كشفت مصادر لـ"عربي بوست"، الإثنين، 20 فبراير/شباط 2023، عن مباحثات تجريها الحكومة في مصر للبدء بقرارات جديدة تقشفية في البلاد، على إثر الأزمة الاقتصادية المتردية، تأتي بعد إعلان مفاجئ من السلطات إلغاء منتدى "شباب العالم"، إلى جانب قرارات متعلقة بخفض التكاليف الحكومية، بينها ما هو متعلق بتجميد تطوير مئات القرى.
قرار وقف مشروع حكومي لتطوير مئات القرى، يأتي على إثر توجه الحكومة لقرارات تقشفية بعد مشاريع عدة مثيرة للجدل، وصفها معارضون لها بأنها استنزفت الدولة، أبرزها العاصمة الإدارية وبناء "أكبر مسجد"، و"أكبر كنيسة"، و"أطول أبراج في القارة السمراء".
من أبرز الإجراءات الجديدة التي تبحثها الحكومة، ما كشفت عنه المصادر بشأن تخفيض إنارة الكهرباء في الشوارع، وتقليل النفقات المتعلقة بالفعاليات الرسمية، مشيرة إلى تجميد أعمال مشروع "حياة كريمة"، ووقف مشاريع متعلقة بدعم المناطق الأكثر احتياجاً.
قبل ذلك، كانت السلطات في مصر قد أعلنت بشكل مفاجئ إلغاء النسخة الخامسة مما يُعرف بمنتدى شباب العالم في شكله السنوي الذي يعد منصة مفضلة للرئيس عبد الفتاح السيسي، وذلك بسبب "الأزمات الاقتصادية التي تضرب العالم في الوقت الحالي"، في حين أن هذا القرار لن يكون الأخير من نوعه، بحسب المصادر ذاتها، التي كشفت في هذا الإطار عن حزمة من القرارات التقشفية التي تبحثها الحكومة، وتعتزم أن تقر عدداً منها.
تجميد أعمال مشروع "حياة كريمة"
عن تفاصيل التقشف الذي من المتوقع أن يطال مشروع "حياة كريمة"، كشف المصدر لـ"عربي بوست" أن المرحلة الثانية للمشروع جرى تأجيلها إلى أجل غير مسمى، دون وضع السلطات جدولاً زمنياً لذلك.
"حياة كريمة" تعد مشروعاً حكومياً تقول السلطات إنه يهدف إلى التخفيف عن كاهل المواطنين بالمجتمعات الأكثر احتياجاً، في الريف والمناطق العشوائية في الحضر، وكان من المقرر إطلاق مرحلته الثانية مع بداية العام الجاري 2023، في 52 قرية جديدة، إلا أن المصدر أكد وقفها بالكامل.
حول الأسباب، أوضح المصدر أن الحكومة واجهت صعوبات تكبدتها موازنة الدولة في المرحلة الأولى للمشروع، التي ما زال العمل جارياً عليها حتى هذه اللحظة.
مصدر مطلع آخر في "حياة كريمة"، أكد لـ"عربي بوست" أيضاً، أن التقشف بدأ بالفعل يطال المشروع، الذي كان من المفترض أن يشمل في جميع مراحله 1670 قرية.
أشار المصدر إلى أن تكلفة المرحلة الأولى بلغت 300 مليار جنيه، وهو مبلغ سيتضاعف الآن مع تراجع قيمة الجنيه، في حين أن المخصصات المقدرة للمرحلة الثانية للمشروع لم تتحدد بعد، وستتأثر بخطط التقشف الحكومية.
عن القرارات التقشفية المتعلقة بالجهود الحكومية المبذولة في القرى ضمن المشروع ذاته، قال المصدر إن الحكومة تتجه أيضاً نحو تقليص عدد القرى التي تصل إليها مشروعات الصرف والمياه ذات التكاليف الباهظة.
وكشف كذلك عن أن هناك مشاكل في صرف الإعانة التي توجه للمواطنين المصريين تحت خط الفقر الذين يشملهم مشروع "تكافل وكرامة" التابع لوزارة التضامن الاجتماعي، وقد كان يصرف لهم 500 جنيه كإعانة شهرية، إلا أنه تم إيقافها تحت حجج مختلفة، ومبررات عديدة، منذ 4 أشهر لعدد كبير من المواطنين.
وقف إنارة الشوارع
كشف مصدر مطلع في وزارة الكهرباء لـ"عربي بوست"، أن هناك مباحثات تدور في أروقة الحكومة "لتخفيض مزيد من تكاليف إنارة الكهرباء في الشوارع والتي تكلفها سنوياً 10 مليارات جنيه".
تطال القرارات الإنارة الخارجية للمباني والميادين العامة، وتخفيض إنارة الشوارع والمحاور الرئيسية، في حين أشار المصدر إلى أن هناك جدية في تطبيقها ضمن إجراءات تقشفية عدة.
كشف المصدر كذلك عن أن مشروعات صيانة الإنارة التي كان من المقرر أن تصل إلى الطرق القديمة ضمن مشروع "حياة كريمة"، جرى تأجيلها أيضاً لتخفيض مزيد من تكاليف إنارة الكهرباء في الشوارع، التي تكلّفها سنوياً 10 مليارات جنيه.
قرارات تقشفية أخرى
قرارات أخرى كشف عنها مصدر "عربي بوست"، منها خفض تكاليف المكالمات الحكومية التي تصل إلى 300 مليون جنيه، إلى جانب توقف الإنفاق على إقامة المؤتمرات الضخمة، وسفر الوفود إلى خارج البلاد، كذلك خفض الإنفاق على المهرجانات والمناسبات العامة.
هذا التوجه طال مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية في دورته الـ12 واختتمت فعالياته منذ أيام، إذ انتشرت حالة من الاستياء الشديد بين القائمين عليه.
كشف عضو في إدارة المهرجان لـ"عربي بوست" أنهم اضطروا لخفض عدد المدعوين، وتم الاستغناء بشكل كلي عن الإعلاميين والصحفيين، والاكتفاء بنشرات وبيانات صحفية للترويج للمهرجان، بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الخدمات، مثل الطيران والإقامة والتنقل والدعاية.
أشار المصدر أيضاً إلى أن ميزانية المهرجان انخفضت قيمتها إلى أكثر من النصف مقارنة بالعام الماضي، ما اضطر الإدارة لقصر الدعوات على طواقم العمل الفني المشارك بالمهرجان، وبعض النقاد والمبدعين من الأفارقة.
كذلك كشف مصدر في وزارة الثقافة لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته، عن أن الأمر لن يتوقف عند مهرجان الأقصر، لكنه "سيطول المهرجانات السينمائية المصرية، سواء كانت دولية أو إقليمية أو محلية".
بهذا الخصوص، أوضح أن "هناك تعليمات غير مكتوبة (منعاً للإحراج أمام دول العالم) تم توجيهها لإدارات المهرجانات، بأن الوزارة لن تتحمل، ولن تدعم قيمة تذاكر طيران الضيوف الأجانب أو تصرف بدلاً لهم، وأن على من يرغب بالمشاركة تحمل نفقاته شخصياً".
قرار الوزارة جاء ليتماشى مع حزمة القرارات التي أعلنها رئيس الوزراء مصطفي مدبولي منتصف كانون الثاني/يناير 2023، لكي يرشد الإنفاق العام في الموازنة العامة للدولة، بحسب المصدر.
شح الدولار، وارتفاع أسعار تذاكر الطيران، وبالمثل ارتفاع تكاليف الإقامة بالفنادق، يضع المهرجانات القادمة في مأزق وفقاً للمصدر ذاته، الذي قال إن على المنظمين في الفترة المقبلة، إلغاء المهرجانات أو تخفيض عدد الضيوف، والبحث عن مصادر تمويل في الداخل أو الخارج، بعيداً عن الدعم الحكومي.
كانت المهرجانات حتى عام 2020 تحصل على دعم حكومي عن طريق وزارة الثقافة، يغطي في بعض الأحيان نصف التكلفة، لكن الدعم انخفض للنصف تقريباً خلال العامين الماضيين، بحسب المصدر، الذي أضاف أنه مع انخفاض قيمة الجنيه أصبح الدعم لا يتجاوز أكثر من 10% من الميزانية.
الحكومة المصرية التي حرصت طوال السنوات الماضية على أن تُظهر قدراتها على بناء أكبر مسجد، وأكبر كنيسة، وأكبر عاصمة جديدة، وأطول أبراج في القارة السمراء، فرضت سياسة تقشف طالت إلى جانب منتدى الشباب، المؤتمر الوطني للشباب وملتقى الشباب العربي والإفريقي.
وتوقف المؤتمر الوطني للشباب، ولم ينعقد منذ آخر دورة له عام 2019، كذلك الحال بالنسبة لملتقى الشباب العربي والإفريقي.
كذلك أشار مصدر حكومي في وزارة التضامن الاجتماعي، إلى أن الحكومة أوقفت أيضاً حفلات الدعاية والإعلان التي كانت تنظمها بين الحين والآخر للترويج لمشروعاتها الجديدة.
كما أن موازنة الصرف على مشروعات العاصمة الإدارية التي كان من المتوقع أن تصل إلى 50 مليار جنيه خلال العامين الماضيين، تراجعت بصورة كبيرة، وهو ما انعكس على تراجع حجم إنجاز المشروعات المقامة هناك.
كذلك الوضع بالنسبة لخطط التوسع في بناء المدن الجديدة، إذ تم الاكتفاء بما جرى افتتاحه حتى الآن، وكان آخرها سوهاج الجديدة، وهي إحدى المدن التي امتد العمل بها لسنوات ماضية، بحسب المصدر الذي تحدث لـ"عربي بوست".
أسباب إلغاء منتدى الشباب
التقشف الحكومي طال في وقت سابق منتدى شباب العالم، الذي تنظمه الدولة المصرية سنوياً، حيث قررت السلطات بشكل مفاجئ إلغاء دورته الخامسة المقرر انعقادها في شهر فبراير/شباط 2023، ليكون واحدة من جملة الفعاليات والإجراءات الحكومية المتوقفة مؤخراً.
قال نائب مصري لـ"عربي بوست"، إن "المؤتمر كان في طريقه للانعقاد بشكله التقليدي، وبدأت إدارته بالفعل تجهيز طرق التسجيل لحضور الراغبين من مختلف دول العالم، لكن تراجع إيرادات الرعاية التي تمول تكاليفه والصورة السلبية لمؤتمرات الشباب دفع للتراجع عن انعقاده".
بحسب المصدر ذاته، الذي فضل عدم ذكر اسمه، فإن الإدارات المحلية في مدينة شرم الشيخ التابعة لمحافظة جنوب سيناء، تتكبد مئات الملايين من الجنيهات سنوياً، لتجهيز المدينة لاستقبال الوفود المشاركة، بالإضافة إلى أن الضغط المالي الذي سببته قمة المناخ الأخيرة في المنتجع ذاته جعل هناك صعوبة لتحمل نفقات أخرى، لا سيما أنها معرضة لأن تتضاعف مع تراجع قيمة الجنيه.
عن الأسباب أيضاً، كشف النائب المصري عن أن الحكومة تحاول الظهور أمام المواطنين بأنها تطبق حزمة من الإجراءات التقشفية، لإقناع المواطنين بالتراجع عن الإنفاق ضمن رؤيتها للتعامل مع التضخم.
أشار كذلك إلى أن محاولات سحب أموال المواطنين من خلال طرح شهادات الادخار طويلة الأجل لم تأتِ بالنتائج المرجوة، ولم تحقق نصف المبالغ المأمولة منها، لذلك اتخذت قرارات تشي بأنها ملتزمة بإيقاف "البذخ".
أضاف إلى الأسباب أيضاً، أن انعقاد المنتدى بما يصاحبه من مظاهر إنفاق على آلاف الشباب الأجنبي "سيكون استفزازاً غير مبرر للمواطنين".
وقال إن الإلغاء جاء أيضاً استجابة لمطالب قدمتها أحزاب وقوى سياسية، بما فيها أطراف موالية للحكومة، طالبت بضرورة التريث قبل اتخاذ قرار عقد المنتدى في هذا التوقيت، الذي يعاني فيه المواطنون من ارتفاعات في الأسعار، وصعوبات المعيشة.
"وقت البذخ ولَّى"
تعليقاً على إجراءات التقشف، قال مصدر حكومي إن "وقت البذخ قد ولَّى"، مؤكداً أنه "من الصعب تكرار ما حدث في الثماني سنوات الماضية من تجنب لتفاقم الأزمة الاقتصادية بالمستقبل القريب، في ظل الضغوطات التي يمارسها صندوق النقد الدولي، في التعرف على أوجه الإنفاق الحكومي والرقابة عليها، مع مطالباته المستمرة بتخلي القوات المسلحة عن أنشطتها الاقتصادية".
أوضح في حديثه لـ"عربي بوست"، أنه بحسب شروط القرض الأخير لصندوق النقد الدولي، فإنه سيُطلب من جميع المؤسسات المملوكة للدولة تقديم حسابات مالية نصف سنوية إلى وزارة المالية، ستُنشر إلى جانب بيانات حول أي إعانات تتلقاها، كما أن الحكومة المصرية وافقت في سبيل رغبتها في الحصول على القرض، على نشر عقود المشتريات العامة كافة، التي تتجاوز 20 مليون جنيه.
أكد المصدر الحكومي أن "الحكومة المصرية انتهت من تخصيص أموال لمشروعات ضخمة وغير ضرورية، كان لها الأثر المباشر في الأزمة الراهنة، بينها تحديد 2 مليار جنيه إسترليني لبناء أطول برج في إفريقيا بالعاصمة الإدارية، ويصل ارتفاعه إلى 385 متراً، إلى جانب إنشاء 5 أبراج مطلة على البحر المتوسط في مدينة العلمين، الجديدة بتكلفة تصل إلى 38 مليار جنيه".
يشار إلى أن مصر تشهد أزمة اقتصادية متردية، لا سيما بعد تعويم الجنيه، وانخفاض المعروض من العملات الأجنبية، والتضخّم، وارتفاع تكاليف المعيشة، إلى جانب أسباب أخرى متعلقة بما بعد أزمة كورونا "كوفيد-19" والحرب في أوكرانيا المستمرة منذ عام تقريباً، التي ألقت بظلالها أيضاً على الاقتصاد المصري.