تحوّلت ولاية الجزيرة وسط السودان إلى جبهة قتال جديدة، بعد هجوم قوات الدعم السريع عليها لمدة 4 أيام، أعلنت بعدها انتصارها في اليوم الأخير 18 ديسمبر/كانون الأول 2023، بالسيطرة على عاصمة الولاية ود مدني، إثر انسحاب مفاجئ للجيش السوداني.
كانت المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تتركز في العاصمة الخرطوم، وولايات إقليم دارفور غرب السودان، إلا أن فتح الأخيرة جبهة جديدة مفاجئة في ولاية الجزيرة، أمر وصفه محللون بأنه يمثل "نقطة تحول بسير المعارك".
نقطة تحول في سير المعارك
تتميز ولاية الجزيرة وسط السودان، بموقعها الجغرافي، لا سيما أنها تربط ولايات السودان جميعها ببعضها من الوسط، مكتسبة أهمية إضافية، إثر تركز المعارك سابقاً في العاصمة الخرطوم، لتصبح المدينة الثانية في البلاد من حيث الأهمية الاقتصادية والكثافة السكانية.
أوضح المحلل والباحث السوداني أمية أبو فدية في حديثه لـ"عربي بوست"، أن "ولاية الجزيرة بسبب انفتاحها جغرافياً على كثير من الولايات، فإن سقوطها يجعل العديد من الولايات مهددة بالسقوط أيضاً تحت سيطرة قوات الدعم السريع".
وأفاد بأن هذه الولايات هي: سنار والنيل الأبيض والنيل الأزرق وشمال كردفان والقضارف، مؤكداً أنها باتت جميعها مهددة بوجود عمليات عسكرية تستهدفها في حال لم تستعد القوات المسلحة سيطرتها على هذه المدينة.
وتربط ود مدني (عاصمة ولاية الجزيرة) الشمال السوداني بجنوبه، وشرقه بغربه، معلقاً أبو فدية على ذلك بالقول: "إذا لم يتدارك الجيش السوداني الأمر، وبسرعة شديدة، فإن ولايات أخرى ستسقط".
ومع دخول ولاية الجزيرة إلى رقعة القتال، اتسعت جبهات القتال لتنضم الولاية إلى 9 ولايات تشهد اشتباكات مستمرة منذ منتصف أبريل/نيسان 2023، هي العاصمة الخرطوم وولايات دارفور وولايات كردفان، من أصل 18 ولاية في السودان.
مقر الفرقة الأولى مشاة
يوجد في ولاية الجزيرة، مقر الفرقة الأولى مشاة للجيش السوداني، وهي الفرقة الأولى الرئيسية له، والتي كانت قاعدة ينطلق منها الجيش السوداني لمهاجمة قوات الدعم السريع، بحسب ما أكده الخبير العسكري السوداني محمد عبد الحكم.
وقال اللواء المتقاعد عبد الحكم لـ"عربي بوست": "منطقة ود مدني هي بمثابة قاعدة عسكرية مهمة للجيش السوداني، وبخسارتها، فإنه يفقد قدرته على إسناد ودعم القوات الأخرى في الولايات المحيطة للخرطوم، لا سيما شمال كردفان التي تشهد معارك حامية مع قوات الدعم السريع".
وأضاف أنه بحسب تقديره، فإن "الجيش السوداني معنيّ باستعادة هذه الولاية، بسبب أنها تمثل خسارة اقتصادية وأمنية وديمغرافية".
ليس هناك إجابة صريحة حول انسحاب الفرقة الأولى من ود مدني دون قتال، وفق عبد الحكم، الذي قال إنه "رغم ما حصل، فإنه قبل الانسحاب كانت هناك احتفالات بالنصر على قوات الدعم السريع قبل يوم فقط من دخول قوات الدعم السريع المدينة من الجهة الشرقية".
وتابع: "القوات المسلحة أخرجت بيانها، وقالت إنه انسحاب ليست واضحة أسبابه بالنسبة لها، وإن الأمر تحت التحقيق، وهي ذاتها لم تبرر ولم توضح سبب ما حدث".
وحذر من أن استمرار سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة، يؤثر على سير المعارك وسط البلاد، ويهدد مناطق السودان الشرقية، التي تفصل بينه وبين مناطق الساحل، خصوصاً أن هذه القوات لا يوجد ضمن مناطق سيطرتها أي نفوذ على الساحل السوداني.
ورجح أن "الجيش السوداني سيعمل على استعادة هذه الولاية الهامة سريعاً"، مستبعداً إمكانية قوات الدعم السريع المحافظة على سيطرتها في ولاية الجزيرة بعيداً عن خطوط إمدادها وقواتها الرئيسية المتمركزة غرب السودان.
وكان الجيش السوداني أعلن عن انسحاب قوات رئاسة الفرقة الأولى من مدينة مدني، وقال: "يجري التحقيق في الأسباب والملابسات التي أدت لانسحاب القوات من مواقعها، شأن بقية المناطق العسكرية، وسيتم رفع نتائج التحقيق فور الانتهاء منها لجهات الاختصاص، ومن ثم نشر الحقائق للرأي العام".
وقال رئيس المجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، الجمعة 22 ديسمبر/كانون الأول 2023، في بيان إنه "ستتم محاسبة كل من تسبب في ماحدث بمدني، ولا مجاملة في ذلك".
أثار هذا الأمر تساؤلات لدى الناشطين السودانيين، وعبروا عن غضبهم وسط غياب الرواية الرسمية لأسباب انسحاب الفرقة الأولى مشاة من مقرها، وسيطرة قوات الدعم السريع عليه.
من جهته، قال أبو فدية إن سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة تهدد بعزل ولايات شرق السودان عن العاصمة، وجنوب البلاد وغربها.
وأشار إلى أنه "لا تستطيع مدينة أخرى أن تحتمل ما احتملته ولاية الجزيرة من حيث استقبال النازحين".
نصف مليون نازح من الخرطوم
تؤوي ولاية الجزيرة بحسب الأمم المتحدة أكثر من نصف مليون نازح، أغلبيتهم من العاصمة، مشيرة إلى أن المعارك الأخيرة في الولاية ذاتها أجبرت نحو 300 ألف نازح إلى النزوح مجدداً إلى ولايات محيطة.
وأشارت الأمم المتحدة، في بيان، إلى أن "ود مدني تُعدّ بمثابة مركز للعمليات الإنسانية، منذ اندلاع القتال في أبريل/نيسان 2023، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع"، موضحة أن النازحين فقدوا بذلك ملاذهم الآمن.
وأوضح أبو فدية أن الكثير من سكان الخرطوم تحولوا إلى المدن القريبة، لا سيما ود مدني، التي تقع جنوب شرق ولاية الخرطوم، بنحو 170 كيلومتراً، لا سيما أنها مشابهة لولاية الخرطوم من حيث الخدمات والتعليم الجيد، وجميع ما يحتاجونه للاستقرار.
وقال إن التقديرات التي حصل عليها مركزه الذي يديره، مركز السودان لحقوق الإنسان وحرية الإعلام، ترجّح أن عدد سكان ولاية الجزيرة زاد بعد المعارك بنحو نصف مليون نازح، مشيراً إلى أن عدد أهالي هذه الولاية قبل المعارك كان 2 مليون نسمة، محذراً من كارثة إنسانية في حال نزوح 2 مليون ونصف المليون من السكان والنازحين فيها.
لماذا ولاية الجزيرة؟
هاجمت قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة، رغم تصاعد الاشتباكات التي تقوم فيها في كل من العاصمة الخرطوم، وولايات إقليم دارفور، التي باتت كلها تحت سيطرتها باستثناء عاصمة شمال دارفور (الفاشر) التي تتواجد فيها الحركات المسلحة، ما يثير تساؤلات عن أهمية هذه الولاية.
تعد ولاية الجزيرة هي الثانية في السودان من حيث عدد السكان المقدر عددهم بنحو 2 مليون، ومن حيث الثقل الاقتصادي بعد العاصمة، وفيها كذلك أكبر مشروع زراعي في البلاد عمره 98 عاماً، وهي تربط الخرطوم بولايات شرق السودان.
كذلك فقد اكتسبت بعداً تاريخياً وثقافياً وجغرافياً، وتشهد تنوعاً ديمغرافيا لأهلها، بإثنياتهم وقبائلهم ولهجاتهم المختلفة، باعتبار أنها مدينة صناعية وليست حاضرة أو بادية، بحسب أبو فدية.
وأشار إلى أن الكثير من المؤسسات والشركات كانت قد انتقلت من الخرطوم إلى الجزيرة بسبب الاشتباكات في العاصمة، بالتالي زادت أهمية الولاية.
وكانت ولاية الجزيرة تاريخياً عاصمة للسودان قبل الخرطوم، إذ كانت العاصمة في ود مدني.
أكبر مصدر غذائي واقتصادي
تعدّ ولاية الجزيرة أكبر مركز زراعي في السودان، حيث مشروع الجزيرة، وكانت بداية التسعينيات المدينة الأولى اقتصادياً للسودان، كما أن وزارة الري تعمل من هناك ويتواجد مقرها في هذه الولاية.
ويوصف مشروع الجزيرة كأكبر مشروع مروي في أفريقيا وأكبر مزرعة في العالم ذات إدارة واحدة.
وأشار أبو فدية إلى أن السودانيين يرون بأن سقوط ولاية الجزيرة يهدد مستقبل السودان الاقتصادي كله.
وأوضح أن "هناك تحدياً كبيراً للحكومة في استعادة السيطرة على الجزيرة، في وقت مهم جداً، بسبب أننا مقبلون على العروة الشتوية التي هي مرحلة يقوم بها السودان بالزراعة للموسم الشتوي، الذي بات مهدداً الآن بشكل كبير، ما سيسبب خسائر اقتصادية وزراعية كبيرة جداً.
وأكد أن "خروج أي عروة عن العمل، تمثل أزمة اقتصادية، تضاف أصلاً إلى ما يعانيه السودان اقتصادياً، ما يهدد الأمن الاقتصادي لكثير من الأسر، التي ستتأثر بشكل مباشر".
وفي ولاية الجزيرة أيضاً، المخزون الاستراتيجي من السماد الصناعي مثل اليوريا وغيرها، خصوصاً في مدينة ود مدني، وهناك مقر البنك الزراعي.
يشار إلى أنه منذ منتصف أبريل/نيسان 2023، يخوض الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" حرباً خلّفت أكثر من 12 ألف قتيل، وما يزيد على 7 ملايين نازح ولاجئ، وفقاً للأمم المتحدة والمنظمة الدولية للهجرة.