قبل نحو شهرين فقط، كانت العواصم الأوروبية تتحدّث بنبرة غاضبة عن "المساءلة" و"العواقب" وضرورة ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل بسبب ارتكابها حرب الإبادة الجماعية في غزة. وأصدرت معظم الحكومات الأوروبية مواقف غاضبة، وجرى التلويح بعقوبات على تل أبيب، بل إن بعضها منعت دخول وفود إسرائيلية إلى معارض تسليح، وأعلنت أخرى وقف تصدير المعدات العسكرية خشية استخدامها في الحرب على القطاع المحاصر.
لكن هذا "الغضب الأخلاقي" لم يلبث أن تبخّر مع تغيّر المزاج الأمني في أوروبا. فما إن تصاعدت المخاوف من الطائرات المسيّرة الروسية ومن هشاشة المظلّة الأمريكية داخل الناتو، حتى عادت الدول نفسها لتقف في الصف أمام شركات السلاح والتقنية العسكرية الإسرائيلية، باحثة عن تقنيات تم اختبارها فعلياً فوق رؤوس المدنيين في غزة ولبنان وفي الهجمات على اليمن وإيران، بحسب تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية.
كيف تحوّلت حرب الإبادة في غزة إلى منصة تسويق للأسلحة الإسرائيلية؟
تسعى إسرائيل منذ بداية الحرب في غزة إلى استثمار ظروف الصراع لتوسيع مكانتها في سوق السلاح العالمي، مستندة إلى فكرة أن أنظمتها العسكرية "مجرّبة ميدانياً". وقد وجدت في الطلب الأوروبي المتصاعد على تقنيات الدفاع فرصة لتسويق جيل جديد من الأسلحة والمنظومات، خصوصاً مع ازدياد قلق أوروبا من التهديدات الروسية في القارة.
وبرغم أن الحكومات الغربية تنتقد الحرب الإسرائيلية على غزة وما أحدثته من دمار شامل، إلا أنها لا تجد تناقضاً في تعزيز قدراتها العسكرية والتقنية بأسلحة إسرائيلية تم اختبارها في حرب الإبادة في غزة، وهو ما يظهر تبايناً صارخاً بين المبادئ المعلنة والمصالح. ويظهر ذلك في المشاركة الواسعة لمسؤولين أوروبيين في مؤتمر ومعرض عسكري رفيع استضافته إسرائيل خلال الأيام الأخيرة للكشف عن تقنيات عسكرية استخدمت في غزة ولبنان وإيران.

ويكشف هذا المشهد عن مرحلة جديدة من العلاقة بين إسرائيل وأوروبا، حيث يتقاطع الأمن والاقتصاد والسياسة، وتتقدم الحسابات الاستراتيجية على الاعتبارات الدبلوماسية المعتادة. فيما تعمل إسرائيل على استثمار الحرب في غزة لترويج أحدث تقنياتها العسكرية، مستعرضة ما تعتبره "قدرات أثبتت فعاليتها في ساحات القتال"، فيما يصطف المشترين الغربيين.
وتوافد مسؤولون من دول من بينها ألمانيا والنرويج والمملكة المتحدة إلى المؤتمر الدفاعي الذي رعته "وزارة الدفاع الإسرائيلية" في تل أبيب، والذي عرض تكنولوجيا ساحة المعركة التي تم اختبارها في غزة ولبنان وإيران.
وعُرضت خلال المؤتمر مشاهد حية لضربات بطائرات مسيرة هجومية داخل غزة، حيث أظهرت شاشة كبيرة طائرتين مسيّرتين تضربان مبنى في الساحل الفلسطيني وسط تصاعد الدخان. وقال ران غوزالي، الرئيس التنفيذي لشركة UVision Air الإسرائيلية المتخصصة بتكنولوجيا الدفاع: "ترون الطائرة الأولى تصيب الجانب الأيسر… ثم الثانية تتوجه إلى هدفها الخاص. هذه بعض المقاطع التي تمت الموافقة على مشاركتها".
لماذا يتزايد اهتمام أوروبا بالتكنولوجيا الدفاعية الإسرائيلية؟
يتزامن الإقبال الأوروبي مع سعي القارة لإعادة التسلح في مواجهة روسيا، إضافة إلى تراجع الثقة في الولايات المتحدة كشريك موثوق ضمن حلف الناتو. وقد زادت هذه المخاوف بعد خطاب نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن مؤخراً، حيث انتقد الحكومات الأوروبية بشدة، مما أثار قلقاً من تغيّر المزاج السياسي الأمريكي تجاه التزامات الدفاع.
كما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استراتيجية جديدة للأمن القومي من 33 صفحة تصور الحلفاء الأوروبيين على أنهم ضعفاء وتهدف إلى إعادة تأكيد هيمنة أميركا في نصف الكرة الغربي. حيث أوضحت الوثيقة الاستراتيجية والتي نشرت الأسبوع الماضي، أن "الولايات المتحدة ترغب في تحسين علاقتها مع روسيا بعد سنوات من اعتبارها منبوذة عالميًا، وأن إنهاء الحرب مصلحة أمريكية جوهرية لإعادة إرساء الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا".
وقال ترامب في 9 ديسمبر 2025 خلال مقابلة مع مجلة بوليتيكو: "أعتقد أن القادة السياسيين الأوروبيين ضعفاء. لكنني أعتقد أيضا أنهم يريدون أن يكونوا على درجة عالية من الصواب السياسي"، مضيفا: "أعتقد أنهم لا يعرفون ما يجب عليهم فعله. أوروبا لا تعرف ما يجب عليها فعله".
مع تحليق روسيا بطائرات مسيرة فوق دول حلف الناتو في أوروبا، قال بعض الحاضرين في المؤتمر إن بعض الدول الأوروبية تشعر بأن الوقت ينفد منها. وقال سيباستيان فون ريبنتروب، الشريك الإداري في شركة "جوين كابيتال" للاستثمار الجريء، وهي شركة أوروبية حضرت المؤتمر في تل أبيب: "الخطر أقرب.. هناك شعور أوروبي بالإلحاح".
وتشير نسبة الحضور الكبيرة – الأعلى مقارنة بالعام السابق – إلى أن التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية ما تزال تحتفظ بجاذبيتها لدى الدول الغربية رغم العزلة الدبلوماسية التي تواجهها إسرائيل بسبب الحرب من مختلف دول العالم.
من هم أبرز المشاركين في المؤتمر الإسرائيلي، وما دوافعهم؟
وكانت شركات Elbit Systems و Palantir و Rafael و Lockheed Martin و Israel Aerospace Industries، التي استخدمت إسرائيل أسلحتها وتقنياتها في إبادتها للشعب الفلسطيني في غزة، من الرعاة الرئيسيين للحدث.
وشارك في المؤتمر ممثلون عن الحكومة الأمريكية، ومسؤولون من القطاع الخاص، ومستثمرون أجانب. كما حضرت وفود من الهند، أوزبكستان، سنغافورة، وكندا. وأرسلت النرويج مسؤولاً دبلوماسياً إلى الحدث.

وكان صندوق الثروة السيادية النرويجي، صندوق المعاشات التقاعدية الحكومي العالمي (GPFG)، قد باع مؤخراً أسهمه في عدد من الشركات الإسرائيلية. وقد سحبت النرويج أيضاً استثماراتها من شركة كاتربيلر بسبب استخدام جرافاتها في هدم منازل وممتلكات فلسطينية في غزة والضفة الغربية.
أما ألمانيا، التي لديها خطة إنفاق عسكري بقيمة 580 مليار دولار على مدى العقد المقبل، فقد أرسلت أحد أكبر الوفود، وارتدى بعض أعضائها دبابيس تجمع العلمين الألماني والإسرائيلي. وتعتبر هذه المشاركة مؤشراً إضافياً على استمرار التعاون الدفاعي رغم الانتقادات.
فرضت عدة دول أوروبية قيوداً على توريد أو استيراد الأسلحة من الشركات الإسرائيلية خلال الحرب، احتجاجاً على التكلفة الإنسانية للصراع التي تجاوزت 70 ألف قتيل في غزة وفقاً للسلطات الصحية المحلية.
ففي سبتمبر الماضي، منعت المملكة المتحدة وفداً من وزارة الدفاع الإسرائيلية من حضور معرض أسلحة. وبررت المملكة المتحدة، حضورها هذه الفعالية بالقول: "حضر مسؤولو السفارة البريطانية المؤتمر كما يفعلون بشكل روتيني في جميع أنحاء العالم للتواصل مع نظرائهم وتعزيز مصالح المملكة المتحدة".
وفي الصيف الماضي، أوقفت ألمانيا شحنات عسكرية قد تستخدم في غزة، قبل أن ترفع الحظر بعد دخول وقف إطلاق النار الحالي حيّز التنفيذ. رغم ذلك، تستمر العلاقات الدفاعية في التوسع. فقد أعلنت ألمانيا والولايات المتحدة هذا الأسبوع دخول منظومة الدفاع الجوي "آرو 3" -التي اشترتها برلين مقابل نحو أربعة مليارات دولار- الخدمة التشغيلية الكاملة، وهي أكبر صفقة عسكرية في تاريخ "إسرائيل".
ما أثر صعود الطلب الأوروبي على صادرات السلاح الإسرائيلية؟
وفقاً لبيانات وزارة الحرب الإسرائيلية، سجلت صادرات الأسلحة الإسرائيلية رقماً قياسياً بلغ 14.8 مليار دولار عام 2024، بعد اندلاع الحرب على غزة، رغم الدعوات الواسعة لمقاطعة المنتجات العسكرية الإسرائيلية. وكانت أوروبا أكبر مشترٍ، إذ استحوذت على 54% من الصادرات مقارنة بـ35% في 2023.

وفي المؤتمر الدفاعي الإسرائيلي، وقف الزوار لالتقاط الصور بجانب أنظمة مثل "الشعاع الحديدي" من شركة رافائيل، وهو نظام ليزري لاعتراض المسيّرات والصواريخ استخدمته إسرائيل على الجبهة الشمالية مع لبنان عشرات المرات خلال الحرب. كما حضر وفد من الاتحاد الأوروبي في نفس القاعة مع جنرالات إسرائيليين وطياري مقاتلات شاركوا مباشرة في العمليات العسكرية.
في الوقت نفسه، نظمت وزارة الدفاع الإسرائيلية فعاليات جانبية لربط الشركات الناشئة الإسرائيلية بالمستثمرين القادمين من ألمانيا والنمسا، مع تقديم نصائح عملية حول التعامل مع البيروقراطية الأوروبية. وأعلنت شركة إلبيت عن عقد بقيمة 2.3 مليار دولار مع عميل دولي مجهول، فيما أعلنت رومانيا عن صفقة بأكثر من ملياري دولار لشراء منظومة دفاع جوي من شركة رافائيل.
كيف تسوّق إسرائيل لأسلحتها بوصفها "مجرّبة في الحرب"؟
يعتمد جزء من التسويق الإسرائيلي على إبراز الاستخدام العملي للأنظمة في معارك حقيقية وإن تسببت هذه المعارك بارتكاب حرب إبادة جماعية وقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء في غزة ولبنان. وفي يوليو الماضي، نشرت شركة رافائيل الإسرائيلية مقطعاً لذخيرة سبايك فايرفلاي وهي تنفجر فوق شخص في غزة ضمن حملة ترويجية، ما أثار غضباً واسعاً ودفع الشركة لسحب الفيديو.
ورغم الجدل، واصلت العديد من الشركات الإسرائيلية -خصوصاً الناشئة- تسويق منتجاتها باعتبارها "مجرّبة ميدانياً" في هذه المناطق. وقال ألون ليفشيتز، الشريك المؤسس في شركة "أوريليوس كابيتال" وهي شركة رأس مال استثماري مقرها تل أبيب ونيويورك وتتخصص في التقنيات ذات الاستخدام المزدوج والأمن السيبراني لتطبيقات الأمن القومي: "لقد أثبتت إسرائيل في الحرب، سواء كان ذلك جيداً أم سيئاً، ما نجح وما لم ينجح"، بحسب تعبيره.