الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة باتت تعرقل صياغة موقف أوروبي موحد من الأزمة، وهي لا تكشف فقط عن اختلاف كبير بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن القضية الفلسطينية وإسرائيل، بل النظرة المتعمقة تكشف أن هذه الخلافات ترتبط بنظرة كل دولة أوروبية لنفسها ولتاريخها.
ونتيجة الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة، حدث انقسام سياسي جديد في أوروبا، وهو انقسام يمتد عبر 3 مجموعات على الأقل من دول الاتحاد الأوروبي، ويمثل فجوةً متزايدة الاتساع بين مواقف الحكومة والرأي العام، وبالتوازي يزيد ذلك بشكل كبير من معاداة السامية وكراهية الإسلام، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
الموقف الأوروبي جعل الدعوة للتضامن مع أوكرانيا نموذجاً لازدواجية المعايير
يتخذ الضرر الذي يلحق بالدبلوماسية الأوروبية في الشرق الأوسط وخارجه أشكالاً عديدة. ففي المقام الأول، وجّهت حرب غزة ضربةً قوية للجهود التي تبذلها الحكومات الأوروبية لحشد بقية العالم لدعم أوكرانيا في حربها للدفاع عن النفس ضد روسيا.
وقد أدى عدم رغبة أوروبا في اتخاذ خطوات ملموسة لتقييد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة إلى تعزيز السردية القائلة بأن الغرب مذنب من خلال الكيل بمكيالين، حيث يتعامل مع دعم أوكرانيا باعتباره معركةً من أجل مستقبل النظام الدولي القائم على القواعد في حين أنه غير راغب في مساءلة إسرائيل، حسب الصحيفة البريطانية.
ثانياً، تضع الحرب علامة استفهام حول مصداقية "القوة الناعمة" لأوروبا -والتي يُنظر إليها غالباً باعتبارها أصلاً مهماً من أصول قارة تفتقر إلى حد ما إلى الوزن العسكري.
وربما عانت القوة الناعمة التي تتمتع بها أوروبا في العالم العربي من ضرر لا يمكن إصلاحه. ويبدو أن المسؤولين الأوروبيين قد توصلوا إلى أنهم قادرون على تحمّل هذا الضرر قصير الأمد الذي قد يلحق بسمعتهم، معتقدين أن علاقات أوروبا مع العالم العربي سوف تعود إلى طبيعتها بمجرد انحسار الحرب في غزة.
خارطة الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة تظهر 3 معسكرات
تظهر الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة واضحة في نمط التصويت الأوروبي بشأن القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة.
في التصويت الأول، الذي دعا إلى هدنة (وليس وقف إطلاق النار)، أيدت 8 دول في الاتحاد الأوروبي، واعترضت 4 دول وامتنعت 15 دولة عن التصويت. وفي التصويت الثاني، الذي دعا إلى "وقف إنساني فوري لإطلاق النار" والإفراج غير المشروط عن المحتجزين الإسرائيليين، أيدت 17 دولة في الاتحاد الأوروبي القرار، واعترضت دولتان وامتنعت 8 دول عن التصويت.
غني عن القول أن مثل هذه الانقسامات تجعل من الصعب على جوزيب بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، اتخاذ موقف دبلوماسي واسع، بما يكفي لحشد جميع الحكومات الـ27 خلفه.
ومنذ هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وبدء الهجوم الانتقامي الإسرائيلي على قطاع غزة، انقسمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على نطاق واسع إلى 3 معسكرات.
فمن ناحية هناك أولئك الذين أعلنوا وقوفهم "إلى جانب إسرائيل"، ورفعوا علمها على المباني الحكومية، ودعم حملتها العسكرية، وتجنب الانتقادات حتى بعد أن دمر الجيش الإسرائيلي أغلب غزة بالأرض وقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين. وتبرز جمهورية التشيك والنمسا والمجر في هذا المعسكر، تليها ألمانيا، حسبما ورد في تقرير لمركز the Cairo Review of Global Affairs التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة.
كما تواصل ألمانيا وهولندا تحديداً، توريد الأسلحة إلى إسرائيل، على الرغم من سياسات تصدير الأسلحة التي تتطلب وقف عمليات النقل هذه عندما يكون هناك خطر المساهمة في انتهاكات القانون الإنساني الدولي.
وعلى الطرف الآخر من طيف الخلافات الأوروبية بشأن حزب غزة، هناك حكومات تعلن أنها تقف "إلى جانب السلام"، ورغم إدانتها الشديدة لحماس، ظلت تدعو إلى وقف إطلاق النار وتنتقد إسرائيل علناً بسبب انتهاكها للقانون الإنساني الدولي.
وتعد بلجيكا وإسبانيا وأيرلندا الأعضاء الأعلى صوتاً في هذا المعسكر المعتدل، تليها فرنسا والعديد من الدول الأخرى مثل سلوفينيا والبرتغال ومالطا ولوكسمبورغ الأخف صوتاً في انتقاد إسرائيل، علماً بأن هذا المعسكر لا يمكن وصفه بالمؤيد للفلسطينيين، بقدر ما هو رافض لإفراط إسرائيل في الوحشية.
وفي هذا الصدد، قال مارتن كونيني، مدير المشروع الأوروبي للشرق الأوسط لصحيفة the Guardi البريطانية: "لم يلوح أي من هذه الدول بالأعلام الفلسطينية أو قال إنه يجب تفضيل الفلسطينيين بطريقة أو بأخرى على الإسرائيليين". ولكن ببساطة هذه الدول لا تزال تمثل الموقف التقليدي للاتحاد الأوروبي بشأن الصراع – موقف دعم حل الدولتين والقانون الدولي".
أما المعسكر الثالث، وهو المعسكر الأوسط، فيتكون من أولئك الذين يقعون في مكان ما بين المجموعتين الأوليين: الذين يقفون إلى جانب إسرائيل ولكن بعبارات أقل فجاجة من المعسكر الأول.
الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة تمتد إلى المفوضية الأوروبية
وبالإضافة إلى الانقسامات بين الدول الأعضاء وداخلها، أدت الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة أيضاً إلى انقسام قيادات مؤسسات الاتحاد الأوروبي. وقد جسدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وهي ديمقراطية مسيحية ألمانية، النهج المنحاز لإسرائيل، مما أدى إلى تعرضها لانتقادات حادة، حيث اعتبر معارضوها أنها تتحدث باسمها الشخصي وليس باسم كل أوروبا، إذ وُجهت إليها اتهامات من 842 مسؤولاً في المفوضية عُدّت رسالة مشتركة قالوا فيها "إننا لا نرى قيم الاتحاد الأوروبي في اللامبالاة الظاهرة التي أظهرتها مؤسستنا خلال الأيام القليلة الماضية تجاه المذبحة المستمرة ضد المدنيين في قطاع غزة".
وعلى النقيض من ذلك، حاول رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل، الليبرالي البلجيكي، والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، الاشتراكي الإسباني، توجيه الاتحاد الأوروبي في اتجاه أكثر اعتدالا. وكثيراً ما تحدث بوريل، الذي يجسد المعسكر المعتدل على مستوى الاتحاد الأوروبي، بصراحة أكبر عن حقائق الصراع مقارنة بالزعماء الدوليين الآخرين. وإلى جانب إدانته لحماس، وصف الأزمة بأنها "نتيجة لفشل سياسي وأخلاقي للمجتمع الدولي دام 30 عاماً في تحويل حل الدولتين إلى واقع".
لماذا تبدو الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة ومجمل الصراع العربي الإسرائيلي عميقة إلى هذا الحد؟
إحدى الإجابات على هذا السؤال هو أن العوامل المؤثرة على الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة ومجمل الصراع العربي الإسرائيلي تضرب بجذورها في تاريخ كل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، من الحقبة ما بين 1918 إلى 1939 وحتى النصف الأخير من القرن العشرين.
لإلقاء الضوء على الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة وأسباب، ألقت صحيفة Financial Times البريطانية نظرةً على دولتين: جمهورية التشيك وإسبانيا باعتبار كل منهما يمثل نموذجاً لأحد المعسكرين الرئيسيين بأوروبا.
لماذا تؤيد التشيك إسرائيل لهذا الحد؟
تُعَد التشيك من بين أشد المؤيدين لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي، في حين أن الإسبان هم من بين أكثر المؤيدين للفلسطينيين، وبالتالي فإن الدولتين تمثلان قطبي طيف الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة.
لفهم أسباب اتخاذ جمهورية أقصى المواقف تشدداً في دعم إسرائيل، يجب فهم تاريخ البلاد.
في معظم الأحيان بين عامي 1948 و1989، حافظ الاتحاد السوفييتي على علاقات وثيقة مع الدول العربية المعادية لإسرائيل، واضطرت الدول التابعة لموسكو إلى تطبيق السياسة نفسها في الشرق الأوسط.
وبعد عام 1989، كان الموقف المؤيد لإسرائيل يمثل تأكيداً على حق التشيك في صياغة سياسة خارجية مستقلة، وإن كانت متحالفة مع الولايات المتحدة.
وبصفة عامة، فإن دول تجمع بلدان أوروبا الوسطى المسمى دول فيشجراد (المجر – تشيك – سلوفيكيا، بولندا) تميل بشكل كبير لتأييد إسرائيل، علماً بأن معظم الهجرات إلى إسرائيل جاءت من دول أوروبا الشرقية وعلى رأسها هذه الدول.
إضافة لدول شرق أوروبا التي تحاول التقرب من أمريكا عبر البوابة الإسرائيلية، فإن دول شمال أوروبا مثل هولندا كان بها جاليات يهودية كبيرة ومؤثرة، كما أن بعضها لديها عقد الذنب الخاصة بها مثل ألمانيا فقط.
وقالت بريجيت هيرمانز، باحثة ما بعد الدكتوراه في مركز حقوق الإنسان بجامعة جنت البلجيكية لصحيفة the Guardian: "إن الدول المؤيدة لأمريكا – التي تميل إلى أن تكون أكثر تأييدًا لإسرائيل".
وعلى النقيض من ذلك، لم تكن مثل هذه الدوافع قوية في حالة دول جنوب أوروبا التي تمثل أسبانيا نموذجاً لمواقفها، كما يسود إيرلندا التي دعت لمراجعة العلاقات التجارية للاتحاد الأوروبي مع إسرائيل، شعور بالتضامن مع الفلسطينيين في ظل معاناتها التاريخية من الاحتلال البريطاني، الذي كان استعماراً استيطانياً كالاحتلال الإسرائيلي.
لماذا تتصدر إسبانيا قائمة الدول الأوروبية المنتقدة لإسرائيل؟
تقدم إسبانيا نموذجاً لافتاً في التعاطف مع الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
وكانت علاقة إسبانيا مع إسرائيل مضطربة في كثير من الأوقات، ولم تُقِم حتى علاقات دبلوماسية كاملة حتى عام 1986، أي بعد ما يقرب من 4 عقود من تأسيس دولة إسرائيل.
وكان هذا التاريخ المتأخر نسبياً نتيجة للتوترات التي نشأت عن معارضة الدولة العبرية لدخول إسبانيا إلى الأمم المتحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية، بسبب قربها من ألمانيا النازية.
ومن ناحية أخرى، حاولت إسبانيا ما بعد عام 1945 بناء علاقات وثيقة مع العالم العربي والإسلامي، مع التركيز على الحاجة إلى الاستقرار في جيرانها في شمال أفريقيا عبر البحر الأبيض المتوسط.
وبعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الثاني، قال الدبلوماسي الإسباني جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية – والوزير السابق – لصحيفة الباييس إن إسبانيا دولة ذات "تعاطف واضح مع العالم العربي".
ومن الجدير بالذكر أنه رغم أن السياسة الإسبانية مُستَقطَبة بين اليسار واليمين (ناهيكم عن بين الحكومة المركزية في مدريد والانفصاليين في كتالونيا)، فإن قضية مناصرة الفلسطينيين توحد كل القوى السياسية تقريباً.
لعل الاستثناء الوحيد هو حزب فوكس اليميني المتطرف. ومع ذلك، قبل ظهور حزب فوكس، دعمت المجموعات البرلمانية الإسبانية ذات التوجهات السياسية المتنوعة اقتراحاً في عام 2014 للاعتراف بفلسطين كدولة في تصويتٍ كاد يكون بالإجماع.
وقال هيو لوفات، زميل السياسات البارز في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إنه بينما يلعب الدعم المجتمعي دوراً في اتخاذ هذه المواقف (الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني)، فإن الميول السياسية للحكومة التي تتولى السلطة في كل دولة تلعب دوراً أيضاً.
ويقود رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي بيدرو سانشيز ائتلافاً يسارياً يوصف بأنه تقدمي، ويبدو أن له تأثيراً كبيراً على التوجه الحالي لإسبانيا.
الرأي العام الأوروبي: انقسامات عميقة وكتلة كبيرة لا تكترث
الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة، لا تقتصر على الحكومات، بل تشمل الشعوب أيضاً.
ويظهر تحليل Financial Times، إن أكثر من نصف الذين شملهم الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة يوغوف في مايو/أيار 2023 في 7 دول في أوروبا الغربية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، أعربوا عن وجهة نظر، مفادها أن القضية الإسرائيلية الفلسطينية لا تهمهم كثيراً، أو لا تهمهم على الإطلاق، أو لا يعلموا ذلك.
وفي استطلاع لاحق أجرته يوغوف أيضاً في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول، ظل العديد من الناخبين غير ملتزمين بموقف. وقال ما بين 24 و31% في الدول الأوروبية السبع -الدنمارك، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، والسويد، والمملكة المتحدة- إنهم يتعاطفون مع كلا الجانبين. وقال 27 إلى 37% آخرون إنهم غير متأكدين.
ويشير هذا إلى أن وجهات النظر المتحمسة للمواطنين المهتمين سياسياً والناشطين، سواء كانوا مؤيدين لإسرائيل أو مؤيدين للفلسطينيين، لا تمثل بأي حال من الأحوال المجتمعات الأوروبية ككل.
الشباب مع فلسطين والكبار مع إسرائيل
تبدو الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة أكثر وضوحاً عبر اختلاف المواقف بين الأجيال.
إذ تشير استطلاعات يوغوف إلى اتجاهات معينة في الرأي العام في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. وبشكل عام، فإن الناخبين الأصغر سناً (حتى سن 29 عاماً) هم أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين، ويميل الناخبون الأكبر سناً (خاصة أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 45 عاماً) إلى أن يكونوا أكثر تأييداً لإسرائيل.
أقصى اليمين مع إسرائيل وأقصى اليسار مع فلسطين
وفي ما يتعلق بالطابع الحزبي لـ"الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة"، فإن السمة اللافتة للنظر هي ميل اليمين المتطرف، الذي ارتبط سابقاً بمعاداة السامية، إلى تبني موقف مناهض للفلسطينيين.
وفي الوقت نفسه، فإن العديد من الناخبين ذوي الميول اليسارية ينحازون أكثر للفلسطينيين، في حين يتخذ العديد من الناخبين اليمينيين خطاً أكثر تأييداً لإسرائيل.
ويرتبط هذا بشكل وثيق بالانتقادات اللاذعة التي يوجهها اليمين المتطرف ضد الإسلام ومكانته في أوروبا الحديثة، ويتجلى ذلك في البلدان التي تضم أقليات مسلمة كبيرة مثل فرنسا وهولندا.
وعلى النقيض من ذلك، يبرز اليسار الراديكالي بسبب هجماته على إسرائيل. يُشار إلى أن اليساريين الإسبان قد ينظرون إلى الوضع من خلال عدسة العدالة الاجتماعية، أو معاداة أمريكا، أو معاداة السامية.
تقول صحيفة تحليل Financial Times في ختام تقريرها بشأن "الخلافات الأوروبية بشأن حرب غزة" ويبدو أن أعداداً كبيرة من الناس في مختلف أنحاء أوروبا لا يشعرون بالتزامهم القوي تجاه إسرائيل أو الفلسطينيين، لكنهم مع ذلك يشعرون بأن السياسة تتعرض لاهتزاز بسبب صراع لا تتمتع الحكومات الأوروبية بنفوذ كبير عليه.