في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2025، أعلنت الحكومة السورية وقائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، بموافقة الطرفين، وقفاً شاملاً لإطلاق النار بعد اشتباكات عنيفة بين القوات الحكومية وميليشيات قسد في أحياء بحلب، خاصة في الشيخ مقصود والأشرفية، ما أثار تساؤلات حول مصير الاتفاق الذي أُبرم في 10 مارس/آذار 2025 لدمج قسد في مؤسسات الدولة، ومدى قدرة دمشق وقسد على تجاوز التوتر المتجدد. فماذا حدث، وما مآلات التصعيد، والعقبات التي تعترض تنفيذ اتفاق آذار؟
ماذا حدث؟
شهدت مدينة حلب، ليل الإثنين – الثلاثاء، توتراً أمنياً بين الجيش السوري و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، بعد أن استهدفت الأخيرة حواجز تابعة للأمن الداخلي في محيط حيي الشيخ مقصود والأشرفية، ما أدى إلى مقتل عنصر وإصابة آخرين، بحسب ما أفاد تلفزيون سوريا.
كما طال القصف أحياء سكنية مجاورة، مخلّفاً إصابات في صفوف المدنيين، في ما وُصف بأنه أعنف اشتباك بين الجانبين منذ توقيع اتفاق 10 مارس/آذار الذي يفترض أن ينظم العلاقة بين دمشق وقسد ضمن ترتيبات الدولة.
في أعقاب الاشتباكات، أعلنت الحكومة السورية و"قسد" وقفاً لإطلاق النار، إثر وصول وفد من قسد إلى العاصمة دمشق ولقائه مسؤولي الحكومة، بوساطة وإشراف أميركيين، إذ عقد الاجتماع بمشاركة وزير الخارجية أسعد الشيباني، وقائد القيادة الوسطى الأميركية في الشرق الأوسط براد كوبر، والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم باراك.
من جانبها، ذكرت وكالة هاوار المقربة من الإدارة الذاتية، أن الوفد ضمّ أيضاً مسؤولين من قسد، بينهم إلهام أحمد، وأن المناقشات شملت ملفات أمنية وسياسية وعسكرية تتعلق بمستقبل مناطق شمال وشرق سوريا، ولا سيما محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، في إطار متابعة التفاهمات التي أقرّها اتفاق آذار.
وسائل إعلام مقربة من قسد:
— سوريا الآن – أخبار (@AJSyriaNowN) October 7, 2025
اجتماع وفد الإدارة الذاتية مع حكومة دمشق يضم قائد قسد مظلوم عبدي وإلهام أحمد مقابل الرئيس أحمد الشرع والوزير أسعد الشيباني pic.twitter.com/N1OLpKijDj
وأشارت الوكالة إلى أن لقاء دمشق جاء بعد اجتماع تمهيدي عُقد يوم الإثنين في الحسكة، شارك فيه عدد من رؤساء الهيئات والمجالس في الإدارة الذاتية إلى جانب المبعوث الأميركي وقائد القيادة المركزية الأميركية ووفد من التحالف الدولي.
وأكدت "هاوار" أن المباحثات في دمشق تناولت ملفات "مهمة"، من بينها تثبيت وقف إطلاق النار ومنع تجدد القتال في المناطق المختلطة، إلى جانب بحث مسألة اللامركزية الإدارية التي تشكل محور خلاف مزمن بين دمشق وقسد. وخلال الاجتماع، تمسك الطرف الكردي باعتبار حلّ "قسد" خطاً أحمر، فيما شدد الرئيس الشرع على ضرورة الحفاظ على وحدة القرار العسكري والسياسي في الدولة. وبحسب الوكالة، فإن الاختلافات لا تزال قائمة بشأن حدود الصلاحيات الإدارية للإدارة الذاتية ومستقبل القوات الأمنية التابعة لها، وسط تأكيد مشترك على أهمية منع التصعيد.
ما هو اتفاق 10 مارس/آذار؟
في 10 مارس/آذار 2025، وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع مع قائد قسد مظلوم عبدي اتفاقاً من ثماني نقاط، يهدف إلى دمج الهياكل الأمنية والعسكرية والمدنية التابعة لقسد ضمن بنى الدولة السورية، وقد نص الاتفاق على ضمان الحقوق السياسية والمدنية لجميع السوريين دون تمييز ديني أو عرقي، والتأكيد على أن المجتمع الكردي مكوّن أصيل في الدولة السورية، يتمتع بكامل حقوق المواطنة والدستور. كما تضمّن وقفاً شاملاً لإطلاق النار في جميع الأراضي السورية، وبدء دمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق البلاد ضمن إدارة الدولة المركزية، بما في ذلك المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز.
وشدّد الاتفاق على حق النازحين في العودة الآمنة إلى مناطقهم مع ضمان حمايتهم من قبل الدولة، ودعا إلى مساندة الحكومة في حربها ضد بقايا نظام الأسد وكل ما يهدد أمن سوريا ووحدتها. كما تضمّن بنداً واضحاً حول رفض خطابات الكراهية والطائفية ودعوات الانقسام، والتشديد على ترسيخ مبادئ التعايش بين جميع مكوّنات المجتمع السوري.
بذلك، رسم اتفاق آذار إطاراً سياسياً وأمنياً لإعادة بناء الدولة السورية على أسس شراكة وطنية، ورغم أن الاتفاق شكّل اختراقاً كبيراً للرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، الذي انخرط في وقت مبكر مع قوات سوريا الديمقراطية في مفاوضات لتعزيز سيطرة الحكومة السورية على البلاد، إلا أنه منذ توقيع الاتفاق وحتى اليوم، تعثّرت المراحل التنفيذية بشكل مستمر، إذ بقيت تفاصيل "الدمج" العسكري والإداري غامضة، ولم تُحدّد بوضوح آليات الانتقال المؤسسي. هذا الغموض، وفق محللين، جعل الاتفاق عرضة للتأويلات المتضاربة بين دمشق وقسد، وخلق ثغرات تُستخدم لتبرير التأجيل أو التباطؤ في التنفيذ، ما أبقى العلاقة بين الطرفين في حالة هدنة هشّة أكثر من كونها تسوية مستقرة.
في هذا السياق، يقول الباحث بلال سلايمة، من المعهد العالي للدراسات الدولية في جنيف، في حديثٍ لـ"عربي بوست"، إن اتفاق 10 آذار "يشكّل إطاراً عاماً للحل، لكنه يفتقر للتفاصيل"، موضحاً أن الصياغة العمومية جعلت الاجتماعات اللاحقة بين الحكومة في دمشق و"قسد" تدور دون التوصل إلى صيغ نهائية.
ويضيف سلايمة أن "قسد حين وقّعت الاتفاق يبدو أنها أخذت بعين الاعتبار اللحظة التاريخية، وتعاملت معها كمناورة ظرفية أكثر من كونه التزاماً نهائياً"، مشيراً إلى أنها حالياً "تحاول المماطلة لأن اتفاقاً يقوم على دمج كامل دون أي شكل من أشكال الإدارة الذاتية سيعني نهاية مشروعها، وهو ما تعتبره مسألة وجودية بالنسبة لها"، لذلك "ستحاول قدر المستطاع أن تناور وتماطل أكثر مع الحكومة في دمشق".
ما هي نقاط الخلاف؟
منذ توقيع الاتفاق في مارس/آذار، عُقدت 4 جولات تفاوضية بين ممثلين عن الحكومة السورية و"قسد"، بواقع اجتماعين في الحسكة واجتماعين في دمشق، كان آخرها اجتماع عُقد في مطلع يوليو/تموز، بين وفد ضم حينها وزراء الخارجية أسعد الشيباني، والدفاع مرهف أبو قصرة، والداخلية أنس خطاب، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة حسين السلامة، مع وفد ضم القائد العام لـ"قسد" مظلوم عبدي، ومسؤولة دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية إلهام أحمد، والرئيسين المشتركين لوفد الإدارة الذاتية، فوزة يوسف وعبد حامد المهباش، دون الخروج بأي نتائج.
ترى الحكومة السورية أن الاندماج يعني حلّ "قسد" و"الأسايش" ككتلتين عسكريتين، مع الانضمام بشكل فردي إلى الجيش السوري. من جهة قسد، هناك مطلب بأن تبقى بنية تنظيماتها أساساً موحداً، مع وجود آليات تتيح لها الاحتفاظ ببعض الهيكلية الذاتية، لا أن تُذوَّب تماماً في مؤسسات الدولة، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها، وهو ما ترفضه الحكومة باعتباره تهديداً لوحدة القرار المركزي.
من النقاط الخلافية الجوهرية أيضاً مسألة اللامركزية، فدمشق تتعامل مع اللامركزية بوصفها ترتيبات إدارية ضمن الدولة الموحدة، بينما تسعى قسد إلى تحويلها إلى صيغة سياسية موسعة تمنحها صلاحيات مستقلة في مجالات الأمن والاقتصاد والعلاقات الخارجية، وهو ما يشير إليه مركز جسور للدراسات: "اللامركزية التي تفاوض عليها قسد ليست الفدرالية، أو الدولة الاتحادية، وإنما الكونفدرالية بمعنى التفاوض بين دولتين، لكل منهما سيادة مستقلة وتتوافقان على روابط مشتركة تحت عنوان واحد." وهو ما تعتبره الحكومة السورية تجاوزاً لسيادة الدولة ووحدة مؤسساتها.
في هذا الإطار، يوضح سلايمة أن الخلافات بين الطرفين يمكن حلها نظرياً، لكن قسد ترى أن أي تراجع عن الإدارة الذاتية أو اللامركزية السياسية التي تطالب بها سيؤدي إلى إنهاء وجودها كجهة، ولذلك ترى الأمور أكثر من مفاوضات مع دمشق، بل تتعلق بمسألة بقائها كفصيل وجهة تلعب دوراً في الملف السوري أو حتى في المسألة الكردية عموماً.
أما فيما يتعلق بعملية الدمج، فيلفت سلايمة إلى أن "عملية الدمج ستحتاج نقاشاً تفصيلياً، بالإضافة إلى أن كتلة قسد العسكرية كبيرة نسبياً، وبالتالي عملية الدمج تحتاج لأن تراعي معايير كثيرة من طرف الحكومة حتى لا يشكّل الدمج لاحقاً عبئاً عليها."

بينما يتعمّق الخلاف أيضاً حول الملف الاقتصادي والسيطرة على الموارد، ولا سيما النفط والغاز والمعابر الحدودية. فبينما ينصّ اتفاق آذار على عودة هذه الموارد لإدارة الدولة المركزية، تطرح قسد مقترحات للاحتفاظ بحصص تشغيلية ومالية محلية.
تُجري قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والحكومة السورية مفاوضات شاقة منذ توقيع اتفاق 10 مارس/آذار 2025 بهدف حسم مصير مشروع "الإدارة الذاتية" في شمال وشرق سوريا. ورغم تشكيل لجان مشتركة بين الطرفين في يونيو/حزيران الماضي، إلا أن المفاوضات توقفت لاحقاً بسبب تصاعد الخلافات حول مكان انعقادها وطبيعتها، إذ أصرت قسد على نقلها إلى باريس برعاية فرنسية، فيما رفضت دمشق تدويل الملف وأصرت على عقدها داخل الأراضي السورية. بالإضافة إلى اندلاع اشتباكات محدودة بين حين وآخر بسبب خروقات ميدانية واتهامات متبادلة بخرق الاتفاق، ما يعني أن وقف إطلاق النار ما زال جزئياً وغير مستقر. ويوضح سلايمة أن تلك الاشتباكات استمرار لمسار من الاشتباكات منذ فترة، في منطقة شرق حلب ومنطقة دير حافر، فهذه مناطق سيطرت عليها قسد بعد سقوط نظام الأسد وتقدّمت فيها باتجاه حلب وقتها، وعملت نوعاً من التحشيد، ما جعل الاشتباكات بين الحين والآخر مستمرة بين الطرفين.
لكنه يشير إلى أن الاشتباكات الأخيرة تحمل أبعاداً سياسية، إذ فرضت الحكومة "نوعاً من الحصار على الأحياء، لرغبة منها بعدم السماح لقسد بتهديد حلب أو إدخالها في حالة عدم استقرار أمني".
فالمواجهات الأخيرة والقصف أديا إلى نزوح مدنيين من الأحياء المتضررة، لذلك تكون مؤشراً على "نية الحكومة زيادة الضغط العسكري في تلك المناطق. لكن قسد تهدّد بأن أي سيطرة على هذه الأحياء سوف تنهي اتفاق 10 آذار."
هل تُهدد الاشتباكات الأخيرة اتفاق آذار؟
يرى بلال أن الاتفاق لا يزال قائماً من حيث المبدأ، وأن الاشتباكات لا تمثل فشلاً للمسار بقدر ما هي اختبار له. ويشير إلى أن "التدخل الأمريكي الأخير من خلال المبعوث توم باراك والقائد العام للقيادة المركزية للولايات المتحدة براد كوبر محاولة لإعادة الأمور إلى نصاب العملية السياسية بين الطرفين، وهذا في مصلحة واشنطن."
ويشير سلايمة إلى أن "تركيا دورها أساسي في كل المعادلة، ولديها رغبة كبيرة بإنهاء ملف قسد، وقد تدعم أي تحرّك للحكومة. لكن دمشق تحاول حتى الآن التعامل بسياسة على هذا الملف لاعتبارات متعلقة بالعلاقة مع الولايات المتحدة تحديداً، بالإضافة إلى الكلفة العسكرية عموماً."
مع ذلك، يحذّر من أن احتمالية التصعيد تبقى واردة: "احتمالية المواجهة واردة بشكل كبير، وإن كانت الحكومة تحاول الابتعاد عن هذا الخيار نظراً لكلفته السياسية والميدانية في ظل وضع البلاد الهش."