حتى الأجنة لن تسلم من آثار القصف والمجاعة.. هكذا ستُعاني الأجيال القادمة في غزة من الحرب الإسرائيلية

عربي بوست
تم النشر: 2025/10/08 الساعة 11:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/10/08 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
معاناة المرأة في غزة/ الأناضول

لن تقتصر تأثيرات الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي دخلت عامها الثالث، على الأجيال الحالية فقط من سكان القطاع، الذين يعانون حرب إبادة جماعية شهدت مستويات غير مسبوقة من القتل والتجويع، بل سيشمل ذلك أيضاً الأجيال القادمة وحتى الأجنة في أرحام الأمهات اللاتي يكافحن لسد الحد الأدنى من احتياجاتهن اليومية من الغذاء للبقاء فقط على قيد الحياة.

ورصدت تقارير عدة التأثيرات الصحية التي تخلفها المجاعة التي تعصف بقطاع غزة، وخاصة على الأمهات الحوامل والأطفال حديثي الولادة، وكيف سيكونون عرضة لمشاكل صحية طويلة الأمد ستمتد تبعاتها إلى أطفالهم في المستقبل، إضافة إلى التغيرات الجينية التي قد تطرأ على الأجيال القادمة بسبب المجاعة.

ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، استخدم الاحتلال التجويع كسلاح حرب، وحظر أو قيد دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع الفلسطيني المحاصر، وخاصة بعدما رفض في مارس/آذار 2025 المضي قدماً في تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه مع حركة حماس في يناير/كانون الثاني الماضي.

ثلث اليهود الأمريكيين
فلسطيني يحمل جثمان طفلة استشهدت في جباليا شمال قطاع غزة/ رويترز

كيف تؤثر المجاعة على الأجيال القادمة؟

وعلى مدى العقدين الماضيين، أظهرت الأبحاث بشأن المجاعات والصدمات التاريخية ــ من المجاعة الكبرى في الصين، والإبادة الجماعية في رواندا، والمجاعة الهولندية ــ أن مثل هذه المعاناة تُخلّف بصمات وراثية دائمة تمتد لأجيال، وفق تقرير نشره موقع ميدل إيست آي البريطاني.

ورغم أن عوامل الجوع والتوتر والصدمات لا تؤدي إلى تغييرات في الحمض النووي (DNA)، إلا أنه يصاحبها تغييرات كيميائية تؤثر على كيفية التعبير عن الجينات، دون تغيير التسلسل الأساسي.

وتُعرف هذه العملية باسم علم الوراثة فوق الجينية، حيث تُنقَل تبِعات الحرب عبر الأجيال.

ما هو علم الوراثة فوق الجينية؟

وعلم الوراثة فوق الجينية (Epigenetics) هو فرع من علم الوراثة يختص بدراسة التغيرات التي تؤثر على نشاط الجينات دون أن تُغيّر في تسلسل الحمض النووي نفسه. أي إنه لا يُغيّر الحروف الجينية، بل يتحكم في كيفية تشغيل الجينات أو إيقافها.

ويركّز هذا العلم على العلامات الكيميائية التي تُضاف إلى الحمض النووي أو إلى البروتينات المرتبطة به (الهستونات)، والتي تتحكم في مدى قراءة الخلايا للجينات.

ويفسر علم الوراثة فوق الجينية كيف يمكن لعوامل البيئة ونمط الحياة (مثل النظام الغذائي، الضغط النفسي، التلوث، أو حتى العادات) أن تؤثر على الجينات دون أن تُغيّر تسلسلها.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك:

  •  التعرّض للتوتر المزمن يمكن أن يُغيّر التعبير عن جينات مسؤولة عن المناعة.
  •  بعض التغيرات فوق الجينية قد تُورَّث للأجيال التالية.
التعليم لأطفال غزة اتهامات أممية للاحتلال بانتهاك معاهدة حماية الأطفال
أطفال قطاع غزة/الأناضول

وخلال الاحتلال النازي، تم قطع الإمدادات الغذائية عن الأجزاء الغربية من هولندا بين عامي 1944 و1945، ما تسبب في انتشار المجاعة على نطاق واسع.

وبعد عقود من الزمن، وجد الباحثون أن الأطفال الذين وُلدوا لنساء حوامل تعرّضن للمجاعة واجهوا مخاطر أعلى للإصابة بمشاكل صحية خطيرة في وقت لاحق من حياتهم.

وقالت الأستاذة تيسا روزبوم، عالمة الأحياء بجامعة أمستردام، والتي قادت الأبحاث حول التأثير الجيني للمجاعة الهولندية، لموقع ميدل إيست آي، إن "الدراسات تشير إلى أن هرمونات التوتر لدى الأمهات تؤثر على أجسام وأدمغة أطفالهن".

هل حدثت تغيّرات جينية في غزة؟

بينما لم يتم إجراء أي بحث مباشر حتى الآن حول وجود تغيّرات وراثية في غزة، إلا أن العلماء بدأوا بالفعل في رسم أوجه تشابه مع حالات من المجاعة في هولندا والصين.

وقالت روزبوم لموقع ميدل إيست آي: "الظروف الحالية في غزة ضارة للغاية وقد تُسبّب ضرراً دائماً لصحة الأطفال – وللأجيال القادمة – حتى لو تحقق السلام قريباً".

واتفق الدكتور ليون موتيسا، الباحث البارز في جامعة رواندا، الذي يركّز عمله على الإرث الجيني للإبادة الجماعية التي وقعت عام 1994، مع وجهة النظر هذه.

وقال موتيسا: "اليوم في غزة، نرى بالفعل أعراضاً: الخوف، والتوتر، وارتفاع مستويات الكوليسترول – كلها مؤشرات مبكرة للتغيّرات الجينية القادمة، على غرار ما لاحظناه في رواندا".

وأوضح موتيسا أن الأبحاث في رواندا بدأت بعد أن لوحظ أن الأطفال الذين وُلدوا أثناء الإبادة الجماعية يحملون وطأة الصدمة التي تعرّضت لها أمهاتهم.

وقد تجلّى ذلك في الاكتئاب، والقلق، والاضطراب ثنائي القطب، والهلوسة، وغيرها من الاضطرابات النفسية.

وفي مناطق الحرب كغزة، يتضاعف الأثر؛ فمستويات إضافية من المعاناة، والجوع، والنزوح، والعنف المستمر، تُفاقم الصدمة الجماعية، وتترك هذه الظروف آثاراً جينية سلبية أعمق، بحسب موتيسا.

وبحسب تقديرات مسؤولين صحيين فلسطينيين، قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 20 ألف طفل منذ بدء الحرب على غزة.

رد حماس على خطة ترامب
قوات من جيش الاحتلال الإسرائيلي/shutterstock

وقالت منظمة اليونيسف إن التقارير تشير إلى مقتل أو إصابة أكثر من 50 ألف طفل.

وفي شهر أغسطس/آب وحده، تم تشخيص 12800 طفل على أنهم يعانون من سوء التغذية الحاد، في مجاعة أكّدتها الأمم المتحدة "بشكل لا يقبل الجدل".

ومن المرجّح أن تُخلّف هذه الظروف أضراراً جينية شديدة وطويلة الأمد.

كيف تؤثر المجاعة على الأمهات الحوامل في غزة؟

كشفت دراسات أن التعرّض لبيئة شديدة الحرمان من السعرات الحرارية قبل الولادة أدّى إلى تغيّرات جينية لدى الحوامل خلال المجاعة، وارتبط بعدد من النتائج السلبية على الصحة البدنية والنفسية لهؤلاء الأفراد في مراحل لاحقة من حياتهم.

وشملت هذه النتائج زيادة خطر الإصابة بداء السكري من النوع الثاني، وزيادة انتشار سرطان الثدي لدى النساء، وارتفاع معدلات القلق والاكتئاب لدى الرجال.

وكما هو الحال مع من عايشوا المجاعة في هولندا في خمسينيات القرن الماضي، ستعاني الأمهات اللاتي تعرّضن للجوع أثناء الحرب في غزة من تأثيرات فسيولوجية دائمة ناجمة عن سوء التغذية، والتي تتفاقم بسبب العواقب العنيفة المباشرة للحرب، وفق تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.

وقال الأستاذ حسن الخطيب، الخبير في علم الوراثة الجينية بجامعة ويسكونسن ماديسون: "أعتقد أن سكان غزة سيعانون من آثار كارثية، ربما تكون أشد وطأة مما لاحظناه في دراسات الحالة للفظائع السابقة".

وحذّر من أنه "لا شك أن كارثة جينية تنتظر سكان غزة، وخاصة النساء الحوامل والمراهقين في مرحلة البلوغ، وهي مرحلة حرجة يتم فيها تكوين الحيوانات المنوية".

وأضاف الخطيب أن "ما يحدث سيؤدي إلى كارثة مستقبلية سنراها على الأجيال التي تكبر في غزة، لأن القطاع يشهد عوامل كثيرة معقّدة تُشكّل ضغوطاً سلبية على الناس هناك".

غزة
قصف للاحتلال في محيط مستشفى المعمداني في غزة – الأناضول

ماذا عن الأجنة والأطفال المولودين حديثاً؟

قال خبراء الصحة إن المجاعة وسوء التغذية تُلحقان الضرر أيضاً بالأجنة التي لا تزال تنمو في الرحم.

واكتشف الباحثون أن الأطفال المولودين لنساء حوامل خلال المجاعة كانوا أكثر عرضة للإصابة بـ :

  •  السمنة وداء السكري.
  •  أمراض القلب والأوعية الدموية.
  •  قِصر العمر.
  • ارتفاع نسبة الكوليسترول.
  •  آثار على الصحة العقلية.

وعلاوة على ذلك، رصدت تقارير تزايداً ملحوظاً لظاهرة "تشوّه الأجنة" في قطاع غزة، وفق أطباء فلسطينيين رجّحوا أنها ترتبط بـ"استخدام الأسلحة التي يجرّبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة ضد المدنيين والأطفال".

وحذّر أطباء وتقارير حقوقية من خطورة تعرّض النساء الحوامل في غزة للغازات السامة المنبعثة من القذائف والصواريخ الإسرائيلية خشيةً على الأجنة من الإصابة بتشوّهات، بحسب وكالة الأناضول.

وبعد مراجعة حالة أطفال في غزة والتاريخ الطبي لعائلاتهم، ومن بينهم حالة الطفلة روان محمد، البالغة من العمر 22 شهراً فقط، والتي تعاني من ضعف في جهاز المناعة ومشاكل في القلب، خلص المتخصصون إلى أنها تواجه خطراً كبيراً للإصابة بمضاعفات صحية خطيرة بسبب التأثيرات فوق الجينية، وهو ما يتوافق مع النتائج التي توصّلت إليها دراسات سابقة، بحسب تقرير ميدل إيست آي.

وقالت الأستاذة روزبوم: "من الواضح أن هذه الطفلة لا تحصل على العناصر الغذائية الأساسية اللازمة لنموها، ومن المرجّح أن يؤثر ذلك على عملية التمثيل الغذائي لديها ويجعلها عرضة للإصابة بمرض السكري أو أمراض القلب".

وتابعت: "لا يقتصر هذا الصراع على اللحظة الحالية فحسب؛ بل إنه يخلق عواقب تستمر مدى الحياة بالنسبة لأطفال مثل روان، وربما للأجيال القادمة".

المجاعة في غزة
أطفال غزة يعانون من الجوع وسوء التغذية بسبب الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة/الأناضول

وقال الدكتور موتيسا: "جينات روان تتغيّر بفعل الحرب والجوع. ستُعاني هي وأطفالها في المستقبل نتيجة لذلك".

وقال ماركو كيراك، الأستاذ المشارك في الطب السريري بكلية لندن للصحة والطب الاستوائي، إن الأطفال الصغار معرّضون لأسوأ التأثيرات طويلة الأمد، لأن أعضاءهم لا تزال في مرحلة النمو.

وأضاف: "هناك مفاتيح أو تغيّرات جينية في جيناتنا، والتي إما أن يتم إيقافها أو تشغيلها في تلك السنوات المبكرة الحرجة، ولهذا السبب يتأثّر أصغر الأطفال، وخاصة في أول ألف يوم من حياتهم".

وتابع: "في العديد من الدراسات التي أُجريت على الناجين من المجاعة أو سوء التغذية المبكر، نرى زيادة في خطر الإصابة بالأمراض المزمنة مثل أمراض القلب والسكري وارتفاع نسبة الكوليسترول، وبشكل متناقض، زيادة في خطر الإصابة بالسمنة أو زيادة الوزن، وهناك أيضاً آثار على الصحة العقلية".

واستطرد: "حتى عندما يستعيد الأطفال وزنهم الطبيعي، فإنهم يظلون مُعرّضين لخطر أكبر بكثير للوفاة، والالتهابات، وضعف النمو… لذا فإنهم يحملون هذا الخطر في الأشهر، وحتى عام أو عامين بعد سوء التغذية".

تحميل المزيد