة في الحرب على غزة إلى حدٍّ بعيد. والأدلة على ذلك يمكن العثور عليها بسهولة في البيانات الصحفية اليومية التي تلخص أحداث اليوم، وأحداث اليوم السابق، والتحديثات الإخبارية التي يرسلها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إلى جميع الصحف.
تتحدث البيانات الإسرائيلية كل يوم عن قتل مزيد من المقاتلين الفلسطينيين، والعثور على أنفاق أخرى، وتدمير مستودعات أسلحة تابعة حماس، واكتشاف منشآت لتصنيع الذخائر. إلا أن هذه الأمور يصعب وصفها بأنها انتصار لإسرائيل، لا سيما أن الجيش الإسرائيلي يراوح مكانه إلى حدٍّ بعيد، وقد انحسر نشاط الفرقة 162 في شمال غزة، وباتت العمليات العسكرية في الشمال تقوم على شن الغارات على أهداف محددة، والتمسك ببعض الانتشار في ضواحي المناطق المبنية.
الصور التي نشرت خلال نهاية الأسبوع لحشود من الفلسطينيين وهم يتجمعون في سوق مخيم جباليا للاجئين تكشف الحقيقة، وهي أنه كلما تراجع حضور قوات الجيش الإسرائيلي في منطقة ما، فإن الفلسطينيين سرعان ما يخرجون لاستئناف حياتهم في هذه المنطقة.
لا يزال للقوات الإسرائيلية حضور عسكري في بعض المناطق المتاخمة لوسط غزة، حيث تقطع الفرقة 99 القطاع إلى قسمين؛ وتعمل الفرقة 36 في مخيمات اللاجئين في الوسط؛ وتواصل الفرقة 98 عملياتها في خان يونس بحثاً عن مواقع لحركة حماس الاستراتيجية. ومع ذلك، فإن التقدم بطيء على جميع هذه الجبهات، ولا يُتوقع منه تغيير ملموس في وجه الحرب في أي وقت قريب.
ولم تقرر إسرائيل حتى الآن إذا كانت ستشن عملية عسكرية في رفح أم لا، وذلك على الرغم من أنه لا يزال لدى الجيش الإسرائيلي مخاوف من أن ترك الأنفاق المزعومة هناك يعني أن حماس سيسهل عليها استعادة قدراتها العسكرية بإمدادات الأسلحة المهربة عبر الحدود المصرية.
والأمور لا تبعث على التفاؤل أيضاً في الحدود الشمالية، فعلى الرغم من أن الجيش الإسرائيلي يقول إنه "حقق نجاحات تكتيكية في مواجهة حزب الله، وكبَّده خسائر كبيرة"، فإن الوضع الاستراتيجي على طول الحدود لم يطرأ عليه تغيير يُذكر، ولا يلوح في الأفق أي حلٍّ دبلوماسي يسمح لمستوطني شمال إسرائيل بالعودة إلى منازلهم.