تتفاقم الأزمة بين حكومة بنيامين نتنياهو، والجيش الإسرائيلي الذي تنتابه المخاوف من أن مخطط احتلال غزة قد يورطه في تداعيات استراتيجية، أبرزها تآكل الجيش، والتورط في حكم القطاع.
وفي الأيام التي سبقت إقرار خطة احتلال مدينة غزة، من المجلس الأمني الإسرائيلي، أعرب رئيس أركان الجيش إيال زامير مرارًا وتكرارًا عن مخاوفه من أن السيطرة على غزة من شأنها أن تدفع إسرائيل إلى "ثقب أسود" من الحرب الطويلة، والمسؤولية الإنسانية، وزيادة الخطر على حياة الأسرى الإسرائيليين.
ونقلت صحيفة "الغارديان" عن البروفيسور ياغيل ليفي، رئيس معهد دراسة العلاقات المدنية العسكرية في الجامعة المفتوحة في إسرائيل، أن "الأزمة هي الأشد خطورة في العلاقات بين القيادة السياسية والجيش منذ حرب عام 1948، فلم يسبق لقيادة سياسية أن أجبرت الجيش على تنفيذ عمليات عارضها بشدة".
ومنذ تأسيسه عام 1948، كان الجيش الإسرائيلي أكثر من مجرد منظمة عسكرية، وقد أصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية، وتم اعتباره "مؤسسة مقدسة"، والضامن النهائي لبقاء إسرائيل، بحسب "الغارديان".
ويحذر محللون من أن الصدام بين القيادة العسكرية والحكومة قد تكون له عواقب لا يمكن إصلاحها، وأوضح ليفي أن النزاع بينهما "قد يؤدي إلى تكثيف الاحتجاجات العامة".
ولا تقتصر الأزمة بين الجيش والمستوى السياسي في إسرائيل على القيادة العليا، بل شملت أيضًا مستويات أخرى للجيش نفسه، إذ يرفض عدد متزايد من الجنود العودة إلى غزة.
ووفقًا لهيئة البث الإسرائيلي "كان"، فإن 60% فقط من الجنود يلتحقون بخدمة الاحتياط، ويشمل هذا العدد ما يُسمى بـ"الرفض الرمادي" – أي أولئك الذين يتذرعون بظروف صحية، أو التزامات عائلية، أو يغادرون إسرائيل سرًا خلال فترة التجنيد.
أزمة احتلال غزة تؤثر على العلاقة بين الجيش والحكومة
وخلال الأيام الماضية، اندلعت أزمة جديدة تكشفت الثلاثاء 12 أغسطس/آب 2025، حيث أعلن وزير الجيش يسرائيل كاتس عدم موافقته على سلسلة من التعيينات التي أقرها.
وبعد وقت قصير من بيان الوزير، نشر الجيش الإسرائيلي قائمة المرشحين للترقية التي أقرها زامير، وأوضح الجيش أن "رئيس الأركان هو الجهة الوحيدة المخولة بتعيين القادة برتبة عقيد فما فوق في الجيش"، وأن التعيينات التي تقررت سترسل لاحقًا للمصادقة النهائية من الوزير.
لكن كاتس رد على بيان الجيش بالقول إن "المستوى العسكري يخضع لوزير الجيش وسيعمل وفقًا لتوجيهاته والسياسة التي يحددها".
وقالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إن ما جرى هو "استمرار لعملية الإذلال والإساءة المنهجية لمكانة رئيس الأركان، لأن زامير تجرأ على طرح موقف مختلف بشأن القضايا العسكرية على جدول الأعمال، وفي مقدمتها المعركة في غزة".

ويربط الجيش الإسرائيلي بين مطالبة المستوى السياسي له بتسريع الاستعدادات لاحتلال مدينة غزة وبين المصادقة على التعيينات، معتبرًا إياها "خطوة ابتزازية غير مسبوقة". وتقدر مصادر أمنية أنه رغم أن كاتس هو الذي في الواجهة بهذه المسألة، إلا أن نتنياهو هو من يقف وراءها.
ويعتقد مسؤولون بالجيش أن المؤسسة العسكرية تخشى من فشل عملية احتلال مدينة غزة حتى قبل أن تبدأ.
ولا تقتصر مخاوف الجيش الإسرائيلي فقط على حياة الأسرى الإسرائيليين، بل هناك قضية أعمق تتعلق بالإجابة عن تساؤل: "ماذا بعد احتلال غزة؟"، وخشيته من أن تتحول "السيطرة المؤقتة" إلى "دائمة" تلقي بالعبء على الجيش الإسرائيلي.
ما الذي يخشاه الجيش الإسرائيلي في غزة؟
أولًا: حياة الأسرى الإسرائيليين
في تصريحات سابقة، حذر زامير من أن الخطة الجديدة ستعرض حياة الأسرى الإسرائيليين للخطر، مقترحًا بشكل ساخر استبعاد عودة الأسرى من أهداف الحرب، في إشارة إلى أن العملية ستتسبب في تعريض حياتهم للخطر.
ويقول المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" إن الخطة التي عرضها زامير وتحظى بدعم المؤسسة العسكرية، ولم يتم قبولها في المجلس الأمني المصغر، كانت تهدف إلى تقليل الخطر على حياة الأسرى الإسرائيليين.
ولا يعتبر زامير الرافض الوحيد من المؤسسة الأمنية لخطة نتنياهو، فقد انضم إليه رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، وكذلك رئيس الموساد ديدي برنياع، ونائب رئيس جهاز الشاباك، وكذلك مسؤول ملف الأسرى في الجيش اللواء احتياط نيتسان ألون، والذين جميعهم رفضوا الخطة التي من شأنها تعريض حياة الأسرى والجنود للخطر.
وتشير الوقائع إلى أن العمليات العسكرية في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تتمكن من تحرير أسرى إسرائيليين أحياء إلا في حالتين، وهما في رفح والنصيرات، فيما فشلت عمليات أخرى في تحريرهم وأدت إلى مقتلهم.
ثانيًا: فجوات في عدد المقاتلين والمعدات والخشية من "حرب العصابات"
وأظهر تقييم أجراه الجيش الإسرائيلي وجود فجوات في عدد المقاتلين المطلوبين مقارنةً بما هو متوفر حاليًا، وكذلك في ملاءمة المعدات العسكرية.
وبحسب معطيات الجيش، تبين وجود فجوة تقدر بنحو 10 آلاف جندي، 7 آلاف منهم مقاتلون، و3 آلاف من أفراد الدعم القتالي.
وبالإضافة إلى ذلك، تبين وجود فجوات في قدرات الدبابات وناقلات الجنود المدرعة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى نقص قطع الغيار بسبب "الحظر الصامت على بعض الإمدادات من الخارج" التي تستوردها إسرائيل.
وأوضحت القناة 12 العبرية، أنه على سبيل المثال، يتم استيراد محركات الدبابات وناقل الحركة من ألمانيا التي أعلنت حظر تصدير الأسلحة لإسرائيل بسبب غزة.
كما أنه بعد مرور ما يقرب من عامين على القتال، بات من الواضح أنه من الصعب الحفاظ على الجاهزية الكاملة، وهذا يؤثر على الجداول الزمنية والتخطيط العملياتي، بما في ذلك الاستعداد لعملية محتملة في قطاع غزة التي يطالب بها المستوى السياسي.

وفي هذا الإطار، قال زعيم المعارضة يائير لابيد: "يقول الجيش بأوضح العبارات: ليس لدينا ما يكفي من المقاتلين لتنفيذ المهام للحفاظ على أمن إسرائيل، ونتنياهو في المقابل يواصل الترويج للتهرب الجماعي والتمييز بين الدم والدم".
كما يخشى الجيش الإسرائيلي من استنزافه في ظل "حرب العصابات" التي تعتمدها حركة حماس في قطاع غزة.
وتقول صحيفة "يديعوت أحرونوت" إن حماس عسكريًا غيرت من تكتيكاتها، فقد اختفت الهيكلية التي تعتمد على الألوية والكتائب، واعتمدت الحركة على وحدات صغيرة متنقلة تشن "حرب عصابات" داخل غزة.
ونقلت الصحيفة عن مايكل ميلشتاين، رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز موشيه ديان، أنه منذ منتصف عام 2024، تبنت حركة حماس مبدأ الاستنزاف، فلم يعد الأمر يتعلق بالكتائب، بل بخلايا من ثلاثة أو خمسة أو سبعة مقاتلين على الأكثر، ينفذون الكمائن والهجمات في المناطق.
في هذا الإطار، يقول معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، إن الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب لم يتمكن من تحقيق أهداف الحرب، مضيفًا أن حماس في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أدركت أن السبيل الوحيد لمواجهة آلة الحرب وتجنب الخسائر هو البقاء حتى النهاية، وقد وفر لها التحول إلى "حرب العصابات" حلاً تكتيكيًا.
وذكر المعهد الإسرائيلي أن حماس حولت البنية التحتية تحت الأرض إلى مساحة آمنة من قوات الجيش الإسرائيلي التي وصلت إلى ساحة المعركة في قطاع غزة دون حلول قتالية في هذا المجال.
ويقر المعهد بأن المزايا التكتيكية لحرب العصابات يفتقر إليها الجيش الإسرائيلي، غير القادر على التوصل إلى حل جذري لمشكلة الأنفاق وأسلوب حماس القتالي.
وأكد المعهد أن حركة حماس لم تُهزم عسكريًا، وفي حرب الاستنزاف التي تطورت في غزة، من خلال الأنفاق وحرب العصابات، تمكنت من انتزاع ثمن باهظ من الجيش الإسرائيلي، والحفاظ على 20 أسيرًا حيًا في يديها.
ويشير المراقبون إلى أن "حرب العصابات" التي تعتمدها حركة حماس في غزة قد تتسبب باستنزاف الجيش الإسرائيلي وتآكله، مما يصعّب إكمال مهمته.
ثالثًا: الخشية من تحمل مسؤولية رعاية الغزيين
حاول نتنياهو عرض خطة يتقبلها الجيش الإسرائيلي، حيث قررت الحكومة استخدام كلمة "السيطرة" بدل الاحتلال، لأسباب قانونية تتعلق بالمسؤولية عن السكان المدنيين.
وقد حذر المسؤولون في الجيش من أن خطوة "احتلال غزة" ستتطلب أشهرًا من العملية البرية، ونحو عامين من المسح وتطهير المنطقة، وسيتطلب ذلك نحو أربع إلى ست فرق.
في هذا الإطار، تقول صحيفة "يديعوت أحرونوت" إن المؤسسة الأمنية تخشى فشل محاولة نتنياهو السيطرة على مدينة غزة قبل أن تبدأ.
وقد عقدت أولى جلسات النقاش حول إحدى أكثر القضايا اشتعالًا: إقناع المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، بالتعاون في إنشاء مدينة جديدة للنازحين في جنوب قطاع غزة، على غرار تلك التي أنشأها المجتمع الدولي في المواصي في بداية الحرب.

ويعد هذا مشروعًا ضخمًا وطويل الأمد ومعقدًا، يكلف مئات الملايين من الدولارات، وفي السيناريو الحذر، فإنه إذا نجح الجيش الإسرائيلي في إجلاء نحو 950 ألف غزّي من شمال قطاع غزة لتمكين قواته من المناورة هناك مرة أخرى، فيجب على إسرائيل توفير البنية التحتية الإنسانية الأساسية لهم مسبقًا في المناطق التي سيتم إجلاؤهم إليها، ولن يقوم الجيش الإسرائيلي بذلك بنفسه، لأنه لا يملك آلاف الجنود لهذه المهمة ولا ميزانية ضخمة.
ويعتقد الجيش أن إمكانية احتلال مدينة غزة تعتمد على شخص واحد وهو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي تسعى إسرائيل بموافقته إلى إنشاء مدينة جديدة للنازحين في خان يونس المدمرة.
وإذا رفضت الأمم المتحدة المشاركة في خطوة من شأنها أن تسمح بتنفيذ العملية العسكرية في مدينة غزة مجددًا، فهناك من يوصون بالفعل المؤسسة الأمنية بتجهيز الخطة "ب"، والتي بموجبها سوف يتولى جنود الجيش الإسرائيلي أنفسهم رعاية الصرف الصحي والمياه والإسكان والبنية التحتية الطبية الأساسية لنحو مليون غزّي يجب نقلهم من شمال القطاع إلى الجنوب.
وإلى جانب عدم توفير بديل عن حركة حماس، ورفض نتنياهو لعودة السلطة الفلسطينية، فإن العبء سيكون على الجيش الإسرائيلي كبيرًا، لأن السيطرة على منطقة مكتظة بالسكان ستلزمه قوة عسكرية على المدى الطويل، إلى جانب توفير الاحتياجات المدنية اللازمة للفلسطينيين.