الحقيقة الأصدق تعبيراً عن موقف الإدارة الأمريكية الحالية بشأن الحرب على غزة هي أنه مهما بلغت جرائم الحرب الإسرائيلية من ضراوة وتطرف، فإن أياً منها لن يدفع الرئيس الأمريكي جو إلى التفكير في إيقاف الحرب على غزة، أو حتى قطع إمدادات الأسلحة الأمريكية لإسرائيل والدعم المالي المتدفق لمساعدة إسرائيل في حرب الإبادة التي تخوضها، وهذا يبدو واضحاً في موقفه من هجوم رفح المرتقب.
هذا ما خلص إليه تقرير لموقع The Intercept الأمريكي، اتهم بايدن بتنفيذ حيلة دعائية لخداع ناخبيه، لا سيما العرب والمسلمين، الغاضبين من دعمه لإسرائيل، عبر بث تصريحات وتسريبات تفيد بأنه على خلاف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن هجوم رفح المرتقب، بينما هو يساعده في تنفيذه.
ووافق مجلس الشيوخ الأمريكي يوم الثلاثاء 13 فبراير/شباط على إرسال مزيد من المساعدات العسكرية (تبلغ قيمتها 14 مليار دولار) إلى إسرائيل لكي تواصل احتلال غزة وقصف الفلسطينيين فيها. ولا يزال بايدن عازماً على رفض المطالب العالمية بالدعوة إلى وقف فوري للهجوم العسكري الإسرائيلي على أهل غزة الذين يتضورون جوعاً، والذين يفتقر أغلبهم إلى أي وسيلة لحماية النفس.
بايدن يمد إسرائيل بمزيد من الأسلحة الفتاكة بينما يبدي إحباطاً من نتنياهو
ومع ذلك، لم يكتفِ بايدن بالرفض القاطع لاقتراحات التلويح بإيقاف المبيعات العسكرية لإسرائيل، بل إن إدارته تعدُّ العدة حالياً لإرسال شحنة جديدة من الذخائر الفتاكة إلى تل أبيب التي تعلن أنها إصرارها على تنفيذ هجوم رفح المرتقب.
لكن لمَّا كانت التقديرات المتحفظة تشير إلى أن عدد القتلى في غزة يقترب من 30 ألف شخص، منهم أكثر من 13 ألف طفل، فقد بدأ القلق يساور مسؤولي الدعاية في البيت الأبيض بشأن تأثير الأمر على فرص بايدن في الفوز بالانتخابات الأمريكية عام 2024. ولذلك يبذلون مساعي حثيثة لترويج صورة عامة عن تعاطف الإدارة الأمريكية مع أهل غزة، وتسويق مزاعم مفادها أن بايدن قد ضاق ذرعاً بما يفعله صديقه بنيامين نتنياهو. وحشدت الحملة الانتخابية جهودها لإضفاء قدرٍ من التماسك على خطاب بايدن العام للتقليل من آثار التصريحات الكارثية التي لا ينفك يدلي بها، والتي كان أحدثها ادعاءه بأنه التقى في وقت قريب رؤساء متوفين منذ عقود.
على الرغم من أن محكمة العدل الدولية قبلت رسمياً النظر في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا واتهمت فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية محتملة في غزة، ومع أنها أمرت بمجموعة من التدابير العاجلة لكبح إسرائيل عن الإتيان بأفعال تندرج ضمن جرائم الإبادة الجماعية، فإن تل أبيب لم تتوانَ عن تكثيف عملياتها العسكرية، ومحاصرة المستشفيات، وقصف المواقع المدنية، بل تستعد لاجتياح بري واسع النطاق في رفح. وذلك على الرغم من أن المدينة تؤوي أكثر من 1.4 مليون فلسطيني محاصرين في مساحة لا تتجاوز 65 كيلومتراً مربعاً، بعد أن أمرتهم إسرائيل بالنزوح إلى هناك إذا أرادوا الأمان.
تدَّعي إسرائيل أنها تعمل على خطة "إخلاء" للمنطقة وإجلاء النازحين المحاصرين في رفح. وكلمة "الإخلاء" ليست على الحقيقة إلا وصفاً لمزيدٍ من التهجير القسري للفلسطينيين تحت وطأة التهديد بالقتل، وهو أمر بشع أن تنصب الجهود الآن على مزيد من الإرهاب للناس بدلاً من بذل المساعي لإنقاذهم.
وزعمت إدارة بايدن في العلن أنها لن تدعم هجوماً برياً إسرائيلياً على رفح، ومع ذلك يوضح نص مكالمة بايدن الأخيرة مع نتنياهو أن الإدارة قيَّدت هذا الامتناع بشرط علني مفاده: "لا ينبغي المضي قدماً في عملية عسكرية من دون خطة موثوقة وقابلة للتنفيذ تضمن السلامة والدعم للمدنيين في رفح".
إسرائيل تقترح إنشاء مدن خيام لنازحي رفح بعضها في مصر
ذكرت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية أن "إسرائيل تقترح إنشاء مدن خيام مترامية الأطراف في غزة، وأن يأتي ذلك ضمن خطة إخلاء تمولها الولايات المتحدة وشركاؤها في الخليج العربي قبل هجوم رفح المرتقب".
وقالت الصحيفة نقلاً عن مسؤولين مصريين إن مصر ستنشئ 15 موقعاً للمخيمات في جنوب غرب غزة، بحيث يحتوي كل منها على 25 ألف خيمة، ومستشفى ميداني.
وكشفت صور ملتقطة بالأقمار الاصطناعية أن هناك مرافق شبيهة يجري إنشاؤها، إلا أن مصر تحفظت في الرد على الأسئلة بشأن موقفها من هذه القضية.
تشير هذه التطورات إلى أن البيت الأبيض يدرك أن إسرائيل عازمة على الأرجح على شنِّ حملة برية واسعة النطاق على رفح. وقد يؤدي هذا الاجتياح إلى أزمة دبلوماسية حادة بين إسرائيل ومصر، وذلك في وقت يأمل فيه البيت الأبيض أن يكون لمصر مشاركة مهمة في التوسط من أجل صفقة لتبادل الأسرى وهدنة مدتها 6 أسابيع.
بايدن يصور نفسه على أنه متحفظ على سلوك إسرائيل بما في ذلك هجوم رفح المرتقب
وأصدر البيت الأبيض على مدى الأشهر الأربعة الماضية تصريحات مماثلة يُعبر فيها عن مخاوفه الشديدة بشأن العمليات الإسرائيلية الوشيكة، ومنها الهجمات الإسرائيلية المتوالية على المستشفيات في غزة، إلا أنه ما يلبث أن يجهر بدعمه لإسرائيل حين تنفذها. وقد أفادت التقارير أن إدارة بايدن أبلغت إسرائيل بأنها تدعم توجيه الضربات لأهداف محددة في رفح، ولا تريد حملة برية واسعة النطاق.
بالنظر إلى الانتهازية المتغلغلة في سياسات واشنطن، يزعم بعضهم أن إدارة بايدن تنتهز فرصة تدهور الأوضاع في رفح، وإذا واصل نتنياهو مخالفة الموقف المعلن للبيت الأبيض، فإن الإدارة الأمريكية تنوي أن تستغل ذلك في تصعيد حملة دعايتها وتسويق مزاعمها عن "صبرها الذي يكاد ينفد" من أفعال نتنياهو، ومن ثم تستعين بذلك في ترويج القصة الوهمية التي صاغها فريق الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي، والقول إن بايدن بذل غاية وسعه لدعم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، إلا أنه سيوقف الأمور عند حدٍّ معين إذا بالغ نتنياهو في استغلال هذا الدعم.
لكن الشواهد تفيد أنه سيدعمه
إلا أن الشواهد القريبة دليل يرجِّح الرأي القائل إن بايدن سيدعم هجوم رفح المرتقب والحملة البرية الإسرائيلية على المدينة المكدسة بالسكان، على أن يصحب ذلك بعض التصريحات عن القلق وخيبة الأمل بشأن الأساليب العسكرية التي تتبعها إسرائيل، ثم الادعاء بعد ذلك أنه تمكَّن من إقناع إسرائيل بحماية المدنيين.
وقد تناوب البيت الأبيض على ادعاء شيء من هذا الفضل لنفسه، والزعم بأنه نجح بإقناع إسرائيل أن تكون أقل إجراماً في عملياتها، وقد واصل هذه المزاعم على الرغم من استمرار الجيش الإسرائيلي في قتل أعداد لا تكاد تحصر من المدنيين الفلسطينيين، حسب وصف الموقع الأمريكي.
ويستعمل بايدن ونتنياهو مراوغة شبيهة في التعامل مع قضية الدولة الفلسطينية وحل الدولتين. فالإدارة الأمريكية تتعاطى مع الأمر لأنها تدرك أن هذه القضية هي محور أي اتفاق لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، والتحرك نحو هذه الغاية يُتيح للبيت الأبيض الزعم بأنه حقق انتصاراً سياسياً مظفراً، حتى لو لم يبقَ من غزة سوى الخراب.
لذلك تزايد اهتمام المسؤولين في الإدارة الأمريكية بالحديث عن خارطة الطريق تربط بين إقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء الحرب، إلا أن نتنياهو يرفض بشدة أي فكرة من هذا القبيل. وقال نتنياهو في بيانٍ صدر بعد مكالمة هاتفية مع بايدن في 15 فبراير/شباط، إن "إسرائيل لن تتوانى عن رفض أي اعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية".
بايدن يخوض معارك آمنة مع نتنياهو
الواقع أن تركيز إدارة بايدن على قضية "الاعتراف بدولة فلسطينية"، وكذلك انتقاده لإقامة المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، ليست إلا معارك آمنة يشنها بايدن على نتنياهو الضعيف سياسياً؛ لأنه يدرك أنها لن تعود عليه بعواقب كبيرة، بينما لا يبذل أي جهد لمنع هجوم رفح المرتقب.
وقد كان من الواضح منذ أشهر أن جزءاً من خطة بايدن في التعاطي مع حرب الإبادة الجماعية بغزة خلال الحملة الانتخابية الأمريكية هو إلقاء النصيب الأكبر من اللوم على سفينة نتنياهو السياسية، والرجاء أن تغرق هذه السفينة في الوقت المناسب، بحيث يستخدم الأمر لخدمة مصالحه الانتخابية.
ولكنه واقعياً أنقذ إسرائيل من أزمة في الذخائر وبدونه ما كانت الحرب لتستمر
تشير تقديرات استخباراتية أمريكية صدرت منذ أيام إلى أن مخزونات الأسلحة الإسرائيلية الحالية لا تتيح لها الاستمرار في حربها على غزة أكثر من 19 أسبوعاً، ما يعني أنها لا تستطيع مواصلة الحرب حينئذ إلا إذا أرسلت واشنطن مزيداً من الذخيرة.
وبناء على ذلك، فإن امتناع بايدن عن استخدام نفوذه المستمد من كونه مصدر السلاح الأول لإسرائيل لهوَ دليل جليٌّ على أن التصريحات المبتذلة التي يتداولها المسؤولون الأمريكيون وتتناقلها "التسريبات" الإعلامية، بشأن إحباط بايدن المتزايد تجاه نتنياهو، ليست إلا حيلة انتخابية، حسب الموقع الأمريكي.
أياً كان "المنعطف" الذي ينحرف إليه بايدن في نهاية المطاف للتملص من التداعيات السياسية لحرب غزة، فإنه لن يتمكن أبداً من مواراة ما شهدته أشهر الحرب الماضية من فرص لا حصر لها عرضت له فيها جرائم إسرائيلية كانت جديرة بأن يستغلها للتهديد بإنهاء الدعم العسكري وإيقاف مبيعات الأسلحة.
والواقع أن بايدن ورفاقه اتخذوا عن وعي وتعمُّد قراراً بالاستمرار في إرسال الذخائر والأسلحة إلى إسرائيل، وذلك على الرغم من توالي المذابح على مرأى ومسمع من العالم.
بايدن يحاول خداع ناخبيه عبر تخويفهم من ترامب
والسبب الذي جعل الحرب على غزة بما فيها هجوم رفح المرتقب، مشكلة انتخابية داخلية لبايدن هو النشاط الاحتجاجي، خاصة من الأمريكيين ذوي الأصول الفلسطينية.
ويقول الموقع الأمريكي: "يبدو أن البيت الأبيض يظن أنه يستطيع إنقاذ حصته من أصوات الأمريكيين العرب، ويرجو أن تكون المخاوف من ولاية أخرى لدونالد ترامب دافعاً لهم إلى ترجيح كفة بايدن في الانتخابات، والتغاضي عن مشاركته الفظيعة في الإبادة الجماعية المستمرة في غزة.
لكن مهما حدث في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني، فلا يجوز لنا أن ننسى أبداً أن بايدن، وليس الأمريكيين الذين يعارضون الحرب الإسرائيلية والدعم الأمريكي لها، هو الذي قوَّى فرص ترامب في الفوز بالانتخابات المقبلة، وأن هذا الذنب لا يقع إلا على عاتق بايدن ومؤسسة الحزب الديمقراطي.