لا يتوقف الاحتلال الإسرائيلي ومليشيات مستوطنيه عن سرقة الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية في عملية يومية مستمرة تتسع بشكل عنيف وخطير، لكن عملية سرقة الأرض وهدم المنازل لا تتوقف عند الضفة، بل يحدث ذات الأمر أراضي الداخل المحتل (48) وإن كانت بشكل مقونن وبطيء.
منذ أن جثم الاحتلال الإسرائيلي على صدر الأراضي الفلسطينية عام 1948، لم يتوقف عن مصادرة الأراضي العربية في الداخل المحتل وتوسيع مساحات المستوطنات على حسابها، حيث هندست دولة الاحتلال العشرات من القوانين المجحفة لمصادرة الأراضي وهدم المنازل ومحاصرة وعزل الأحياء والبلدات العربية، ويبدو أن آخر ضحايا هذا السلب ستكون مدينة أم الفحم التي يقطنها أكثر من 80 ألف مواطن عربي. فما القصة؟
تهديد بهدم المنازل وسلب الأرض في أم الفحم.. ما الذي يحدث؟
- قبل نحو 3 أشهر، فوجئ سكان مدينة أم الفحم العربية في الداخل المحتل بمخطط إسرائيلي جديد يهدد بهدم المنازل ومصادرة أراض من مساحة المدينة الواقعة في شمال فلسطين المحتلة. حيث تعمل سلطات الاحتلال الإسرائيلي على إقامة منطقة عازلة بين مدينة أم الفحم في الداخل المحتل وبين مستوطنة "ميعامي" المقامة على أراضيها.
- وتتحجج وزارة الدفاع الإسرائيلية بـ"اعتبارات أمنية"، حيث طالبت الحكومة بمصادرة هذه المساحة التي تبلغ نحو 2600 دونم، ما يهدد بهدم منازل مأهولة ومصادرة أراض تعود للأهالي في منطقتي عين جرار والعرايش التابعتين لمدينة أم الفحم.
- قبل هذا القرار المفاجئ، كان من المخطط أن يقام في هذه المساحة مشروع عمراني لتطوير أم الفحم يشمل نحو 6000 وحدة سكنية بالإضافة إلى مرافق أخرى وحدائق، حيث كان يُعد هذا المشروع من أبرز المشاريع التخطيطية التي انتظرتها مدينة أم الفحم من سنوات لتوسيع رقعتها العمرانية وتنظيم البناء جنوب المدينة، فيما جاء القرار الأخير من قبل سلطات الاحتلال صادماً للسكان، الذين قالوا إنه يتسم بالعنصرية والفوقية اليهودية ضد المواطن العربي الذي يعاني من نقص في المسكن وتهميش كبير من قبل دولة الاحتلال التي تدعي المساواة بين مختلف السكان.
- ويقول تقرير لصحيفة هآرتس العبرية، إن مباني الأحياء التي ستقوم دولة الاحتلال بهدمها ومصادرتها قديمة نسبيًا، عمرها عقود. وفجر قرار السلطات حالة من الغضب والغليان، حيث تحول حلم تطوير المدينة إلى خيبة أمل مريرة، فحتى وقت قريب، كان هناك اتفاق بين بلدية أم الفحم ووزارة البناء والإسكان و"سلطة أراضي إسرائيل"، والذي بموجبه، كان من المقرر بناء آلاف الشقق الجديدة، إلى جانب مدارس وعيادات ومراكز ثقافية وحدائق، على مساحة 2600 دونم.
- وُقعت هذه الاتفاقية التي طال انتظارها عام 2017 وبعد سنوات طويلة من الإجراءات البيروقراطية المعتادة في إسرائيل ضد المواطن العربي، كانت بلدية أم الفحم على وشك الحصول على الموافقة النهائية، بحسب هآرتس.
- وخلال نقاشٍ في اللجنة الوطنية للتخطيط والبناء العام الماضي، ادّعى ممثلٌ عن وزارة الدفاع الإسرائيلية فجأةً استحالةَ تنفيذ المخطط التطويري دون إنشاء منطقة عازلة بعرض حوالي 80 متراً، تمتدّ لمسافة كيلومتر واحد، وتعزل المدينة عن مستوطنة ميعامي المقامة بالأساس على أراض تم مصادرها من مدينة أم الفحم في ستينيات القرن الماضي، ويسكنها نحو 500 مستوطن إسرائيلي فقط.
- ووفقًا لوزارة الدفاع، يهدف مخطط مصادرة الأراضي لإنشاء منطقة عازلة، بهدف سلامة سكان مستوطنة ميعامي والمسافرين على الطريق السريع 6535 المجاور. والآن قررت وزارة البناء والإسكان الإسرائيلية الاستمرار في المخطط بصيغته الجديدة بعد توصيات وزارة الدفاع. وقُدِّم مؤخرًا للموافقة عليه وفقًا، وفي الأسابيع الأخيرة، قُدِّمت اعتراضات من بلدية أم الفحم وأصحاب المنازل والأراضي في المدينة لكن دون جدوى.
- وفي حال مضي سلطات الاحتلال في هذا المخطط، ستُعتبر عشرات المنازل العربية القائمة الواقعة ضمن المنطقة العازلة المقترحة "مساحة مفتوحة"، وستكون معرضة لخطر المصادرة والهدم.
- وفقًا لبيانات بلدية أم الفحم، يوجد حاليًا حوالي 25 مبنى سكني في هذه المنطقة المهددة بالهدم والمصادرة وتسكنها عشرات العائلات. كما أن لهذه المنطقة أهمية قانونية لأصحاب الأراضي. حيث يقول أحمد جبارين، أحد سكان المدينة، والذي تقع أرضه ضمن المنطقة العازلة المحددة: "كانت قطعة أرضي في مرحلة الموافقة النهائية على الترخيص للتطوير، والآن تظهر في المخطط كمساحة مفتوحة مهددة بالمصادرة، ولذلك سأضطر إلى النضال من أجل البقاء على أرضي التي ورثتها عن أجدادي".
تعزيز الفوقية اليهودية للمستوطن الإسرائيلي على حساب حق المواطن العربي
- يقول محمد حسين محاميد، 64 عامًا، والذي يعيش في المنطقة المهددة بالهدم والمصادرة من قبل سلطان الاحتلال، إن هذا القرار مبني على عنصرية إسرائيلية مُمَأسسة، مضيفاً الخطة المقترحة تُطبّق سياسةً مُتسقةً تجاه المجتمعات العربية المهمشة في "إسرائيل"، والتي تهدف في نهاية المطاف إلى سلب أراضيهم ومنازلهم. ويضيف محاميد لصحيفة هآرتس: "بدلاً من حل أزمة السكن، تلقينا المزيد من القيود والمصادرة في المساحات العامة. هذه خطة سياسية عنصرية لسلب المزيد من أراضينا".
- ويقول رئيس بلدية أم الفحم توفيق جبارين لموقع "عرب 48"، إن هذه المشاريع "تجسد الفوقية اليهودية على المواطنين العرب، ويتجسد معنى أن يكون اليهودي هو السيد والعربي هو الخادم أو الأقل من اليهودي، وهذا المشروع تجسيد حقيقي لما يحصل".
- تقول هآرتس إن سكان مدينة أم الفحم القاطنين في المنطقة العازلة المهددة بالسلب والهدم، يجدون أنفسهم وحيدين وفي مأزق حقيقي. يقول نائل محاميد، أحد سكان المنطقة: "أرضي هي ملكي الوحيد. عملت لسنوات لشرائها وتطويرها، وفجأة أخبروني أنها ستكون أرضاً مصادرة، بلا إمكانية للبناء، ولا تعويضات حقيقية…هذا ليس أمنًا، بل محوٌّ لحقوقنا. اليوم هذه أرضي، وغدًا أرض أبنائي، وإذا انتزعوها منّا، فماذا سنترك لهم؟ لا يُكلّموننا، ولا يسألوننا، بل يرسمون خطوطًا على الخريطة ويقولون: من الآن فصاعدًا، لا شيء لكم".
- في المقابل، يقول سكان مستوطنة ميعامي لصحيفة هآرتس، إنهم يعتقدون أن المنطقة العازلة المقرر إقامتها ضرورية لحماية المستوطنة. وأضاف أحدهم لهآرتس: "خلال عملية "حارس الأسوار" (معركة سيف القدس 2021)، جرت محاولات لاختراق سياج المستوطنة من قبل العرب، ورُشقت بعض الحجارة على المستوطنة. بعد 7 أكتوبر 2023، ازدادت الحاجة إلى هذه المنطقة العازلة.. قد تربطنا علاقات جيدة بسكان أم الفحم. لكن هذه الخطة أمننا مهم أيضاً"، على حد تعبيره.
- وردّت وزارة الدفاع الإسرائيلية على سكان أم الفحم قائلةً: "قدّمت المؤسسة الأمنية الجوانب الأمنية اللازمة للدفع بهذه الخطة، التي تضمن إنشاء طريق آمن وسهل الوصول إليه لحركة قوات الأمن والمدنيين على حد سواء أثناء وقوع حادث أمني. ويتم ذلك من خلال الحفاظ على منطقة عازلة تضمن سلامة السكان".
- أما مجلس مستوطنة ميعامي فقد رفض اتهامات سكان مدينة أم الفحم بالفوقية اليهودية والعنصرية: "يرفض المجلس باشمئزاز ادعاءات بلدية أم الفحم بالعنصرية. ويرى المجلس أن أي عملية تخطيط يجب أن تأخذ في الاعتبار جميع العناصر ذات الصلة، وفي إطار التوازنات اللازمة للحفاظ على سلامة وأمن جميع السكان المتأثرين بالخطة".
- من جهته، عقب رئيس بلدية أم الفحم على الردود التي قدمها مجلس مستوطنة ميعامي بالقول إن "حقيقةً وجود مستوطنة ميعامي هو فقط من أجل التضييق على مدينة أم الفحم ومصادرة أراضيها، وتضييق الخناق على المدينة، ويتم التعامل مع أم الفحم وكأنها تقع في الضفة الغربية، وميعامي هي امتداد لمستوطنات الضفة الغربية".
فلسطينيو 48 والقوانين الإسرائيلية العنصرية
- ومنذ عام 1948 تبنّت إسرائيل سياسة ممنهجة تجاه الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، اعتبرتهم "أقلية خطرة" على كيانها، وسعت عبر الترهيب والمصادرة والهدم إلى دفعهم للرحيل، مع سنّ سلسلة من القوانين لتقنين التمييز والهيمنة. هذه التشريعات استهدفت هويتهم وحقوقهم الأساسية، من اللغة والتعليم إلى الأرض والمواطنة، في محاولة دائمة لفصلهم عن محيطهم العربي وإقصائهم تدريجياً.
- من أبرز هذه القوانين "قانون القومية" (2018) الذي حصر الدولة باليهود وألغى رسمياً مكانة اللغة العربية، و"قانون كمينتس" (2017) الذي سهّل هدم البيوت العربية، إضافة إلى "قانون مكافحة الإرهاب" (2016) الذي يشرعن قمع النشاطات الاحتجاجية، و"قانون الإقصاء" (2016) الذي يستهدف النواب العرب. كذلك جاء "قانون النكبة" (2011) لتجريم إحياء ذكرى التهجير، و"قانون لجان القبول" (2011) لمنع الفلسطينيين من السكن في بلدات يهودية، إلى جانب قوانين الأراضي ولمّ الشمل التي تفتت العائلات وتصادر الأملاك.
- أما القوانين الأقدم، مثل "قانون العودة" (1950) الذي يمنح كل يهودي في العالم حق الهجرة والمواطنة الفورية مقابل حرمان الفلسطينيين من العودة، و"قانون أملاك الغائبين" (1950) الذي شرّع مصادرة أراضي المهجرين، و"قانون الجنسية" (1952) الذي تطور لاحقاً ليتيح إسقاط جنسية الفلسطينيين بذريعة "انعدام الولاء"، فجعلت الفلسطينيين مواطنين من الدرجة الثانية. وبهذا تراكمت مئات التشريعات التي كرّست نظاماً تمييزياً يهدف لتفريغ الأرض من أصحابها وتحويلهم إلى جماعة مهمّشة تحت سلطة استعمارية.
- كما سن الاحتلال قوانين تستهدف حرية التعبير والتنظيم لفلسطينيي الداخل ومنها: قانون مقاطعة المستوطنات (2011): الذي يفرض غرامات ويتيح مقاضاة من يدعو لمقاطعة المستوطنات أو إسرائيل، إضافة إلى قيود على ذكر النكبة وتمويل الفعاليات التي تحييها. وقانون الجمعيات (2016): يستهدف منظمات المجتمع المدني، وغالبًا ما يلاحق الجمعيات الحقوقية الفلسطينية. وكذلك سن الاحتلال قوانين عديدة لـ"تسهيل هدم منازل الفلسطينيين" بذريعة "البناء غير المرخص"، مع تعقيد كبير في منح التراخيص للعرب.
- ويبلغ تعداد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر نحو 2.1 مليون ويمثلون ما يقارب 21% من عدد سكان إسرائيل. وقد تم حصر وجودهم في مناطق معينة نتيجة للحكم العسكري الذي استمر من (1948-1966)، والذي قيّد حركتهم وصادر أراضيهم، إضافة للمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في 1948 وهدفت إلى تهجيرهم من مناطقهم.
- ومنذ عام 1948، صودر أكثر من 90% من أراضي الفلسطينيين في الداخل بموجب "قوانين الغائبين" و"أملاك الدولة"، والتي بموجبها يتم منع توسع البلدات العربية ورفض طلبات البناء حتى الآن. وتتصاعد إجراءات التمييز في ميزانيات التعليم، والخدمات البلدية، والبنية التحتية، مما يكرّس الفجوة بين اليهود والعرب.
- وشهدت دولة الاحتلال بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 موجة جديدة من القوانين والممارسات العقابية الموجهة ضد المواطنين العرب، تحت شعار "حفظ الأمن" أو "منع دعم الإرهاب"، لكنها فعليا زادت من التضييق والتمييز. وبحسب المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل "عدالة" فقد اعتقل مئات الفلسطينيين داخل إسرائيل بسبب التعبير عن الرأي، ومنها معارضة استهداف الهجمات الإسرائيلية للمدنيين الأبرياء، التعبير عن التعاطف مع أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، الحديث عن العقوبات الجماعية وجرائم الحرب وتناقل الأخبار عمّا يحدث في غزة.
- وبشكل عام، يعاني الفلسطينيون في الداخل من الإهمال والتهميش والإفقار ومن الفوضى وانتشار الجريمة، وبحسب التقرير النصفي لعام 2025 لمركز "أمان" المركز العربي لمجتمع آمن، وهو مركز متخصص في حقوق الإنسان لفلسطينيي 1948، فقد ارتفعت للسنة الثالثة على التوالي أعداد ضحايا العنف والجريمة في المجتمع العربي منذ تولّي حكومة نتنياهو الحالية السلطة.