في ظل تصاعد التوترات مع روسيا وتراجع الضمانات الأمريكية في عهد ترامب، تشهد القارة الأوروبية موجة غير مسبوقة من إعادة التسلح، مدفوعةً بسباق محموم لبناء قاعدة صناعية دفاعية مستقلة، حيث أصبحت مصانع الذخيرة والصواريخ الأوروبية تمتد على ملايين الأمتار المربعة، ومعدلات البناء تجاوزت ثلاثة أضعاف ما كان عليه الحال في زمن السلم.
ويبدو أن خطط الدفاع الأوروبية لم تعد حبيسة التصريحات والبيانات السياسية، بل أصبحت مشاهد الحفر والمباني الجديدة وخطوط الإنتاج الحديثة واقعاً ملموساً في أنحاء أوروبا، من ويلز إلى المجر. وتعكس هذه الطفرة الصناعية تحوّلاً جذرياً في عقلية الأمن الأوروبي، حيث لم يعد الانتظار حتى تصل الإمدادات من واشنطن خياراً مقبولاً.
التهديد الروسي والتذبذب الأمريكي يدفع القارة العجوز لمواجهة مسؤولياتها الدفاعية
- تقول تقارير غربية، إن هناك اندفاعة صناعية عسكرية أوروبية، وهي ليست عابرة، بل محاولة لإعادة تشكيل طويلة المدى للبنية التحتية الدفاعية بعد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث ضخّت برامج الاتحاد الأوروبي مثل "ASAP" مئات الملايين من اليورو لتسريع الإنتاج، خاصة في مجال الذخيرة عيار 155 ملم والصواريخ الدفاعية. كما أن شركات دفاعية عملاقة مثل راينميتال، MBDA، وBAE Systems تضاعفت خطوطها الإنتاجية ممؤخراً، إذ يتم توجيه التمويل نحو الطائرات المسيّرة والدفاع الجوي، وقدرات الضربات بعيدة المدى، في محاولة لسد فجوة التفوق مع روسيا.
- تتزامن هذه الاندفاعة مع دعوات أمريكية صريحة لأوروبا لتحمّل مسؤولية أكبر عن أمنها، وهو ما يدفع القارة العجوز للاستقلالية الدفاعية رغم مشاكلها الاقتصادية التي تفاقمت بعد جائحة كورونا واندلاع الحرب في أوكرانيا.
- وخلال الأشهر الماضية، عكفت أكبر القوى العسكرية الكبرى في أوروبا على وضع خطط تتولى بموجبها مسؤوليات الدفاع عن القارة بدلاً من أمريكا، بما في ذلك تقديم عرض لإدارة الرئيس دونالد ترامب لنقل المسؤوليات بشكل منظم على مدى السنوات الخمس إلى العشر المقبلة.
- وجاءت تلك المناقشات في محاولة لتجنب الفوضى التي قد تنجم عن انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو الخوف الذي أثارته التهديدات المتكررة للرئيس ترامب بإضعاف التحالف الذي تولى حماية أوروبا لما يقرب من ثمانية عقود أو الانسحاب منه.
- وتحت الضغط الأمريكي المتكرر، تعهد أعضاء حلف الناتو الأوروبيين بزيادة إنفاقهم الدفاعي ليشكل 5% من إجمالي الناتج المحلي، وذلك خلال اجتماعهم بقمة لاهاي في يونيو/حزيران الماضي. كما تعهد الزعماء الأوروبيين بتوفير دعم طويل الأمد لأوكرانيا وإدراج المساعدات العسكرية لها ضمن الإنفاق الدفاعي، معتبرين روسيا "تهديداً طويل الأمد" لأمن أوروبا والأطلسي، يستلزم رفع وتيرة الصناعات العسكرية والدفاعية الأوروبية.
- ولطالما شكّلت مسألة الدفاع قضية أساسية بين دول القارة العجوز، خاصةً في أعقاب قرار أمريكي سابق بتعليق المساعدات العسكرية لأوكرانيا الشهر الماضي، ومن ثم إعادة بعضها وتعليق أنواع أخرى منها. ورغم مضاعفة إنفاقها الدفاعي تقريباً منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014، فإن الدول الأوروبية كانت تنفق – حتى الشهر الماضي- في المتوسط أقل من 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الهدف الذي حققته 24 دولة عضواً من أصل 32 دولة، في حين تمول الولايات المتحدة ما يقرب من ثلثي الميزانية العسكرية لحلف الناتو.
- ورغم الشكوك في قدرة أوروبا على المضي قدماً في خطة زيادة الانفاق الدفاعي الجديدة بسبب أزماتها الاقتصادية وديونها، فيبدو أن أوروبا لا تملك خياراً آخر، حيث حذرت رئيسة الوزراء الدنماركية ميت فريدريكسن قبل أسابيع من أن روسيا تشكل تهديداً أمنيا حقيقيا للاتحاد الأوروبي بحلول نهاية العقد الحالي، وأنه يجب تعزيز الصناعات الدفاعية في أوروبا وأوكرانيا خلال خمس سنوات استعدادا لذلك.
- وفي كلمة أمام البرلمان الأوروبي بمناسبة بدء ولاية الدنمارك كرئيسة للاتحاد الأوروبي، أعربت فريدريكسن عن أسفها لأن "خفض إنفاقنا الدفاعي في السنوات الثلاثين الماضية كان خطأ فادحاً". وأضافت فريدريكسن لمشرعي الاتحاد الأوروبي أن "تعزيز صناعة الدفاع في أوروبا أولوية قصوى، ويجب أن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا بحلول عام 2030 على أبعد تقدير". وأضافت: "لن نسمح أبداً بأن تجد أوروبا نفسها في موقف لا تستطيع فيه الدفاع عن نفسها".
- في الوقت ذاته، حذر مسؤولون أوروبيون من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد يحاول قريباً اختبار ضمان الأمن المنصوص عليه في المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي – وهو التعهد بأن أي هجوم على أي حليف سيقابل برد فعل جماعي من جانب جميع الدول الأعضاء. ومعظم هذه الدول هي دول الاتحاد الأوروبي.
- فيما قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته إن "روسيا متهمة بأعمال تخريب وهجمات إلكترونية وحملات أخبار كاذبة – إلى حد كبير لإضعاف الدعم الأوروبي لأوكرانيا – وبينما أوروبا ليست الآن في حالة حرب، فإنها ليست في سلام أيضاً".
كيف تستعد أوروبا للحرب؟
- يقول تقرير نشرته حديثاً مجلة "فاينانشيال تايمز" البريطانية إن مصانع الأسلحة في أوروبا أصبحت تتوسع بمعدل ثلاثة أضعاف عن معدلها في زمن السلم، حيث صارت تمتد مؤخراً على مساحة سبعة ملايين متر مربع من التنمية الصناعية الجديدة التي تمثل إعادة التسلح على نطاق تاريخي.
- وقد دخلت أنشطة البناء في مواقع الأسلحة الأوروبية في حالة من النشاط الزائد منذ الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في عام 2022، وفقًا لتحليل أجرته صحيفة فاينانشيال تايمز لبيانات الأقمار الصناعية الرادارية التي تغطي 150 منشأة صناعية تابعة لـ 37 شركة صناعات عسكرية.
- وتُظهِر البيانات أن إحياء الدفاع الذي طال انتظاره في أوروبا، بدأ يتحقق ليس فقط في الخطاب السياسي أو تعهدات الإنفاق، بل وأيضاً في توسيع المصانع وتسريع وتيرة إنتاجها. خصيصاً في ظل بحث العواصم الأوروبية كيفية استدامة عمليات تسليم الأسلحة إلى كييف، فضلاً عن إعادة بناء مخزوناتها الخاصة، ومواجهة تذبذب التزام الولايات المتحدة بالدعم العسكري.
- وباستخدام أكثر من ألف صورة عبر الأقمار الصناعية، تمكنت صحيفة "فاينانشيال تايمز" من تتبع التغييرات في المواقع المرتبطة بإنتاج الذخيرة والصواريخ في أوروبا، وهما نقطتان أساسيتان في دعم الغرب لأوكرانيا. وتشير البيانات إلى أن حوالي ثلث المواقع التي خضعت للمراجعة أظهرت علامات توسع أو أعمال بناء.
مصانع التسليح تتضاعف.. وتغيرات عميقة في البنية الدفاعية الأوروبية
- يشير حجم وانتشار العمل إلى تحول جيلي في إعادة التسلح، مما أدى إلى انتقال أوروبا من الإنتاج في وقت السلم إلى بناء قاعدة صناعية لتوفير قدرة حربية أكثر استدامة. وقال ويليام ألبركي، وهو الباحث في منتدى آسيا والمحيط الهادئ والمدير السابق لمراقبة الأسلحة في حلف شمال الأطلسي: "هذه تغييرات عميقة وبنيوية من شأنها أن تحول صناعة الدفاع على المدى المتوسط إلى الطويل. بمجرد البدء في إنتاج القذائف بكميات كبيرة، تبدأ المعادن والمتفجرات في التدفق، مما يقلل من تكلفة وتعقيد إنتاج الصواريخ".
- ورفضت معظم مجموعات الدفاع التعليق على النتائج، بسبب مخاوف أمنية. وأظهر التحليل الذي أجرته الصحيفة البريطانية أن المساحات التي شهدت تغييرات قفزت من 790 ألف متر مربع في الفترة 2020-2021 إلى 2.8 مليون متر مربع في الفترة 2024-2025. وأكدت صور هذه المواقع أن التغييرات ناجمة عن أعمال الحفر قبل بدء الأعمال، والمباني الجديدة، وتعبيد الطرق الجديدة، وأعمال البناء.
- ومن بين المواقع التي شهدت أكبر قدر من التوسع كان مشروع مشترك بين شركة الدفاع الألمانية العملاقة "راينميتال" وشركة الدفاع الحكومية المجرية N7 Holding، التي قامت ببناء موقع إنتاج ضخم للذخيرة والمتفجرات في فاربالوتا في جنوب المجر. تم الانتهاء من إنشاء أول مصنع في الموقع بالمجر في يوليو 2024، وفقًا لبيان صحفي، لإنتاج ذخيرة 30 ملم لمركبة القتال المشاة KF41 Lynx من شركة Rheinmetall.
- وقال باتريك رومان، المتحدث باسم شركة راينميتال: "لا نستطيع التعليق على المخططات لمرافق الإنتاج الخاصة بنا على صور الأقمار الصناعية لأسباب تتعلق بأمن الشركة". وبحسب الصحيفة سيُنتج الموقع أيضاً أنواعاً أخرى من الذخيرة، بما في ذلك قذائف مدفعية عيار 155 ملم وذخيرة عيار 120 ملم لدبابة ليوبارد 2، وربما دبابة بانثر، وفقًا لشركة راينميتال. كما سيضم الموقع مصنعًا للمتفجرات.
- من جانبه، صرح بايبا برازي، وزير خارجية لاتفيا، لصحيفة "فاينانشيال تايمز" بأن التوسع "تطور إيجابي للغاية وضروري للغاية". لكنه أضاف أنه "من الضروري" أن تكون صناعة الدفاع مستعدة لتلبية احتياجات الإنفاق المتزايد لحلف الناتو واستخدام أموال دافعي الضرائب "بفعالية".
- ويرى مسؤولون أوروبيون أن هناك حاجة إلى برامج مماثلة في مجالات أخرى، مثل تطوير "صواريخ الدفاع الجوي وكذلك المتفجرات العالية لا يتم إنتاجها حاليا إلا بكميات صغيرة للغاية". ويعتقد الخبراء أيضا أن قدرات الضربات بعيدة المدى تظل تشكل قضية خطيرة بالنسبة لأوروبا وحلف شمال الأطلسي على نطاق أوسع، حيث تتفوق روسيا على خصومها في هذا المجال.
- ويقول فابيان هوفمان، الباحث في جامعة أوسلو، إن الصواريخ ضرورية لردعٍ مُقنع ضد القوات البرية الروسية المتفوقة. وأضاف: "الصواريخ هي الشرط الأساسي لنظرية حلف الناتو للنصر، وبدونها لن نواكب وتيرة التعبئة الروسية".