شهدت القضية الفلسطينية تحولاً دولياً جديداً بعد إعلان دول كبرى مثل بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، في خطوة أعادت خلط الأوراق في المشهد الدبلوماسي وأثارت غضباً إسرائيلياً وأمريكياً ضد هذه الدول. ومن المقرر أن تحذو فرنسا وبلجيكا ودول أخرى حذو هذه الدول في قمة الأمم المتحدة التي تفتتح اليوم الإثنين 22 سبتمبر/أيلول 2025.
تعكس هذه الإعلانات -التي لن ربما لن توقف الحرب على غزة- الإحباط الأوروبي العميق إزاء استمرار جرائم "إسرائيل" ضد الفلسطينيين، وقد يكون هذا الاعتراف مجرد إجراء رمزي دولياً، لكنه يحمل في طياته تحدياً مباشراً لـ"إسرائيل" التي تهدد بضم الضفة الغربية والقضاء على فكرة الدولة الفلسطينية، وهو ما يضعها أمام عزلة متزايدة على الساحة الدولية٬ تظهر فيها الولايات المتحدة وحيدة إلى جانبها في الدفاع عن جرائمها وإيجاد تبريرات لها.
ومع هذا التطور٬ ستعمّق الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية الخلافات الدبلوماسية في 3 اتجاهات: الأول هو اتساع الخلافات الإسرائيلية–الأوروبية وتصاعد المواجهة الدبلوماسية في الردود المتبادلة بين الطرفين، والثاني هو تعمق الفجوة بين "إسرائيل" والدول العربية التي ربطت علاقاتها معها أو التي كانت تنوي فعل ذلك مثل السعودية٬ التي كانت ربطت التطبيع بعدم تجاوز "الخطوط الحمراء". أما الاتجاه الثالث فهو التصدع المحتمل في صفوف الحلف الغربي نفسه مع استمرار دعم واشنطن غير المشروط لتل أبيب٬ وزيادة الخلافات بين الولايات المتحدة وحلفائها في جميع أنحاء العالم على رأسهم الأوروبيين.
العزلة الإسرائيلية تشتد والصدام مع الحلفاء الأوروبيين يتصاعد
- تقول صحيفة "الغارديان" البريطانية إن اعتراف المملكة المتحدة بالإضافة إلى دول مثل كندا وأستراليا وفرنسا بدولة فلسطينية من شأنه أن يؤدي إلى إثارة صدام دبلوماسي عالمي٬ مع تصاعد احتمالية ضم "إسرائيل" أراضٍ في الضفة الغربية رداً على هذه الخطوة٬ ومن شأن ذلك تعميق المواجهة بين تل أبيب وبين أوروبا، وتوسيع هوة الخلاف بينها وبين الدول العربية، وزيادة المسافة بين الولايات المتحدة وحلفائها في جميع أنحاء العالم مع استمرار إدارة ترامب في دعم نتنياهو و"إسرائيل" في حربها في غزة.
- واشنطن كانت قد حذرت حلفاءها قبل إعلان يوم الأحد٬ من أن "إسرائيل" سترد "رمزياً" على خطوتهم، وكان كبار المسؤولين يدركون أن رد "إسرائيل قد يعرض للخطر مبادرات إدارة ترامب الأساسية بما في ذلك اتفاقيات إبراهام، التي سعت إلى تطبيع العلاقات بين دولة الاحتلال والدول العربية٬ ولكنها تبدو الآن في خطر الانهيار.
- وسوف يؤدي اعتراف بقية أعضاء تحالف "العيون الخمس" – وهو تحالف استخباراتي يضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا- وهم بعض أقرب حلفاء الولايات المتحدة في المسائل الاستخباراتية، بدولة فلسطين إلى زيادة التوترات في وقت يسود فيه الخلاف بين الشركاء بالفعل بشأن المساعدات لأوكرانيا فضلاً عن القضايا الثنائية مثل التعريفات الجمركية.
- ويبدو أن الولايات المتحدة سوف تؤيد بشكل نشط رد "إسرائيل ــ بما في ذلك الاستيلاء على أجزاء من الضفة الغربية أو كلها" ــ أو ربما قررت إدارة ترامب الموافقة فقط على عدم الوقوف في طريق نتنياهو والصمت على أفعاله.
- في المقابل٬ حذر مسؤولون أوروبيون "إسرائيل" من ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة رداً على اعترافهم بالدولة الفلسطينية. وقالت وزيرة الخارجية البريطانية، إيفون كوبر، لبي بي سي محذرة إياها من ضم الضفة: لقد أكدنا بشكل واضح أن هذا القرار الذي نتخذه هو أفضل طريقة لاحترام أمن إسرائيل وكذلك أمن الفلسطينيين. هذا الأمر يتعلق بحماية السلام والعدالة والأهم من ذلك الأمن في الشرق الأوسط، وسوف نستمر في العمل مع الجميع في جميع أنحاء المنطقة حتى نتمكن من القيام بذلك".
- وإذا أقدمت "إسرائيل" على تنفيذ شكل من أشكال ضم الضفة الغربية، فسوف يذهب المسؤولون الأوروبيون نحو تقييد التجارة مع المستوطنات، وفرض المزيد من العقوبات على قادة المستوطنين٬ واعتماد رأي استشاري رسمي أصدرته العام الماضي محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، والذي وجد أن احتلال "إسرائيل" للأراضي الفلسطينية ينتهك القانون الدولي، وفقاً لصحيفة فاينانشال تايمز.
ضم نتنياهو للضفة سيعمق الأزمة مع الدول العربية ويقوض التطبيع
- وطرح أعضاء حكومة نتنياهو اليمينية بالفعل خطة متطرفة لضم 82٪ من الضفة الغربية ردًا على ذلك، مما يؤدي إلى عزل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية المتبقية عن بعضها البعض كجزر صغيرة معزولة. وقال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتامار بن جفير يوم الأحد إن هذه الخطوة "تتطلب اتخاذ تدابير مضادة فورية" وإنه سيقدم اقتراحا "بالسيادة في يهودا والسامرة"، وهو المصطلح التوراتي للمنطقة الذي يستخدمه الإسرائيليون في وصف الضفة الغربية.
- لكن حتى لو لم يتم اعتماد الخطة القصوى التي أقرها وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، حول الضفة٬ فإن نتنياهو قد يعلن على الأقل ضماً جزئياً للأراضي المعترف بها دولياً كأراضي فلسطينية، ربما خلال خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع.
- وقال نتنياهو، الأحد، إن إسرائيل سترد على الإعلان الذي صدر الأحد بعد زيارته للأمم المتحدة. وقال: "لقد ضاعفنا الاستيطان اليهودي في يهودا والسامرة، وسنواصل هذا النهج. سيصدر الرد على المحاولة الأخيرة لفرض دولة إرهابية علينا في قلب أرضنا بعد عودتي من الولايات المتحدة.. انتظرونا!".
- ومن شأن هذه الخطوة أن تثير غضب الدول العربية مثل الأردن ومصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة، حيث وصف المسؤولون الإماراتيون ضم الضفة الغربية بأنه "خط أحمر"، وقد يؤدي ذلك إلى خفض العلاقات الدبلوماسية بعد خمس سنوات فقط من اعترافها رسمياً بـ"إسرائيل" إلى جانب البحرين والمغرب.
- ومن شأن ذلك أن يزيد من الدعم لفرض عقوبات وتعريفات جمركية جديدة في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني زيادة التوترات بين "إسرائيل" وبروكسل بشكل غير مسبوق٬ في الوقت الذي أفادت فيه التقارير أن الولايات المتحدة تخطط لبيع أسلحة لـ"إسرائيل" بقيمة 6 مليارات دولار تقريبا، بما في ذلك 3.8 مليار دولار مقابل 30 طائرة هليكوبتر من طراز أباتشي AH-64، و1.9 مليار دولار مقابل 3200 مركبة هجومية للمشاة.
- وأوضحت دولة الاحتلال مراراً أنها تعتبر حل الدولتين منقرضاً بالفعل، حيث قال نتنياهو بصراحة: "لن تكون هناك دولة فلسطينية". جاءت هذه التصريحات في حفل توسيع مشروع E1 بين القدس ومستوطنة معاليه أدوميم، والذي من شأنه أن يقطع فعلياً المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى قسمين شمالي وجنوبي. وقال سموتريتش الشهر الماضي إنه يعتقد أن هذه الخطط من شأنها أن "تدفن" فكرة الدولة الفلسطينية إلى الأبد.
هل يصبح الاعتراف الدولي بفلسطين شرارة تفكك التحالف الغربي؟
- في الوقت نفسه٬ أصبح استمرار الدعم الأمريكي المطلق لدولة الاحتلال يجعل واشنطن تبدو وكأنها الدولة الأخيرة التي ما زالت تقف إلى جانب إسرائيل على المسرح الدولي وتبرر جرائمها٬ ضاربة بعرض الحائط كل النداءات الأممية والدولية والإنسانية التي تدعو للضغط على حكومة نتنياهو لوقف حرب الإبادة في غزة وتقويض حلم الدولة الفلسطينية واستهداف دول عربية أخرى مثل لبنان وسوريا.
- والآن يهدد الأمريكيون حلفاءهم الغربيون بعقوبات إذا قرروا المضي قدماً في اعترافهم بالدولة الفلسطينية. وفي رسالة مفتوحة، حذر كبار المشرعين الجمهوريين رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني ورئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، من أن "المضي قدماً في الاعتراف بفلسطين سيضع بلادكم في خلاف مع السياسة والمصالح الأمريكية القائمة منذ فترة طويلة وقد يدعو إلى اتخاذ تدابير عقابية ردًا على ذلك".
- وتم إرسال هذه الرسالة إلى ترامب ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو لمباركتها قبل إرسالها لزعماء هذه الدول. وجاء فيها أيضاً: "هذه سياسة متهورة تُقوّض فرص السلام. وتُرسي سابقةً خطيرةً مفادها أن العنف، وليس الدبلوماسية، هو الوسيلة الأنسب للجماعات الإرهابية، مثل حماس، لتحقيق أهدافها السياسية، إن هذه الجهود المضللة لمكافأة الإرهاب تعرض أمن بلدانكم أيضاً للخطر. يتزامن اقتراح الاعتراف بدولة فلسطينية مع تزايد حاد في النشاط المعادي للسامية في كلٍّ من بلدانكم. يواجه اليهود مضايقات غير مسبوقة، وأصبحت الهجمات ضدهم أمراً شائعاً".
- والشهر الماضي٬ في منشور له تعليقاً على الإعلان الكندي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، صرّح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أن اعتزام كندا الاعتراف بدولة فلسطين سيُصعّب من التوصل إلى اتفاقية تجارية معها. كما ستواصل الولايات المتحدة عرقلة العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة.
- من غير الواضح مستوى "الإجراءات العقابية" التي تلوح بها واشنطن ضد الدول الغربية الأخرى التي اعترفت بالدولة الفلسطينية٬ هذا أمر لا يمكن التنبؤ به في ظل إدارة أمريكية يقودها دونالد ترامب٬ لكن من المؤكد أن التحالف الغربي لم يعد كما كان في السابق وقد نجح ترامب إلى حد كبير في تقويضه بفترتيه الرئاسيتين٬ وأصبح الوضع الآن أكثر سوءاً في ظل التخلي الأمريكي الذي باتت تشعر به أوروبا أمام عدو يتربص بها شرقاً مثل روسيا٬ ولا شك أن الخلاف على الرؤية لحل القضية الفلسطينية ستزيد من تعميق الهوة داخل التحالف الغربي٬ وستجعل الولايات المتحدة دولة يحاول الجميع تحاشيها والابتعاد عنها٬ بسبب استمرار دعمها المطلق لحرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" على الفلسطينيين.