شكلت الانتخابات التايوانية التي انتهت بفوز وليام لاي تشينغ المناهض للوحدة مع الصين ضربة كبيرة لبكين في وقت تتوالى الاتهامات الغربية لها بالتدخل في الانتخابات لصالح حزب الكومينتانغ المنافس الداعي لسياسة الصين الواحدة.
وكان لاي يشغل منصب نائب الرئيسة المنتهية ولايتها تساي إنغ ون، والتي أثار استقبالها لرئيسة مجلس النواب الأمريكية السابقة نانسي بيلوسي أزمة ضخمة بين تايبيه وبكين، حيث ردت الأخيرة بتنفيذ مناورات غير مسبوقة حاكت فيها عملية اجتياح للجزيرة التي تعتبر جزءاً من الصين، وفقاً لمبدأ الصين الواحدة الذي ترفعه بكين وتعترف به الدول الغربية وحزب الكومنتانغ المؤسس لدولة تايوان.
نتيجة الانتخابات التايوانية رفض صريح لتحذيرات بكين
واعتبرت وسائل إعلام غربية فوز لاي تشينغ، مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم، رفضاً صريحاً لتحذيرات الصين بعدم التصويت لصالحه.
وتعهد لاي، السبت، بالدفاع عن الجزيرة المتمتعة بحكم ذاتي في مواجهة تهديدات الصين التي تصر على أنها جزء لا يتجزأ من أراضيها.
وقال في كلمة أمام أنصاره: "إننا مصممون على حماية تايوان من تهديدات الصين المستمرة وترهيبها"، مهنئاً الشعب بـ"نجاحه في مقاومة ما وصفه بجهود قوى خارجية للتأثير على هذه الانتخابات".
اتهامات للصين بتنفيذ حملة دعائية ضد الحزب التقدمي
وكانت تايوان في الفترة التي سبقت الانتخابات، قد اتهمت الصين بمحاولة التدخل في سير العملية الانتخابية.
وفي هذا الصدد يقول تقرير لصحيفة The Times البريطانية إن مقاطع الفيديو الغريبة بشأن انتخابات تايوان بدأت في الظهور يوم الثلاثاء، حيث نُشِرَ أكثر من 100 منها على الإنترنت في غضون ساعات قليلة. لقد كانت بدائية من حيث الجودة، مع أصوات صناعية آلية ومقدمين متصلبين بالذكاء الاصطناعي، أحدهم يشبه بابا نويل.
لقد حذفتها المنصات التي ظهرت عليها، بما في ذلك منصة يوتيوب، لكن سرعان ما ظهرت نسخ جديدة مكانها. لقد كانوا ملتزمين بنفس الغاية: التشهير والسبّ بأبشع العبارات للرئيسة تساي إنغ ون، رئيسة تايوان المنتهية ولايتها، والتي تدعم المرشح الذي فاز بالانتخابات وليام لاي تشينغ.
واتُّهِمَت رئيسة الجزيرة المنتهية ولايتها، وهي امرأة تبلغ من العمر 67 عاماً ولم تتزوج قط، بإقامة علاقات متعددة مع رجال ونساء وأنجبت العديد من الأطفال غير الشرعيين.
لا يوجد دليل على الإطلاق على صحة هذه الادعاءات، لكنها تمثل أحدث الرصاصات الرقمية التي أُطلِقَت في حربٍ مستمرة من التضليل والدعاية والأكاذيب التي تشنها حكومة الصين، حسب الصحيفة البريطانية، التي تقول إن توقيت هذه الدعاية، قبيل الانتخابات الرئاسية التي أقيمت يوم السبت، كان يهدف إلى ترجيح كفة الميزان في التصويت الذي ستحدد نتيجته مسار تايوان في وقت يتسم بالتهديد المتزايد والخطر الوجودي.
بكين تصفه بالانفصالي المثير للمشاكل
وقال الرئيس المنتخب: "لقد فعلناها. ولم نسمح لقوى خارجية بالتأثير على انتخاباتنا؛ وذلك لأننا قررنا أننا وحدنا من نستطيع اختيار رئيسنا".
ووصفت بكين لاي بأنه "انفصالي" و"مثير للمشكلات" بسبب تصريحات أدلى بها في الماضي تدعم استقلال تايوان، وهو ما تعده الصين خطاً أحمر.
لكنه أشار في الأشهر الأخيرة إلى أنه لن يسعى إلى الاستقلال الرسمي.
وقال المتحدث باسم المكتب الصيني المسؤول عن العلاقات مع تايوان، تشين بينهوا، إن التصويت "لن يعوق التوجه الحتمي لإعادة التوحيد مع الصين"، وفق ما نقلت عنه وكالة أنباء الصين الجديدة.
كما أكد التزام بلاده بـ"توافق العام 1992 الذي يكرس مبدأ الصين الواحدة ومعارضتها بشدة الأنشطة الانفصالية الرامية إلى (استقلال تايوان) وكذلك التدخل الأجنبي".
الانتخابات التايوانية انتجت هيئة تشريعية منقسمة
وكان الناخبون قد توجهوا في الجزيرة لاختيار هيئة تشريعية جديدة بالإضافة إلى خليفة لتساي في ذروة حملة من المسيرات الصاخبة.
واختار الناخبون خلال الانتخابات التايوانية يوم السبت أيضاً مجلسهم التشريعي، حيث فقد الحزب الديمقراطي التقدمي أغلبيته مع اكتساب المعارضة المزيد من الأرض، على الرغم من عدم حصول أي حزب على مقاعد كافية للسيطرة على البرلمان، وفقاً لتقارير وسائل الإعلام التايوانية.
ويقول المراقبون إن وجود هيئة تشريعية تهيمن عليها المعارضة، مع رئيس من الحزب الديمقراطي التقدمي، قد يعني أن عملية حكم تايوان ستصبح أكثر صعوبة.
وفي الأسواق والملاعب في جميع أنحاء تايوان، تناول المرشحون الثلاثة الرئيسيون القضايا المحلية بما في ذلك ارتفاع أسعار المساكن، ورعاية المسنين، والتدابير اللازمة لحماية الـ5 ملايين خنزير في الجزيرة من حمى الخنازير الأفريقية.
ولكن بالنسبة للعديد من التايوانيين، وبالنسبة للعالم ككل، فإن هذه الانتخابات تدور حول مسائل ذات أهمية دولية، وليست محلية فحسب. يعيش سكان الجزيرة البالغ عددهم 23 مليون نسمة في واحدة من أكثر بؤر التوتر خطورة في العالم، وهو مكان من شأنه أن يشعل حرباً إقليمية، بل وحتى عالمية.
قال ويليام لاي، أمام حشد من الناس الأسبوع الماضي: "العالم كله يراقب تايوان. تصويتك مهم جداً".
وجرت الانتخابات التايوانية في سباق متقارب ومستقطب، كما تعرضت الجزيرة لقصف الدعاية والمعلومات المضللة، وبعد أن قضت فترتين، لا تستطيع تساي الترشح مرة أخرى، ولكن الانتخابات الرئاسية كانت عبارة عن منافسة ثلاثية بين لاي، الذي يمثل الحزب التقدمي الديمقراطي، وهوو يو-إيه من حزب الكومينتانغ، وكو وين-جي من حزب الشعب التايواني الجديد نسبياً المدعوم من الشباب.
الجزيرة منقسمة بين حزب معارض للوحدة مع الصين وآخر مؤيد لها
ويُعَد الحزب الديمقراطي التقدمي هو حزب العدد المتزايد من التايوانيين الذين يعتبرون جزيرتهم التي تتمتع بالحكم الذاتي دولة ذات سيادة، والذين يرفضون مطالبة البر الرئيسي للصين بالسيادة عليها منذ فترة طويلة.
ويتجنب لاي، مثل تساي، التصريحات الصريحة حول استقلال تايوان عن البر الرئيسي، وهي خطوة من شأنها أن تخاطر بإثارة غزو صيني. وموقفه هو أنه ليست هناك حاجة إلى قول الكثير؛ لأن الحقائق واضحة: فالجزيرة، باعتبارها دولة ديمقراطية حرة ومزدهرة، ولها أراضيها وحكومتها وقواتها المسلحة، تُعَد من الناحية العملية دولة قومية.
يثير هذا حفيظة حكومة بكين، التي تتهم لاي وتساي بأنهما انفصاليان وترفض إجراء أي حوار رسمي مع حكومة الحزب الديمقراطي التقدمي. وحذرت وزارة الدفاع في بكين يوم الجمعة من أن جيش التحرير الشعبي "في حالة تأهب قصوى في جميع الأوقات" وسوف "يسحق" أي تحرك نحو الاستقلال.
ويعِد لاي بمواصلة استراتيجية تساي المتمثلة في شراء المزيد من الأسلحة، وبناء علاقات وثيقة مع الأصدقاء الديمقراطيين، بما في ذلك كوريا الجنوبية واليابان، فضلاً عن دول الناتو، لردع أي محاولة للغزو. ويوافق الكثير من التايوانيين على هذا النهج القوي، وحتى حزب الكومينتانغ، الذي سعى تاريخياً إلى إقامة علاقات أوثق مع الصين، يدعم الآن زيادة الإنفاق الدفاعي.
منافسه يتهمه بأنه يتعمد استفزاز بكين
ويعترف هو، منافس لاي الرئيسي، من حزب الكومينتانغ، بأن التوحيد أمر غير وارد في الوقت الحالي. لكنه يصر على أن الحزب الديمقراطي التقدمي، من خلال المبالغة في التأكيد على الأمة التايوانية، والانضمام إلى الولايات المتحدة، يستفز الصين بلا داعٍ ويزيد من فرص الهجوم العسكري.
وحزب الكومينتانغ هو الحزب الذي أطاح بالنظام الإمبراطوري الصيني وأسس الجمهورية الصينية، ثم فرَّ من بكين بعد هزيمته في الحرب الأهلية أمام الحزب الشيوعي في نهاية أربعينيات القرن العشرين ليؤسس تايوان، واعتبر الحزب الجزيرة هي الممثلة الشرعية للصين برمتها، وأيدته الولايات المتحدة لفترة في هذا الأمر، قبل أن تسحب اعترافها بتايوان كممثلة للصين، وتعترف بالأخيرة.
وحتى التعديلات الدستورية لعام 1991 وإرساء الديمقراطية في تايوان، اعتبرت حكومة تايوان التي يهيمن عليها حزب الكومينتانغ أنها تمثل الحكومة الشرعية الوحيدة للصين وأراضيها المحددة دستورياً، بما في ذلك حدود أسرة تشينغ السابقة في البر الرئيسي للصين، وأيضاً تم تصنيف الحزب الشيوعي الصيني على أنه "جماعة متمردة".
وقال مرشح حزب الكومينتانغ هذا الأسبوع: "لاي يدعو إلى استقلال تايوان". وأضاف: "إذا انتُخِبَ فالخطر كبير. لا يمكننا تحمل تكاليف الحرب. ويجب أن يكون السلام خيارنا الوحيد. أريد استخدام الحوار لتقليل المخاطر".
وكانت حكومة الرئيس الصيني شي جين بينغ قلقة بشأن موقف لاي وكانت تميل أكثر لحزب الكومينتانغ، خاصة أن هذا الحزب بعدما كان خصماً للحزب الشيوعي في السابق أعلن في عام 1992، أن كلاً من جمهورية الصين الشعبية وجمهورية الصين قد اتفقتا على وجود "الصين الواحدة"، لكنهما اختلفا حول ما إذا كانت "الصين الواحدة" هذه تمثلها جمهورية الصين الشعبية، أم جمهورية الصين (تايوان).
وفي 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، التقى الرئيس التايواني ما ينج جيو، الذي ينتمي لحزب الكومينتانغ، والرئيس الصيني شي جين بينغ في سنغافورة، في أول اجتماع من نوعه بين الجانبين منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية.
وقبيل إعلان نتيجة الانتخابات، قال مكتب شؤون تايوان الصيني يوم الخميس: "سيواصل لاي اتباع المسار الشرير المتمثل في إثارة الاستقلال.. وسوف يأخذ تايوان بعيداً عن السلام والازدهار، ويقترب أكثر من أي وقت مضى من الحرب والانحدار". وأضاف المكتب: "نأمل مخلصين أن يرى معظم مواطني تايوان، الخطر الشديد الذي يمثله لاي في تحريضه على الصراعات".
يسير على خطى صديقة نانسي بيلوسي التي أدت لأزمة كبيرة بين الصين وتايوان
لأكثر من عامين، انخرطت القوات المسلحة الصينية في مناورات عسكرية في الجو والبحر بالقرب من تايوان، وهي تدريبات يزعم الغرب أنها تحضير لما يصفه بغزو صيني لتايوان. وبلغت ذروتها في عام 2022، عندما زارت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، تايبيه، في زيارة اعترض عليها حتى الرئيس الأمريكي جو بايدن، وأدت إلى إثارة استياء الصين التي نفذت مناورات واسعة حول الجزيرة شملت إطلاق صواريخ باليستية فوقها.
وتُظهِر التجربة أن مثل هذه التهديدات يمكن أن تأتي بنتائج عكسية في الفترة التي تسبق الانتخابات. وعندما أطلق جيش التحرير الشعبي صواريخه في عام 1996، انتهى الأمر بالمرشح الذي عارضته بكين، لي تينغ هوي، إلى الفوز بأغلبية أكبر مما كان مُتوقعاً.
وبصرف النظر عن السلسلة من المناطيد التي أُرسلت على ارتفاعاتٍ عالية فوق الجزيرة، والصاروخ الذي يحمل قمراً صناعياً، كان الأسبوع الماضي هادئاً.
اتهامات للصين بشن حملة دعاية
ولكن بالإضافة إلى التهديدات العسكرية، تزعم صحيفة The Times البريطانية أن الصين تقوم بتعبئة حملة سرية ضخمة ومتعددة الجوانب من التلاعب تهدف إلى تشويه سمعة الحزب الديمقراطي التقدمي وقادته والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وتعزيز حزب الكومينتانغ على أمل التأثير على المشاعر التايوانية وتشجيعها في اتجاه ترجيح نتيجة الانتخابات.
وتقول الصحيفة إن مقاطع الفيديو الخاصة بتساي على الإنترنت هي مجرد غيض من فيض من التدخل السياسي الذي استخدمته الصين منذ فترة طويلة ولكنه وصل إلى مستويات جديدة من الشدة.
وتشمل التكتيكات عبر الإنترنت حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر تقارير كاذبة، مثل الوثائق المزورة التي تصف اقتراحاً أمريكياً لبناء أسلحة بيولوجية في تايوان. ومن الصعب تتبع الجهود "خارج الإنترنت" للتدخل السياسي، والتي تتخذ أشكالاً متنوعة.
ويحقق المدعون التايوانيون مع عشرات الزعماء المحليين الذين قبلوا رحلات دعائية مدعومة إلى الصين. وتعرضت فرق البوب الموسيقية التايوانية التي حققت نجاحاتٍ في البر الرئيسي لضغوط للتعبير عن دعمها لبكين. وذكرت ناشطة أنها بعد شراء كتاب ينتقد الصين من مكتبة في تايبيه، تلقت مكالمات هاتفية غريبة من عملاء صينيين واضحين يحثونها على عدم تصديق محتويات الكتاب والتصويت لصالح حزب الكومينتانغ.
ومن الصعب تحديد تأثير كل هذا على الانتخابات. ولكن حتى بدون التدخل الصيني، تظل تايوان مستقطبة سياسياً كما ظهر في السباق الرئاسي، خاصة في الانتخابات البرلمانية.
ففي الواقع فإن تايوان منقسمة حول مسألة التوحيد مع الصين وليست كما يصورها الغرب، جزيرة يتوق كل سكانها للانفصال عن بكين واللحاق بالغرب، وكما تمارس الصين دعاية لتعزيز الصف الداعي للوحدة، فإن الغرب يمارس دعاية أكثر دهاءً لجعل فكرة انفصال تايوان تبدو كمسألة بديهية وطبيعية، متجاهلاً أن تايوان نفسها تأسست بناء على مبدأ الصين الواحدة الذي ما زالت كل الدول الغربية تعترف بها رسمياً.
في كل الأحوال قد يعني فوز لاي مزيداً من الأزمات بين الصين وتايوان، ومزيداً من التقارب بين الأخيرة والولايات المتحدة، التي قد تكون أسعد من الشعب التايواني بفوز الرئيس الجديد.