في بيروت عام 1982، بينما كانت السماء تمطر قذائف، نزل محمود درويش ورفاقه إلى قبوٍ مظلم لمشاهدة مباريات كأس العالم. كانت تلك الساعة والنصف من زمن المباراة أشبه بهدنةٍ إنسانيةٍ قصيرة، تُسكت فيها المدافع، وتُعلَّق الطائرات غاراتها، وكأنّ الكرة وحدها قادرة على إيقاف آلة الحرب.
ففي كتابه "ذاكرة للنسيان"، روى درويش عن شغف المحاصَرين بكرة القدم، قائلاً: "ونحن أيضاً نحب كرة القدم. ونحن أيضاً يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن ندخل المباراة. لمَ لا؟ لمَ لا نخرج قليلاً من روتين الموت؟ في أحد الملاجئ استطعنا استيراد الطاقة الكهربائية من بطارية سيارة. وسرعان ما نَقَلَنا باولو روسي إلى ما ليس فينا من فرح، رجلٌ لا يُرى في الملعب إلا حيث ينبغي أن يُرى. شيطان نحيل لا نراه إلا بعد تسجيل الهدف، تماماً كالطائرة القاذفة لا تُرى إلا بعد تسجيل أهدافها".
وفي تلك الحرب الصغيرة داخل الملعب، انتصر الإيطاليون على ألمانيا بثلاثة أهداف لهدف، وحين عاد اللاعبون إلى روما، رفعوا الكأس مُهدين فوزهم إلى المقاومين الفلسطينيين المحاصَرين في بيروت. لوهلة، بدا أن الشهامة يمكن أن تأتي من حيث لا يُتوقع، من لعبة حاول القائمون فصلها عن العالم على عكس طبيعتها، جاعلين شعار "لا لخلطِ السياسةِ بالرياضة" كما لو كان وصيّة مقدسة، وقوبلت المبادرة الإيطالية بغضبٍ هستيري من دولة الاحتلال ومن "الفيفا" التي رأت في الأمر تجاوزاً لحدود اللعبة، لكن الطليان لم يأبهوا.
"لا لخلط السياسة بالرياضة".. عبارةٌ يرفعها الاتحاد الدولي لكرة القدم كما لو كانت وصيّة مقدسة، غير أنّ الملاعب تقاومها كل يوم. فالجماهير لا تعترف بتلك العبارات المائعة، والفصل المصطنع، لأن المدرجات كما يرى الكثير من مؤرخيها وأساتذة السوسيولوجيا، لطالما ظلت مرآة للوعي الجمعي، ورغم محاولة السيطرة عليها، ظلت مساحة تُرفع فيها الأعلام حين تُمنع في الشوارع، ويُهتف فيها لصالح من لا صوت لهم خارجها، فباتت ساحة أخرى للمقاومة.
ويكفي أن نرى اليوم كيف تموج ملاعب أوروبا بأعلام فلسطين، لندرك أن اللعبة التي حاول التكنوقراطيون هندستها، ومهما احتكرها الأقوياء، ستظل — كما قال إدواردو غاليانو — "فنّ الارتجال"، حيث يقفز المستحيل إلى الواجهة من حيث لا يُتوقَّع، ليفتح للضعفاء، بعكس رجاحة موازين القوى السياسية، نافذةً قصيرةً على العدل، ولو لزمن مباراة.
فكيف باتت "إسرائيل" منبوذة في المدرجات، حين تجاوز المشجعون حدود التشجيع، وأثبتوا — بهتافاتهم ولافتاتهم — أنهم أكثر وعياً من حكوماتهم؟
أعلن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2023، أي بعد شنّ الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة على غزة قبل شهر، أن نادي سلتيك الاسكتلندي تعرّض لغرامة مالية قدرها 15,200 جنيه إسترليني (نحو 19 ألف دولار)، بعد أن رفع مشجعوه الأعلام الفلسطينية خلال مباراة الفريق ضد أتلتيكو مدريد في دوري أبطال أوروبا الشهر الماضي في غلاسكو.
ورغم تحذير إدارة نادي سلتيك لجماهيرها من رفع الأعلام قبل مباراة 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أمام أتلتيكو مدريد، قاوم المشجعون القرار، وملأوا مدرجات غلاسكو بالأعلام الفلسطينية، إذ كانت "الكتيبة الخضراء" – رابطة الألتراس في النادي – قد دعت قبل المباراة إلى هذه الخطوة، مؤكدة أن رفع الأعلام في هذا التوقيت "وقفة صغيرة تعني الكثير لمن يتعرضون للقصف والمعاناة"، وداعيةً الجماهير إلى "الوقوف بفخر إلى جانب شعب فلسطين".
فارتفعت في الملعب هتافات تدعو بالنصر للمقاومة الفلسطينية وتطالب بالحرية للبلاد المحتلة منذ عام 1948، تحت شعار: "Free Palestine – Victory to the Resistance".
These Celtic football fans waved the Palestinian flag in solidarity with Gaza during a match, despite warnings from club officials. pic.twitter.com/84hCuTKsWS
— AJ+ (@ajplus) October 26, 2023
ورغم أن رفضهم الامتثال لقرار مالكي النادي بمنعهم من نشر الرسائل السياسية – والذي أدى إلى سلسلة غرامات باهظة على النادي – قد أسفر عن منع المشجعين من "الكتيبة الخضراء" من حضور المباريات حتى نهاية الموسم، فإن الكتيبة الخضراء واصلت دعوة بقية الفرق إلى خوض غمار النضال في غيابهم.
وبينما استمر مشجعو سلتيك في رفع لافتات مؤيدة لفلسطين متحدّين القواعد، حذت مجموعات مشجعين أخرى حذوهم. في أماكن أخرى، ظهرت لافتات في المدرجات تحمل رسائل مثل: "دعوا أطفال غزة يعيشون"، و"فلسطين حرة"، و"أوقفوا الإبادة الجماعية"، وذلك في ملاعب في تركيا وإيرلندا وإسبانيا.
تزايد الدعم للنضال الفلسطيني بين مجموعات الألتراس في بعض الأندية الأوروبية، من عروض "التيفو" المذهلة في كبرى الملاعب إلى الجداريات البسيطة وصور وهتافات المشجعين داخل وخارج الملاعب. وكان من أبرزها ما حدث في ملعب "حديقة الأمراء" الخاص بنادي باريس سان جيرمان الفرنسي؛ ففي مباراته أمام أتلتيكو مدريد، تفاجأ الجميع بلافتة ضخمة غطّت جزءاً من الملعب، ربما أكبر عرض "تيفو" مرتبطٍ بالحرب على غزة حينها في الملاعب الأوروبية، تضمّن العرض علماً فلسطينياً مغطّى ببقع حمراء، ورجلاً تغطي الكوفية الفلسطينية وجهه باستثناء عينيه، وقبة الصخرة في المسجد الأقصى في القدس، وفتى يرتدي العلم اللبناني. وتحت عبارة "Free Palestine" كُتبت الجملة: "حرب في الملعب، لكن سلام في العالم." وخلال المباراة، رفع المشجعون لافتة أخرى كُتب عليها: "هل حياة طفل في غزة أقلّ قيمة من حياة غيره؟"
#PSG ultras displayed a large "Free Palestine" banner ahead of their Champions League game against Atlético de Madrid at Parc des Princes in #Paris, #France. #Palestine's flag and #Lebanon's flag are also embedded in the banner.
— Mojoe (@Mojoe_84) November 7, 2024
🇵🇸🇵🇸🇵🇸🇵🇸🇵🇸🇵🇸🇵🇸🇱🇧🇱🇧🇱🇧🇱🇧🇱🇧🇱🇧 pic.twitter.com/ciIJgM8aCq
لم تَرُق آنذاك الصورة لوزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو، الذي صرّح: "لا مكان لهذه اللافتة في الملاعب"، غير أن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم لم يعاقب النادي، فيبدو أنه لأول مرة يستطيع قراءة عبارة "حرّروا فلسطين" بشكل صحيح، إذ قال متحدث باسم الاتحاد الأوروبي لكرة القدم: "لن تكون هناك أيّ قضية تأديبية، لأن اللافتة التي تم رفعها لا يمكن اعتبارها في هذه الحالة استفزازية أو مهينة".
إذ أتت المباراة بينما كانت الطائرات الإسرائيلية تواصل قصف الأبرياء في قطاع غزة ولبنان. وقد رُفعت اللافتة قبل نحو أسبوع من استضافة منتخب فرنسا لكرة القدم نظيره الإسرائيلي على ملعب "دو فرانس" في باريس، ضمن بطولة دوري الأمم الأوروبية.
وقبلها بأيام، اقتحم نشطاء مقر الاتحاد الفرنسي لكرة القدم في العاصمة باريس، احتجاجاً على إقامة المباراة، رافعين لافتات كُتب عليها: "لا لمباراة فرنسا وإسرائيل"، و"دوري أبطال الإبادة الجماعية"، مطالبين الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بـ"حظر إسرائيل" بسبب الجرائم التي ترتكبها في غزة.
واستمر دعم جماهير النادي الباريسي، وفي أهم ليلة في تاريخ النادي، في نهائي دوري الأبطال 2025، ظهرت لافتة ضخمة مكتوب عليها باللغة الإنجليزية: "أوقفوا الإبادة في غزة"، بين مشجعي نادي باريس سان جيرمان في مدرجات ملعب "أليانز أرينا" بمدينة ميونخ الألمانية، في سابقة بارزة على منصة كروية مركزية.
لم تعد لافتات دعم فلسطين والمطالبة بوقف الإبادة استثناءً في أعرق بطولة أوروبية؛ فخلال شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وفي ملعب "رامس بارك" بإسطنبول، شكّلت الجماهير التركية العلم الفلسطيني بأجسادها قبيل انطلاق مباراة فريقها غلطة سراي أمام بودو غليمت النرويجي، ضمن الجولة الثالثة من دوري الأبطال. وما إن انتهت المباراة، حتى شنّت صحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية حملة تحريض، مطالبة الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بمعاقبة النادي التركي.
⭕️ جماهير غالاطة سراي التركي لكرة القدم نظمت عرض "كوريوغرافي" داعمًا لـ #فلسطين، قبيل انطلاق مباراة فريقهم مع بودو غليمت النرويجي، في إطار الجولة الثالثة من دوري أبطال أوروبا.
— عربي بوست (@arabic_post) October 22, 2025
▪️وشكّلت الجماهير التركية في ملعب "رامس بارك" بإسطنبول العلم الفلسطيني، كما علّقت كتابات باللغة… pic.twitter.com/94zaRPGy52
في الواقع، لم يكن موقف جماهير الكرة التركية جديداً، فمنذ سنوات، وأندية كبرى مثل غلطة سراي وفنربخشة تعلن انحيازها العلني لفلسطين، وتحوّل ملاعبها إلى منابر احتجاج ضد الاحتلال. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، رفع مشجعو غلطة سراي خلال مباراةٍ ضد توتنهام لافتاتٍ كُتب عليها: "فلسطين حرة"، و"أوقفوا الإبادة"، و"دعوا أطفال غزة يعيشون". وفي مطلع 2025، شكر المشجعون الأتراك جماهير سلتيك الاسكتلندي على تضامنهم مع فلسطين، مردّدين الهتاف ذاته: "Stop the genocide in Palestine".
أما في إسبانيا، فقد عبّرت جماهير نادي أتلتيك بلباو الإسباني عن دعمها للشعب الفلسطيني، حيث رفع مشجعو الفريق الباسكي لافتة كبيرة خلال مباراة فريقهم أمام أرسنال الإنجليزي ضمن الجولة الأولى من دور المجموعات لدوري أبطال أوروبا خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي.
وعلى مدرجات ملعب سان ماميس في مدينة بلباو، رفعت جماهير النادي الباسكي عدة لافتات ضخمة وأعلام فلسطين، كُتب على إحداها: "سنقف إلى جانبكم حتى آخر يوم".
وفي سان ماميس مرة أخرى، يوم الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 2025، تحوّل الملعب إلى مساحة تضامن مع فلسطين، حين دعا نادي أتلتيك بلباو مجموعةً من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في إقليم الباسك إلى أرضية الملعب قبل مباراته أمام مايوركا، فوقف الآلاف من المشجعين مصفّقين وهم يلوّحون بالأعلام الفلسطينية، بينما ظهرت على الشاشات رسالة تقول: "أوقفوا الإبادة في غزة".
Athletic Club Bilbao @AthleticClub showed its support for Palestine by hosting a group of Palestinian refugees from the Basque Country.
— Leyla Hamed (@leylahamed) October 4, 2025
They received a powerful standing ovation from the entire San Mamés stadium — the first LaLiga team to officially pay tribute to Palestine. pic.twitter.com/IkDnP3HFkA
والحقيقة، أن إقليم الباسك شهد سلسلة من مظاهر التضامن المؤيد لفلسطين منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، حتى عندما سافرت جماهير النادي الباسكي إلى ألمانيا، حملوا معهم أعلام فلسطين، ونظّموا مسيرة في الشوارع قبل مباراة دوري أبطال أوروبا ضد فريق بوروسيا دورتموند، حيث ردّدوا شعارات داعمة لفلسطين ولوّحوا بالأعلام الفلسطينية.
لكن الحقيقة أن هذا المشهد ليس جديداً على الكرة الإسبانية؛ ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، قبل أكثر من عام على حرب الإبادة، كانت جماهير أتلتيك بلباو ترفع علم فلسطين في مدرجاتها. وعندما بدأت الحرب، لم تكن مدرجات بلباو وحدها من تنادي لفلسطين، حيث رفعت جماهير ريال سوسيداد الأعلام الفلسطينية خلال مباراتها ضد مايوركا، وسبقتها جماهير أوساسونا بالأعلام الفلسطينية والتصفيق حين واجهت غرناطة، الذي يضم لاعباً إسرائيلياً.
لماذا تدعم جماهير كرة القدم فلسطين؟
منذ أن وُلدت كرة القدم كظاهرةٍ شعبيةٍ عالمية، وهي تحمل في طيّاتها ما هو أكثر من اللعب والتسلية.
إذ يرى البعض أن سرّ انتشارها في وضوح قواعدها وعدالتها الظاهرة؛ فهي اللعبة التي يعرف الجميع قانونها، ويُحتكم فيها إلى نظامٍ واحدٍ لا يُفرّق بين غنيٍّ وفقير، ولا بين شمالٍ وجنوب. لكن هذا التفسير البسيط، وإن كان جذّاباً، يُغفل عمقاً أكبر.
الصحفي والكاتب الفرنسي ميكائيل كوريا، في كتابه "تاريخ شعبي لكرة القدم"، يُقدّم قراءةً مختلفة. فيرى كوريا أن جاذبية اللعبة لا تكمن في عدالتها الشكلية فقط، بل لأنها أداة للتعبير عن الوعي الطبقي وتطلعات التحرر. من خلالها تُعبّر الشعوب عن هويتها، وتُعيد تعريف ذاتها، وتستعيد صوتها في وجه من صادره منها.
فعلى سبيل المثال يعود بنا كوريا في كتابه إلى إنجلترا القرن التاسع عشر، إلى زمن الثورة الصناعية، حين تحوّل المصنع إلى رمزٍ للسلطة الاقتصادية. هناك، لم يكتفِ أرباب العمل بتنظيم خطوط الإنتاج، بل سعوا أيضاً لتأسيس فرقٍ رياضية تحمل أسماء مصانعهم. كانت كرة القدم، في نظرهم، وسيلةً لإشغال العمال، ولصرف طاقتهم عن التفكير في حقوقهم. لكن اللعبة انقلبت على مَن حاول استغلالها؛ إذ تحوّلت إلى مساحةٍ مشتركة يلتقي فيها العمّال خارج نظام العمل الصارم، وتبلور فيها وعي طبقي جماعي سرعان ما امتد إلى السياسة والنقابات والشارع. هكذا، وفي مفارقةٍ رمزية، أصبحت كرة القدم في جزء منها حكاية مقاومةٍ ضد السلطة التي كانت تحاول أن تتطوّعها.

وما إن تمدّدت الإمبراطورية البريطانية، حتى خرجت اللعبة من المصانع إلى المعسكرات، ومن لندن إلى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. حملها الجنود البريطانيون معهم إلى المستعمرات كوسيلةٍ للضبط والسيطرة الثقافية، لكن المستعمَرين سرعان ما استولوا عليها وأعادوا تعريفها؛ من رمزٍ للهيمنة إلى أداةٍ للتحرّر الوطني. في مدن الهند، وموانئ نيجيريا، وشوارع القاهرة وتونس والدار البيضاء، كانت الفرق المحلية تهزم أندية المستعمرين، لتتحوّل كل مباراة إلى انتصار رمزيّ للأمة.
فأصبحت كرة القدم، في بعض الأوقات، مرآةً لهوية الشعوب المكافحة، ومختبراً للكرامة والسيادة، وفضاءً يتعلم فيه الناس معنى الحرية الجماعية.
واليوم، حين تهتف جماهير كرة القدم لفلسطين، يمكن القول أنها لا تفعل ذلك بدافعٍ عابرٍ من العاطفة، بل لأنها ترى في الفلسطينيين صورةً متجددة لذلك التاريخ الطويل من القهر والمقاومة. وحين نبحث عن أمثلةٍ لذلك، يبرز اسم نادي سلتيك غلاسكو، أحد أعرق الأندية الأوروبية وأكثرها وفاءً لذاكرة المظلومين.
سلتيك.. ذاكرة ألم قديم تتجدّد في غزة
ولفهم تعاطف مشجعي سلتيك مع فلسطين، لا بد من العودة إلى القرن التاسع عشر، حين ضربت المجاعة الكبرى إيرلندا بين عامي 1845 و1849، فهلك أكثر من مليون إنسان بسبب الجوع والمرض، بعد أن انتزعت السلطات البريطانية أراضي الفلاحين وتركتهم للموت. فرّ عشرات الآلاف إلى اسكتلندا، لكنهم لم يُستقبلوا كلاجئين، بل كمواطنين من الدرجة الدنيا، ازدرتهم الطبقة البروتستانتية الحاكمة وحرمتهم من العمل والمسكن.
في تلك الظروف القاسية، ظهر رجل دين كاثوليكي يُدعى الأخ ويلفريد (أندرو كيرنز)، فأسّس عام 1887 نادي سلتيك بهدفٍ بسيط وإنساني: جمع التبرعات لإطعام المهاجرين الأيرلنديين في غلاسكو.
منذ ذلك الحين، لم يكن سلتيك مجرّد نادٍ رياضي، بل حركة تضامنٍ اجتماعي. حمل جمهوره إرث الاضطهاد والجوع والتهجير، وظلّ وفياً لذكرى أجداده الذين طُردوا من أراضيهم، تماماً كما يُهجَّر الفلسطينيون اليوم من بيوتهم.
لهذا، يرى مشجعو سلتيك في المأساة الفلسطينية صدىً لمأساتهم القديمة: شعبٌ يُنتزع من أرضه، ويُترك لمصيره في المنافي، بينما يتواطأ العالم عليه بصمته. وهذا ما يتّفق معه المحاضر الجامعي في اسكتلندا والمشجع المتحمّس لنادي سلتيك، شون هدلستون، الذي يرى أن جماهير النادي أكثر ميلاً للتعاطف مع الفلسطينيين لأسبابٍ تتجاوز الموقف السياسي الآني، وتمتد إلى الهوية التاريخية للنادي نفسه، قائلاً: "إن المؤيّد السلتي الأكثر ميلاً إلى الجمهوريين سوف يشعر بالتقارب مع القضية الفلسطينية بسبب الروابط الملموسة بين الجمهوري الأيرلندي والنضال الفلسطيني."

إذ تذكّرهم فلسطين بآبائهم الذين ماتوا جوعاً، وبالذين نُفوا إلى أستراليا لأنهم سرقوا ليطعموا أطفالهم. ولهذا، حين تُرفع الأعلام الفلسطينية في مدرجات سلتيك، فهي ليست فعلاً سياسياً طارئاً، بل أقرب إلى فعل أخلاقي في وجه التاريخ الاستعماري نفسه.
ومن رحم هذه الروح، وُلدت مجموعة "اللواء الأخضر" عام 2006، وهي رابطة مشجعين مناهضة للفاشية. لم تكتفِ بالشعارات، بل موّلت عام 2016 مشروعاً حقيقياً هو مدرسة "لاجئي سلتيك" لكرة القدم في مخيم عايدة بالضفة الغربية — وهي مبادرة انطلقت بعد أن غُرّمت المجموعة لرفعها الأعلام الفلسطينية في مباراةٍ أمام الفريق الإسرائيلي هبوعيل بئر السبع. جمع المشجعون الأموال لسداد الغرامة، ثم تبرعوا بما تبقّى لتأسيس المدرسة.
ولم يكن غريباً أن تُطلق مجموعة سلتيك حملة "أشهِروا البطاقة الحمراء لإسرائيل"، مطالبةً الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بتعليق عضوية إسرائيل ومنعها من المنافسات، استناداً إلى لوائح الفيفا نفسها التي تُدين الدول المنخرطة في التمييز والعنف ضد المدنيين.
وبحسب صحيفة El Salto Diario الإسبانية، أحصت الحملة أكثر من 170 فعالية في 30 دولة من القارات الخمس، تتنوّع بين لافتات في الملاعب، و تيفوهات ضخمة، وجداريات، وصور احتجاجية في محيط المنشآت الرياضية.
ورغم تحفظ إدارة نادي سلتيك، انضمّت جماهيره بأعداد هائلة إلى حملة "أشهِروا البطاقة الحمراء لإسرائيل"، مدعومة بمجموعات الألتراس الشهيرة مثل Bhoys ودوائر Celtic Supporters Clubs المنتشرة حول العالم.
وسرعان ما تحولت المبادرة إلى موجةٍ عابرةٍ للحدود؛ ففي إسبانيا، شاركت نحو 30 مجموعة مشجعين، من أبرزها: Indar Gorri (أوساسونا)، Biris Norte (إشبيلية)، Iraultza 1921 (ألافيس)، و Riazor Blues (ديبورتيفو لاكورونيا). أما في إيطاليا، فقد انضم 29 نادياً من أندية كرة القدم الشعبية إلى الحملة، ورفعت جماهير بيزا، وإمبولي، وتيرنانا اللافتات داخل وخارج الملاعب، بحسب الصحيفة.
وانتشرت الحركة كذلك في اليونان، وفرنسا، وبلجيكا، وقبرص، وأيرلندا، وألمانيا، ثم امتدت إلى شمال إفريقيا — حيث شاركت 13 مجموعة من تونس، إلى جانب مجموعات من المغرب، والجزائر، وليبيا، ومصر، حيث رفع ألتراس أهلاوي لافتة الحملة في شوارع القاهرة.
كما وصلت الحملة إلى آسيا، إذ تبنّتها جماهير في إندونيسيا وماليزيا، وإلى أميركا اللاتينية عبر نادي CD Palestino في تشيلي، الذي يحمل جذوراً فلسطينية عميقة. واللافت أن روح التضامن لم تقتصر على كرة القدم، إذ انضمّت أيضاً جماهير كرة السلة Indar Baskonia في الدوري الإسباني، رغم مواجهاتهم المنتظمة لفريق مكابي تل أبيب في اليوروليغ.
من الطرد الآسيوي إلى العبء الأوروبي
أشار موقع Middle East Eye في تقريرٍ نشره في أكتوبر/تشرين الأول 2025، إلى أنّ استمرار مشاركة إسرائيل في البطولات الأوروبية يثير جدلاً متصاعداً داخل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، مع تنامي الدعوات إلى مقاطعتها عقب الحرب على غزة. وأوضح التقرير أنّ الاتحاد الأوروبي يواجه مطالب متزايدة من الدول الأعضاء بالسماح بالتصويت على استبعاد إسرائيل من بطولاته.
و في هذا السياق، خلال تصفيات كأس العالم 2026 في إيطاليا، تزامنت مباراة المنتخب الإيطالي أمام نظيره الإسرائيلي مع تظاهرات شارك فيها آلاف المتضامنين مع فلسطين، رافعين الأعلام الفلسطينية ولافتات كُتب عليها: "أشهِروا البطاقة الحمراء لإسرائيل"، في مشهدٍ يعكس تصاعد الحساسية الشعبية والسياسية تجاه حضورها الرياضي في أوروبا.
وفي تصريحٍ نقلته صحيفة Globes الإسرائيلية، قال شلومي بارزل، رئيس قسم الإعلام في الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم: "إنه معجزة أننا ما زلنا نشارك في كرة القدم الدولية، فإسرائيل لن تنجو من تصويتٍ حرّ بين أعضاء الاتحاد الأوروبي أو الفيفا".
لذلك، كلّما ارتفعت راية فلسطين في ملعب، بدت كأنها توقظ ذاكرة المقهورين في كلّ مكان، لتُذكّر بأنّ العدل، وإن غاب، يظلّ له من يطالب به. وكما قال إدواردو غاليانو، قد يحاول التكنوقراطيون تحويل كرة القدم إلى عالمٍ منزوع السياسة، لكن الجماهير تُعيدها دائماً إلى معناها الأول: ظاهرة شعبية مرتبطة بالعالم الحقيقي، تنحاز إلى الإنسان حين يُهمَّش، وتحوّل الملعب إلى ميدان مقاومة، ولو لساعاتٍ معدودة.