كشفَ استطلاع رأي صادر حديثاً عن تصاعد غير معهود منذ عقدين في حدة انقسام آراء الأمريكيين بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بعد الهجمات التي شنتها حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما أعقبها من عدوان إسرائيلي متواصل على غزة، وسط مؤشرات أن دعم الأمريكيين لإسرائيل لم يعد مطلقاً
ويبرز التغير الأكبر في الآراء بين المنتمين إلى الحزب الديمقراطي، إذ تزايد التأييد لأحد طرفي الصراع (الفلسطينيين أو الإسرائيليين)، وتناقصت نسبة من يرون أنفسهم محايدين ويميلون إلى عدم الانحياز إلى أي طرف، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وأجرى الاستطلاع منظمة "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية" ومؤسسة "إبسوس" للأبحاث التسويقية، وكشفت بيانات الاستطلاع المنشورة يوم الخميس 29 فبراير/شباط عن تغيرات كبيرة في آراء المنتمين إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن الصراع بمختلف فئاتهم الحزبية، وقد تسارعت وتيرة هذه التغيرات منذ أكتوبر/تشرين الأول. ولم يشذّ عن هذه التغيرات إلا التزايد المستمر في الأغلبية المؤيدة لإسرائيل بين الجمهوريين.
وقد امتدَّ الانقسام كذلك إلى الناخبين المستقلين الذين تتطلع إليهم الأحزاب السياسية لحسم التصويت في سنوات الانتخابات.
تُظهر نتائج الاستطلاع، الذي أُجري في المدة من 16 إلى 18 فبراير/شباط، تحولاً بارزاً في آراء المصوتين عما كانت عليه في استطلاع أُجري في سبتمبر/أيلول 2023. وقد استعان المنظمون بأداة للبحث العشوائي عن المصوتين عبر الإنترنت، واختاروا عينة مرجحة على مستوى الولايات المتحدة مكونة من 1039 بالغاً، وبلغ هامش الخطأ في النتائج (زائد أو ناقص 3.2%).
بايدن يعاني من الانقسام في أوساط الديمقراطيين
بدأ مجلس شيكاغو للشؤون العالمية في استطلاع آراء الأمريكيين في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ أكثر من عقدين، وتكشف البيانات على مدى هذه السنوات تغيراً أكثر تدرجاً في وجهات النظر الأمريكية بشأن الصراع. ففي عام 2002، قال ما يقرب من ثلاثة أرباع الأمريكيين (71%) إن الولايات المتحدة ينبغي ألا تنحاز إلى أيٍّ من الطرفين، وتكشف البيانات عن تراجع هذه النسبة إلى 56% في نتائج استطلاع أجري الشهر الماضي.
ولهذا الانقسام صدى واضح في أروقة الإدارة الأمريكية التي يقودها الرئيس الديمقراطي جو بايدن. إذ واجه بايدن احتجاجات حادة خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي هذا الأسبوع في ميشيغان، وهي ولاية تضم عدداً كبيراً من الأمريكيين ذوي الأصول العربية، ودعت حملة احتجاجية الناخبين الديمقراطيين إلى التصويت بأنهم "أصواتهم غير محسومة" اعتراضاً على دعم بايدن لإسرائيل ورفضه الدعوة إلى إيقاف إطلاق النار في غزة.
على الرغم من أن بايدن فاز في الانتخابات التمهيدية لحزبه بولاية ميشيغان بأغلبية ساحقة، فإن نسبة من قالوا إن أصواتهم "غير محسومة" له بلغت نحو 13.2%، وبلغ عددهم إجمالاً أكثر من 100 ألف صوت، وهذا العدد أعلى بكثير مما كان عليه عدد المصوتين لهذا الاختيار في الانتخابات التمهيدية السابقة، وأعلى بكثير من الحد الأقصى التي أعلنت الحملة سعيها إليه (10 آلاف صوت فقط). ولولاية ميشيغان أهمية خاصة في الانتخابات الأمريكية لأنها ولاية متأرجحة، وتذهب غالب التوقعات إلى أنها ستشهد معركة شرسة بين حملة بايدن وحملة الرئيس السابق دونالد ترامب قبيل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني.
نتنياهو يقول إنه يراهن على أن دعم الأمريكيين لإسرائيل
ولعل هذا الضغط الانتخابي على بايدن دفعه إلى اتخاذ بعض الخطوات لإرضاء المحتجين على سياسته الخارجية، إذ قال عشية الانتخابات التمهيدية في ميشيغان، إنه يأمل في التوصل إلى صفقة بين إسرائيل وحماس خلال الأسبوع المقبل. وذكرت صحيفة The Washington Post أن البيت الأبيض يرغب في أن تؤدي الهدنة المؤقتة من القتال إلى "وضع الأساس" لوقف إطلاق نار أطول أمداً، ووضع العراقيل أمام استئناف إسرائيل للحرب بالشدة نفسها.
ثم ذهب بايدن إلى أبعد من ذلك في وقت لاحق من اليوم، وقال خلال ظهوره في برنامج حواري: "اتفق الإسرائيليون معنا على عدم الخوض في أنشطة [عسكرية جديدة] خلال شهر رمضان.. لتوفير الوقت اللازم لإخراج جميع الرهائن"، وكرر بايدن انتقاداته لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فقال: "إذا واصلت [إسرائيل] طريقها تحت قيادة هذه الحكومة الشديدة الميل إلى (التوجه المحافظ)، فسوف تفقد الدعم من جميع أنحاء العالم".
ومع ذلك، لم يؤكد ممثلون من حماس ولا من إسرائيل صحة تصريحات بايدن بشأن القرب التوقف من صفقة لإيقاف القتال مؤقتاً. إذ قال نتنياهو في بيان يوم الثلاثاء 27 فبراير/شباط، إنه "يقاوم الضغوط الدولية الرامية إلى الإنهاء العاجل للحرب، ويعمل على حشد الدعم لإسرائيل".
وردَّ على تصريحات بايدن بشأن تراجع الدعم لإسرائيل بالإشارة إلى ما كشفه استطلاع أجرته جامعة هارفارد وشركة "هاريس" بشأن وجود أغلبية كبيرة من الأمريكيين الذين يؤيدون إسرائيل في مواجهة حماس.
حاول نتنياهو أن يردَّ على بايدن باستدعاء مسألة انقسام الآراء بين الناخبين الديمقراطيين بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فناخبو الحزب الديمقراطي منهم مؤيدون متعاطفون مع إسرائيل، ومنهم نسبة معتبرة تؤيد الفلسطينيين.
إلا أن هناك استطلاعات أخرى حملت لنتنياهو توقعات لا تدعو للاستبشار، ومنها استطلاع مجلس شيكاغو ومؤسسة إبسوس، إذ كشفت نتائجه أن تأييد الناخبين الأمريكيين لإسرائيل، وإن كان لا يزال أكبر من تأييدهم للفلسطينيين، وخاصة بين الجمهوريين، إلا أن الشواهد تتزايد على أن هذا التأييد ليس راسخاً.
أكثر من 40 من الأمريكيين يرون أن العلاقة الأمنية مع إسرائيل أضرت ببلادهم
إذ بيَّنت نتائج استطلاع مجلس شيكاغو ومؤسسة إبسون أن نسبة الأمريكيين الذين يرون أن العلاقة الأمنية الأمريكية مع إسرائيل تعزز الأمن القومي الأمريكي تبلغ 50% بالكاد، وهي نسبة تقل بكثير عن نسبة الجمهور المؤيد لأهمية العلاقة الأمنية مع إسرائيل لدى الدول الحليفة للولايات المتحدة، مثل ألمانيا وأوكرانيا، وتزيد بنحو 7% فقط على نسبة المؤيدين لهذه العلاقة في السعودية، حسب تقرير الصحيفة الأمريكية.
ولكن المؤشر اللافت في مسألة دعم الأمريكيين لإسرائيل، هو أن 43% من الأمريكيين يرون أن العلاقة الأمنية الأمريكية مع إسرائيل أضعفت الأمن القومي الأمريكي. وكشف الاستطلاع كذلك عن انقسام كبير داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بشأن العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وأثرها في الأمن القومي الأمريكي.
وأكثر من النصف يدعون تقييد المساعدات لإسرائيل بحيث لا تستخدم في حربها ضد فلسطين..
وبينما يبدو أن دعم الأمريكيين لإسرائيل لم يتراجع كثيراً، ولكن في المقابل نوعية هذا الدعم تغيرت ولم يعد دعم الأمريكيين لإسرائيل مطلقاً على الدوام أو على الأقل نسبة كبيرة منهم.
وذهب 53% من مجمل المصوتين في استطلاع مجلس شيكاغو إلى أن الولايات المتحدة ينبغي أن تقيِّد مساعداتها لإسرائيل "بحيث لا تتمكن من استخدام تلك المساعدات في حملاتها العسكرية على الفلسطينيين". وبلغت نسبة المؤيدين لفرضِ هذه القيود 40% من المصوتين الجمهوريين، و64% من الديمقراطيين، و52% من المستقلين.
وقد كشفت استطلاعات رأي أخرى عن مخاوف مماثلة لدى الأمريكيين بشأن الحملات العسكرية الإسرائيلية، فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته وكالة "أسوشيتد برس" الإخبارية الأمريكية ومركز NORC لأبحاث الشؤون العامة في يناير/كانون الثاني، أن نصف الأمريكيين يميلون إلى أن الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة قد تجاوزت الحدود المناسبة، ورأت أغلبية المصوتين (37%) أن إدارة بايدن كانت داعمة للإسرائيليين أكثر من اللازم.
ويتعذر الآن الوقوف على حكم واضح بشأن ما إذا كانت الحرب ستؤدي إلى تغير طويل الأمد في الرأي العام الأمريكي بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهل تؤدي إلى تراجع دعم الأمريكيين لإسرائيل أم لا.
لكن استطلاعات الرأي الحالية تشير إلى تراجع التأييد لإسرائيل في الرأي العام الأمريكي إلى نسب شبيهة لما صار عليه انخفاض التأييد في دول أخرى، وقد بدأت آثار هذا التراجع تتجلى في عزلة إسرائيل -والولايات المتحدة بالتبعية- في الأمم المتحدة أمام الأصوات المتزايدة التي تنادي بإيقاف الحرب.