يمثل "الوضع القائم" (Status Quo) في المسجد الأقصى إطاراً تاريخياً وقانونياً بالغ الحساسية، لطالما حافظ على ترتيبات دقيقة للعبادة والإدارة في هذا الموقع المقدس، ومع ذلك، منذ توليه منصبه، وضع وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير تفكيك هذا الوضع وتغييره هدفاً مركزياً لسياسته، وهو ما كان الدافع الرئيسي وراء إصراره على توليه منصبه بالائتلاف الحكومي.
ومنذ توليه منصبه في الحكومة الإسرائيلية، دأب بن غفير على اقتحام المسجد الأقصى بشكل متكرر، وأطلق تصريحات أثارت الجدل، أكد فيها على السيادة الإسرائيلية على الحرم القدسي.
وأثار بن غفير الجدل مؤخراً، إزاء توصله مع مفوض الشرطة داني ليفي، إلى "تسوية" أسفرت عن إقالة قائد لواء القدس أمير أرزاني، وتعيين نائبه أفشالوم بيليد مكانه، وسط تحذيرات من الخطوة التي جاءت قبل حلول شهر رمضان.
ونقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن ضباط كبار في الشرطة الإسرائيلية، أن "إقالة قائد منطقة القدس يشكل خطراً على أمن الدولة"، وسط مخاوف من محاولة القائد الجديد المقرب من بن غفير، إحداث تغييرات في الحرم القدسي، تؤثر على "الوضع القائم".
ما هو "الوضع القائم" في المسجد الأقصى؟
يعود أصل مفهوم "الوضع القائم" في المسجد الأقصى تاريخياً إلى فترة الحكم العثماني في منتصف القرن التاسع عشر، وتحديداً إلى عام 1852، حين أصدر السلطان العثماني عبد المجيد الأول فرماناً ينص على تجميد مطالبات الحيازة الدينية للأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم، وحظر أي تشييد أو تغيير في الوضع القائم، وذلك بهدف الحفاظ على التوازن بين مختلف الطوائف الدينية.
لاحقاً، تم الاعتراف بهذا الترتيب دولياً في مؤتمر باريس 1856 (في نهاية حرب القرم)، كذلك في معاهدة برلين (بين القوى الأوروبية والعثمانيين)، حيث تنص المادة 62 من هذه المعاهدة على أن:"من المفهوم تماماً أنه لا يمكن إدخال أي تعديلات على الوضع القائم في الأماكن المقدسة" وقد وسّعت هذه المادة الترتيبات لتشمل كل الأماكن المقدسة وليس المسيحية فقط.
هذا النظام استمر خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين (1920-1947)، حيث التزمت سلطات الانتداب بالوضع القائم بما في ذلك إدارة المسجد الأقصى وجدار البراق. على الرغم من ذلك، إلا أنه خلال حرب 1967 استولى الاحتلال الإسرائيلي بالقوة على جدار البراق وصادر مفتاح بوابة المغاربة للمسجد الأقصى، ودمر حي المغاربة الذي يقع أمام جدار البراق. وبدلاً من حي المغاربة تم إنشاء ساحة صلاة كبيرة للمصلين اليهود التي تم تكبيرها تدريجياً من مساحة 66 متراً مربعاً، إلى مساحة 6300 متراً مربعاً.
وبعد حرب 1967 مباشرة، اعترفت إسرائيل اسمياً (شكلياً) بالمكانة التاريخية والأهمية الدينية للمسلمين في المسجد الأقصى، علاوةً على إقرارها بوصاية الأردن على هذه الأماكن الدينية والتاريخية. فيما تضمن ترتيب الوضع القائم في المسجد الأقصى، بين الوزير الإسرائيلي موشيه ديان مع الأوقاف الإسلامية، البنود التالية:
- تبقى الإدارة المدنية الداخلية للمسجد الأقصى في أيدي الأوقاف الإسلامية.
- تكون مهمة الحفاظ على النظام العام والأمن في محيط المسجد الأقصى من اختصاص قوات الأمن التابعة للاحتلال.
- يُسمح للمسلمين فقط بالصلاة في المسجد الأقصى، ولن يتمكن غير المسلمين (بما في ذلك اليهود) من زيارته إلا من دون صلاة.
- يدخل غير المسلمين المسجد الأقصى من باب المغاربة فقط، فيما يدخل المسلمون المسجد الأقصى من ثمانية أبواب أخرى.
لكن على الرغم من هذا الاعتراف، إلا أن السلطات الإسرائيلية منذ ذلك الحين تسيطر على بوابات المسجد الأقصى التي تمكن السلطات من الدخول إلى باحات الحرم أو السماح للآخرين بالدخول. فيما بذلت جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وشرطتها وقواتها العسكرية جهوداً لتقويض الوضع القائم المعترف به دولياً.
متى عززت إسرائيل انتهاكها للوضع القائم؟
وقد كانت أحداث "هبة القدس" عام 1996، والانتفاضة الفلسطينية الثانية، مفصلية في تعريف "الوضع القائم" في المسجد الأقصى.
ففي عام 2016، تم الكشف عن إجراء الاحتلال العديد من الحفريات، وافتتاح أنفاق في محيط المسجد الأقصى وأسفل البلدة القديمة، متسبباً بتصدع بعض معالم المسجد الأقصى وانهيارات أرضية في بلدة سلوان جنوبي المسجد.
وساهم ذلك في تصعيد الحصار والفتح الجزئي للمسجد الأقصى أمام اليهود، ما أدى إلى احتجاجات من الفلسطينيين الذين رأوا أن الاحتلال بدأ يفرض سيطرة أمنية وإدارية أحادية على الأقصى بما يخالف الاتفاقات السابقة.
وفي العام 2003، غيرت سلطات الاحتلال "الوضع القائم" بما يسمح للمستوطنين باقتحام المسجد الأقصى، من دون موافقة دائرة الأوقاف الإسلامية.
وعلى مدار العقدين، قام المستوطنون بأداء صلوات علنية وصامتة داخل المسجد الأقصى، كما شمل ذلك أداء طقوس دينية ترتبط بـ"الهيكل" المزعوم، مثل صلاة بركة الكهنة، وتنفيذ السجود الملحمي، وإدخال القرابين النباتية، والنفخ في الشوفار، بما يمثل محاولات مستمرة لتغيير "الوضع القائم" في المسجد الأقصى.
كيف يحاول بن غفير تغيير الوضع القائم؟
منذ توليه منصبه، زار بن غفير المسجد الأقصى مرات عدة، متفاخراً بتغيير سياسة الشرطة هناك، التي تسمح الآن لليهود بالصلاة فيه. وقد اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الماضي للإعلان رداً على ذلك أن الوضع القائم لم يتغير، ولكن خلافاً لتصريحاته، يصلي اليهود في الحرم القدسي على مرأى ومسمع من الشرطة الإسرائيلية المتمركزة هناك، بحسب تقرير لصحيفة "هآرتس".
وقد شهدت الأعوام التي وصل فيها الائتلاف اليميني إلى الحكم في إسرائيل تزايداً حاداً في انتهاكات المستوطنين في المسجد الأقصى، وبدعم من الوزراء وأعضاء في الكنيست.
في العام 2023، سجلت دائرة الأوقاف الإسلامية اقتحام نحو 48238 مستوطناً للمسجد الأقصى، هذا العدد ارتفع إلى 60 ألفاً في العام 2024، وحتى منتصف عام 2025، تم تسجيل اقتحام نحو 32400 مستوطن.
وخلال يونيو/حزيران 2025، شهد المسجد الأقصى تصعيداً غير مسبوق في طبيعة الانتهاكات، تمثلت بإدخال طقوس دينية يهودية شملت الخمر "والخبز المقدس"، والغناء والرقص، دون أي تدخل للشرطة الإسرائيلية، حيث وجه المستوطنون شكراً علنياً لبن غفير عبر منصاتهم الاجتماعية، واعتبروا أن ما جرى "إنجاز تاريخي" منحهم حرية الطقوس في المسجد الأقصى، بحسب مركز معلومات وادي الحلوة.
وخلال اقتحاماته للمسجد الأقصى بعد توليه منصبه، قلل بن غفير من قبضة الشرطة على المسجد الأقصى، ودعا المستوطنين إلى إقامة طقوسهم والغناء والرقص داخل المسجد.
ومن ضمن الإجراءات التي اتخذها بن غفير في المسجد الأقصى، قيامه بإغلاق المسجد الأقصى مرات عدة بشكل كامل.
وبحسب هيئة البث الإسرائيلية، في تقرير سابق لها، أشارت إلى أن بن غفير حول "تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى" إلى هدف رسمي لوزارته.
حيث أدرجت وزارة الأمن القومي في خطة عملها السنوية هذا الهدف الذي يشكل سابقة مثيرة للجدل، ويشمل:
- السيطرة على المسجد الأقصى والسماح لليهود بالصلاة فيه.
- توسيع العنصر التكنولوجي المساعد للشرطة الإسرائيلية، وتعزيز تشكيلاتها في الحرم القدسي وتنفيذ تدابير تكنولوجية شرطية بمحيطه.
- تعزيز الحكم في الحرم القدسي ومنع التمييز فيه، والمقصود هنا التمييز ضد اليهود، الذين تعتبر حرية العبادة فيه بالنسبة لهم مقيدة.
إلى ذلك، قدم عضو الكنيست يتسحاق كروزير، من حزب بن غفير، مشروع قانون يعاقب كل من يقوم بأعمال حفريات أو تغيير ما هو قائم في المسجد الأقصى، من دون ترخيص ومصادقة من دائرة الآثار الإسرائيلية.
وهذا القانون الذي قدمه حزب "القوة اليهودية"، يمنع ضمناً أي أعمال ستقوم بها دائرة الأوقاف الإسلامية في المسجد الأقصى.
ورغم التدهور المستمر للوضع الراهن في الحرم القدسي، فإن بن غفير لا يرضى دائماً عن سلوك الشرطة هناك، وفي يونيو/حزيران 2025، ذكرت "هآرتس" أن الوزير المتطرف وبخ كبار الشرطة بعد أن منع ضباط من الشرطة مجموعة من المستوطنين من الصعود إلى الحرم القدسي وهم يغنون ويرقصون.
وكان لافتاً أن قائد الشرطة أمير أرزاني، من أبرز المعارضين لسياسة بن غفير في المسجد الأقصى، رغم أنه كان من المساهمين في ذلك عندما كان قائد منطقة بالإنابة، لكنه عندما تولى منصبه في سبتمبر 2024، كان يعبر علناً عن موقفه ضد تحركات وزيره.
وبحسب صحيفة "هآرتس" فإن بن غفير حاول مؤخراً نقل أرزاني إلى منصب رئيس قسم العمليات لكن الأخير رفض، قائلاً إنه "لا ينوي الانتقال إلى منصب آخر، وأن قائد منطقة القدس سيكون آخر منصب له في الشرطة".
ومؤخراً، تمكن بن غفير بالاتفاق مع المفوض العام للشرطة داني ليفي، على استبدال أرزاني، بالمفتش العام أفشالوم بيليد.
ماذا يعني تعيين أفشالوم بيليد قائداً لشرطة القدس؟
يعتبر دور قائد منطقة القدس من أكثر الأدوار حساسية وتعقيداً، ويشمل، من بين أمور أخرى، المسؤولية عن الاحتجاجات بالقرب من المؤسسات الحكومية، ومنزل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتوجيه المستوطنين إلى الحرم القدسي، وإصدار أوامر الإبعاد للناشطين الذين يخالفون إرشادات زيارة الحرم، بحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت".
ومع تعيين بيليد، تثار المخاوف من احتمال إسراع بن غفير تغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى، لاسيما أنه جاء قبيل شهر رمضان المقبل.
وفي مارس/آذار 2023، عين بن غفير بيليد نائباً لمفوض الشرطة، وبعد أكثر من عام، قرر تعيينه مفوضاً للشرطة. وفي يوليو/تموز 2024، تولى بيليد منصب القائم بأعمال مفوض الشرطة، لكنه اضطر بعد أيام قليلة إلى سحب ترشيحه بسبب صعوبات واجهته في التعيين، منها تحقيق خضع له في مفتشية الشرطة عام 2015 إثر بناء غير قانوني في مكان إقامته.
ونقلت "يديعوت أحرونوت" عن ضابطين بالشرطة، أن "إقالة أرزاني في هذه الفترة الحساسة لا يقل خطورة عن خطر على أمن الدولة، إذا ما أجرى بيليد تغييرات في الحرم القدسي". ونقلت في تقرير آخر، أن إقالة أرزاني، وتعيين بيليد، هي محاولة مبكرة قبل بداية شهر رمضان، الفترة الأكثر توتراً في القدس، تنطوي على اعتبارات تتعلق بالحرم القدسي.
وأوضحت مصادر أن "أرزاني كان يعيق الإجراءات التي يريد الوزير القيام بها في المسجد الأقصى" معربة عن خشيتها مما سيحدث مع تعيين بيليد. فيما قالت القناة 13 العبرية، إن بن غفير يرى بيليد بأنه الضابط القادر على توسيع إمكانيات اقتحام اليهود للمسجد الأقصى، ما في ذلك تحقيق التقسيم الزماني هناك.