منذ النكبة وحتى حرب غزة.. كيف تشن إسرائيل حرباً على أطفال فلسطين بكل الوسائل وبلا توقف؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/21 الساعة 14:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/21 الساعة 14:14 بتوقيت غرينتش
جثمان طفل فلسطيني ارتقى شهيداً في حضن أمه في غزة، جرّاء قصفٍ شنّه الاحتلال الإسرائيلي -shutterstock

قتل الأطفال ليس سلوكاً طارئاً في سجل الاحتلال الإسرائيلي. فلم يبدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولم يكن وليد هذه الحرب، بل هو جزء من سلوك قديم، يتكرر في كل بلدة وقرية ومخيم منذ نكبة 1948 وحتى اليوم.

أحد هذه الأمثلة وقع في تلك القرية الواقعة بالقرب من القدس، حيث كان يعيش رجل فلسطيني يُدعى ناصر عبد ربه مع زوجته فاطمة. لم تكن الحياة عادية على الإطلاق، فهذه القرية تقع في فلسطين المحتلة، إذ تحيط بالقرية الحواجز الأمنية للاحتلال الإسرائيلي، فيمنع أصحاب الأرض المقيمين من أن يغادروا أو يرجعوا إلى القرية دون تصاريح.

وفي يوم بارد من عام 2001، تحديداً يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول، شعرت السيدة فاطمة بألم المخاض، على الرغم من أن حملها لم يكن قد تجاوز السبعة أشهر، فَهَمَّ على الفور زوجها ناصر بأخذ سيارة صديقه التي ينقل بها الدجاج لإنقاذ زوجته التي كانت تنزف، إلى أقرب مشفى.

وعند وصول السيارة إلى المعبر الأمني، نظر جنود الاحتلال إلى التصاريح، ثم قالوا للزوجين إن هذه الوثائق لا تكفي، ويحتاجان إلى أوراق إضافية. ولم تأخذهم الرحمة حتى ليفكروا للحظة في تلك المرأة التي تنزف أمامهم من أجل أن تأتي بطفل جديد ربما يكون لها كحياة جديدة في عالم سلبها كل شيء، حتى الأرض التي تنزف عليها. لم تأخذ الشفقة، ولو لثوانٍ، أيّاً من الجنود لتنظر بعطف، بل نعتوها "بالسمينة"، وانهالوا على زوجها بأخمص الرشاش.

رغم ذلك، حاول ناصر أن يهدئهم، لكن بلا فائدة، فأخذ زوجته وعاد إلى البيت. ثم حاولا العودة مرة أخرى في سيارة تاكسي على أمل أن يكون الجنود قد هدأوا، فيسمحون لهما بالدخول لإنجاب طفلهما قبل فوات الأوان، لكنهم رفضوا وأخذوا يتضاحكون ويقلدون صوت السيدة فاطمة وهي تتألم. فكانت هذه اللحظة التي وُلد فيها ابنهما، الذي منحاه اسم سلطان، داخل التاكسي، ذلك الطفل الفلسطيني الذي لم يُمهله هذا العالم أكثر من 7 ساعات ليرى المزيد من ظلمه.

توفي سلطان بين يدي أمه بسبب البرد، بعد أن انتظر أبواه طويلاً، بعد محاولات عديدة من المعالجات الطبية التي خضعا لها ليأتيا بطفل ربما يكون لهما حياة في عالم نزع منهما كل أشكال الحياة.

لم يكن سلطان، الطفل الذي بالكاد عاش سبع ساعات، أول ضحية صغيرة يسلبها الاحتلال الإسرائيلي حياتها، ولن يكون الأخير. فقتل الأطفال لم يكن يوماً استثناءً في سلوك جنود الاحتلال، ولا السابع من أكتوبر/تشرين الأول نقطة البداية لنزيف دماء الطفولة الفلسطينية. فقبل شن الاحتلال حرب الإبادة على غزة، وثّق المعهد الفلسطيني للسياسات الصحية، في مسح امتد على مدار عامين، وفاة أكثر من 70 طفلاً فلسطينياً على الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش الإسرائيلية وحدها.

لكن هذا القتل المستمر للأطفال الفلسطينيين، الذي ظل يمرّ بلا محاسبة، تراكم حتى صار هو القاعدة لا الاستثناء. واليوم، وبعد أكثر من 21 شهراً من القصف والحصار، تجاوز عدد الأطفال الذين قتلهم الاحتلال في غزة وحدها الـ18 ألفاً، في واحدة من أكثر الحملات دموية واستهدافاً ممنهجاً للطفولة في التاريخ الحديث.

إسرائيل تقتل الأطفال من أجل مشروعها الاستعماري

منذ احتلال فلسطين، بدأ مسلسل لا يتوقف من العنف يحاصر الفلسطينيين جراء سياسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي استهدفت الشعب الفلسطيني بكل مقدراته ومكوناته وتفاصيله اليومية، من خلال جملة من الممارسات التعسفية، من قتل، وجرح، واعتقال، وتشريد، وإبعاد، وإقامة جبرية، ومصادرة أراضٍ واستيطان، وجدران، وحواجز، وبوابات، واقتحامات، وحظر تجول، وحصار؛ وغيرها من ممارسات ربما لا نُقدّر وحشيتها.

ولم يكن الطفل الفلسطيني بمعزل عن هذه الإجراءات والسياسات التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بل كان في مقدمة ضحاياها، رغم الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق والقوانين الدولية التي تنص على حقوق الأطفال، وفي مقدمتها "اتفاقية حقوق الطفل"، التي تنادي بحق الطفل في الحياة، والحرية، والعيش بمستوى ملائم، والرعاية الصحية، والتعليم، والترفيه، واللعب، والأمن النفسي، والسلام.

إذ لا تأبه إسرائيل على الإطلاق للمجتمع الدولي وقوانينه، وهذا ليس أثناء ممارستها العسكرية فقط، بل دائماً. فمن دون الدخول في ملفات عديدة من الانتهاكات تتسع لها مجلدات، فعلى سبيل المثال: ملف استهداف الأطفال الفلسطينيين، أقرّ الكنيست الإسرائيلي عام 2016 مشروع قانون يسمح بمحاكمة وسجن من هو أقل من 14 عاماً من الأطفال الفلسطينيين الذين يخضعون لقانون الأحداث الإسرائيلي المدني كأطفال القدس. وينص القانون على أن المحكمة تستطيع أن تحاكم أطفالاً ممن بلغوا سن 12 عاماً، لكن عقوبة السجن الفعلية تبدأ بعد بلوغهم سن 14 عاماً، بحيث يصبح سن المسؤولية الجنائية هو 12 عاماً. ويمكن اعتقال طفل والتحقيق معه، وبعد إدانته يُرسل إلى إصلاحية مغلقة، ويبقى فيها إلى أن يبلغ 14 عاماً.

منذ النكبة وحتى حرب غزة.. كيف تشن إسرائيل حرباً على أطفال فلسطين بكل الوسائل وبلا توقف؟
الطفل الفلسطيني فوزي الجنيدي أثناء اعتقاله من قبل قوات الاحتلال – الأناضول

ومنذ أكثر من 21 شهراً، تحولت غزة إلى مقبرة مفتوحة، فمنذ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وصفت منظمة اليونيسف غزة بأنها "مقبرة للأطفال، وجحيم حيّ لكل من تبقى"، حيث لم يعد الموت استثناءً هناك في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة، بل روتيناً يومياً يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على الأطفال قبل غيرهم. فلا مخيمات النزوح، ولا المدارس، ولا البيوت وفرت لهم ملجأ، فالصواريخ الإسرائيلية لم تترك لهم مجالاً للنجاة، إذ أحرقت أجسادهم الصغيرة أحياءً داخل المخيمات، ودفنتهم تحت ركام بيوتهم ومدارسهم. أما من لم يُولدوا بعد، فقد طالتهم النيران وهم أجنة، سُحقوا في أرحام أمهاتهم قبل أن تُمنح لهم فرصة الصراخ في هذه الدنيا ولو مرة واحدة قبل الموت.

وكل ذلك يحدث دون محاسبة، بالإضافة إلى تجاهل من منصات الإعلام الغربية. فحتى عندما يُعترف بوفاتهم، يُختزل أطفال غزة إلى مجرد أرقام في قوائم الخسائر البشرية.

ولا يُسلّط الضوء على هول الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين وأطفالهم كما يجب. فعندما يُقتل الأطفال ولا يُذكرون بأسمائهم، يصبح موتهم عادياً، وتتحول أجسادهم إلى مجرد أرقام في تقارير مكدسة. فبين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و15 يناير/كانون الثاني 2025، شكّل الأطفال ما لا يقل عن 18,000 من أصل 46,707 فلسطينيين قُتلوا في غزة، وفقاً لبيانات وزارة الصحة في غزة آنذاك. وتشير العديد من التقارير إلى أن هذا عدد أقل بكثير من العدد الحقيقي، إذ لا يشمل المفقودين، والآلاف الذين لا يزالون مدفونين تحت الأنقاض.

نتيجة لسياسة التجويع التي يفرضها الاحتلال على أكثر من مليوني إنسان في غزة. فقد منعت إسرائيل دخول أبسط الاحتياجات الأساسية، من الأدوية إلى حليب الأطفال، وفقًا لما وثّقته تقارير أممية في يوليو 2025. وفي ظل هذا الحصار الممنهج، تكشف الأرقام الصادمة أن إسرائيل تقتل طفلًا كل 45 دقيقة – أي ما يعادل فصلًا دراسيًا كاملًا يُمحى من الوجود يوميًا.

في مارس 2024، وصف المفوض العام للأونروا، فيليبي لازاريني، هذه الحرب بأنها " حرب على الأطفال. إنها حرب على طفولتهم ومستقبلهم". وأكد حينها أن عدد الأطفال الذين قُتلوا في غزة خلال أربعة أشهر فقط تجاوز عدد ضحايا الطفولة في جميع حروب العالم خلال السنوات الأربع السابقة مجتمعة.

ومع ذلك، تستمر المذبحة في بث مباشر، بينما يشاهد العالم دون أن يتحرك. لم تُفرض عقوبات تردع الاحتلال الإسرائيلي أو داعميه، ولم يُبدِ المجتمع الدولي إرادة حقيقية للرد، حتى مع صدور مذكرة توقيف دولية بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

منذ النكبة وحتى حرب غزة.. كيف تشن إسرائيل حرباً على أطفال فلسطين بكل الوسائل وبلا توقف؟
الاحتلال يواصل جرائمه بحق المدنيين في قطاع غزة/ رويترز

و لا تزال المحكمة الجنائية الدولية تنظر في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا في ديسمبر 2023، والتي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة. وقد أصدرت المحكمة، في يناير 2024، حكمًا مؤقتًا يفيد بأن للفلسطينيين في غزة "حقوقًا معقولة للحماية من الإبادة الجماعية"، ووضعت مجموعة من التدابير الوقائية الواجب على إسرائيل الالتزام بها. وبالطبع، لا تمتثل لإسرائيل لهذه التدابير، ولا تضع وزناُ لأي قانون دولي.

وخلال كلمتها أمام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في أكتوبر 2024، قالت المقررة الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي إنه من المهم "تسمية الإبادة باسمها". ورغم تأكيدها على الوضع القانوني بحسب المحكمة، أضافت أن إصدار الأحكام بأثر رجعي لا يمنع وقوع الجريمة.

إسرائيل تُبيد الأطفال الفلسطينيين.. والعالم يكتفي بالمشاهدة

ترى الصحفية لينا السعافين، في مقال نُشر على موقع ميدل إيست آي، أن ما يجري في غزة لا يُعد سلسلة من اعتداءات معزولة، بل يُشكّل جزءاً من استراتيجية استيطانية متجذرة، تستخدم قتل الأطفال وتفكيك البنية المجتمعية الفلسطينية كأدوات مركزية في مشروعها الاستعماري.

إذ تقول السعافين: "منذ تأسيس هذا الكيان الاستيطاني عام 1948، لم تتوقف سياسة التطهير العرقي. الإبادة لم تعد نية، بل استراتيجية معلنة. تقليص سكان غزة بات سياسة رسمية."

وترى أن الأطفال في غزة مستهدفون ضمن رؤية استعمارية ديموغرافية، موضحة: "ويمثل مليون طفل في غزة تحدياً ديموغرافياً لمجتمع استيطاني يعلم، في قرارة نفسه، أنه لا ينتمي لهذه الأرض التي لوّثها بدماء أهلها."

وترتبط سياسة القتل الجماعي، وفق تحليلها، بهدف أعمق يتمثل في تعطيل قدرة المجتمع الفلسطيني على البقاء والاستمرار، حيث تضيف: "استهداف الأطفال يؤدي وظيفة أخرى: إنه هجوم ممنهج على 'إعادة إنتاج' المجتمع الفلسطيني."

وتشير إلى أن هذا المشروع لا يقتصر على القتل الفوري، بل يشمل أدوات إبادة بطيئة مبرمجة: "الهدف هو تفكيك الأواصر الاجتماعية، وتدمير بنية المجتمع. هناك إبادة سريعة بالصواريخ، وأخرى بطيئة عبر التجويع، والاعتقال الجماعي، وانهيار النظام الصحي، ما يُحوّل غزة إلى بيئة خصبة للمرض، والأطفال هم الأكثر هشاشة."

ولم يُخفِ قادة الاحتلال نيتهم لإبادة الفلسطينيين وأطفالهم، فمنذ الأيام الأولى للحرب، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت الفلسطينيين في غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، وأمر بقطع المياه والغذاء عنهم.

بينما دعا سياسيون وحاخامات علناً إلى إبادة السكان، بمن فيهم النساء والأطفال. إذ دعا الحاخام الإسرائيلي إيلياهو مالي إلى قتل النساء والأطفال في قطاع غزة، واعتبر أن ذلك يستند إلى تعاليم "الهلاخاه" (الشريعة اليهودية).

أما إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، فصرّح بلا مواربة: "بدلاً من دخول المساعدات، ستهبط المتفجرات." وقد كان، إذ قصف جيش الاحتلال المدنيين بكل أنواع الأسلحة، وارتفعت أعداد الشهداء بوتيرة مرعبة، حتى بلغ معدل قتل الأطفال 100 طفل يومياً في الحرب.

ودافع إيتمار في أكثر من مرة، علناً، عن سياسة جيش الاحتلال في الفتك بالفلسطينيين، قائلاً: "لا يمكننا السماح للنساء والأطفال بالاقتراب من الحدود… كل من يقترب يجب أن يتلقى رصاصة في الرأس."

بينما صرّح نائب رئيس الكنيست، نيسيم فاتوري، بأن "كل طفل يُولد في غزة هو إرهابي منذ لحظة ولادته". بهذا المنطق، تُسحق الطفولة على مرأى ومسمع العالم.

فقد قُتل معظم الأطفال جراء الضربات العسكرية المباشرة، بحسب عدة تقارير. إذ أسقطت إسرائيل ما يُقدَّر بـ85,000 طن من المتفجرات على غزة، مما أدى إلى قتل الفلسطينيين عبر إصابات مباشرة، أو انهيار المباني، أو الحرائق، أو استنشاق مواد سامة. كما أبلغ الأطباء عن أدلة على مقتل أطفال بهجمات بالطائرات المُسيّرة (الدرونز)، وبنيران القناصة، من خلال طلقات في الرأس والصدر.

ومن لم تُدركه صواريخ الاحتلال، كان الجوع والمرض كفيلين بقتله. ففي مارس/آذار 2025، فرضت إسرائيل حصاراً مُطبقاً على قطاع غزة، ومنعت دخول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الغذاء والدواء. وفي الشهر نفسه، حذّرت منظمة اليونيسف من أن أكثر من 31% من الأطفال دون سن الثانية يعانون من سوء تغذية حاد، وسط تصاعد مقلق في وفيات الأطفال نتيجة الجوع.

وفي أبريل/نيسان، نشرت مجلة Frontiers تقريراً أكّد أن أكثر من 90% من أطفال غزة أُصيبوا بأمراض معدية، في ظل انهيار شبه كامل للبنية الصحية، ونقص فادح في الرعاية والدواء.

واليوم، بعد مرور أكثر من 653 يوماً على حرب الإبادة الجماعية، تقول سلطات القطاع إن غزة تقف على أعتاب أكبر مجزرة جوع جماعية في التاريخ الحديث. ففي الـ48 ساعة الأخيرة وحدها، استُشهد 73 طفلاً بسبب الجوع وسوء التغذية المفروضين بشكل مباشر من قبل جيش الاحتلال.

حرب التجويع التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على غزة تقتل عشرات الأطفال خلال الـ48 ساعة الأخيرة – رويترز

وقد أكدت وزارة الصحة في غزة استشهاد أكثر من 900 فلسطيني بسبب الجوع، إلى جانب نحو 6,000 مصاب من أولئك الذين كانوا يبحثون فقط عن لقمة العيش منذ بدء الحرب.

تقول الوزارة إن القطاع يمرّ فعلياً في مرحلة "مجاعة شديدة"، تتجلى في النقص الحاد في المواد الغذائية الأساسية، وتفشّي سوء التغذية، وسط عجز كامل في الإمكانيات الطبية. وتُسجّل الطواقم الصحية يومياً حالات وفاة متتالية، في ظل غياب أي استجابة دولية فعالة.

وفي صباح يوم الأحد، أطلقت سيارات الإسعاف الفلسطينية صافراتها أمام ثلاثة مستشفيات رئيسية في غزة في وقت واحد، في نداء عاجل لتسليط الضوء على أزمة الجوع. ونشرت وزارة الصحة صوراً لأطباء يحملون لافتات ورقية تُحذّر من نقص الدواء وسوء التغذية القاتل لدى الأطفال. وفي شمال غزة، قال مدير مستشفى الشفاء، الدكتور محمد أبو سلمية، إن المستشفى سجّل 79 حالة وفاة بسبب الجوع خلال شهر واحد فقط.

ورغم كل هذه الوحشية، التي تُرتكب علناً وعلى الهواء مباشرة، وبدعم سياسي وعسكري معلن من الولايات المتحدة وعدة حكومات أوروبية، لم يتمكن المجتمع الدولي، بكل مؤسساته وقوانينه ومحاكمه، من وقف آلة الفتك الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في غزة حتى اليوم.

إبادة لا تُرى: كيف تجاهل الإعلام الغربي أبشع جرائم الحرب في غزة؟!

فقبل أسبوع فقط، لم تحظَ جثة الجنين سعيد سامر اللقّة، التي وُثّقت مقطوعة الرأس في تسجيل مصوَّر انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، بأي إشارة في الصحف العالمية. لم تُكتب عنها عناوين، ولم تُفتح بشأنها نقاشات، ولم تُطرح أسئلة. لم تملك هذه الجثة الصغيرة، لجنين لم يُكمل ثمانية أشهر في رحم أمه، أي فرصة لتحريك الضمير العالمي.

مرّت الصورة، على فظاعتها، دون أن تُحدث صدى في كبرى المؤسسات الإعلامية، أو تُثير استنكار قادة العالم. وكأن ما حدث لا يستحق التوقف عنده. لكن هذا التجاهل لم يكن سهواً، بل جزءاً من صمت مؤسسي عميق، استمر لأكثر من عامين، وأتاح لإسرائيل أن تمضي في مشروع إبادة جماعية بلا رقيب.

إذ أشارت عدة تقارير وكتب إلى أن الإعلام الغربي يواصل التعامل مع الإبادة في غزة بمنطق انتقائي مشوَّه، يفتقر إلى أبسط مقومات العدالة المهنية والإنسانية. ورغم ما تدّعيه مؤسساته من موضوعية ومهنية، إلا أن تغطيته للقضية الفلسطينية تظل مرهونة بعدسة استعمارية تُعيد إنتاج الظلم، حيث يُصوَّر العدوان كدفاع مشروع، والنضال من أجل التحرر كإرهاب.

وفي غزة، ظهر هذا التحيّز في تبنّي الرواية الإسرائيلية، ونزع الإنسانية عن الفلسطينيين، وتجاهل تاريخ وسياق القضية الفلسطينية بأكملها.

فمنذ اندلاع حرب الإبادة الوحشية على غزة، يمكن العثور على آلاف الأمثلة التي تُظهر التحيّز الصارخ في الإعلام الغربي. ولنأخذ مثالاً بسيطاً من صحيفة نيويورك تايمز، حيث يقول عنوان: "الحرب والأمراض قد تقتل 85 ألف فلسطيني في غزة خلال ستة أشهر". ببرودٍ مريع، قرر محررو الصحيفة التغاضي عن ذكر أن الكارثة المحتملة من الأمراض ونقص المياه والموت المتفشي نتيجة مباشرة لآلة الحرب الإسرائيلية التي تقصف غزة من البر والجو والبحر، مع حصار خانق يستمر منذ شهور، بل سنوات. وكأن محرري الصحيفة يحاولون تحميل غزة، بمن فيها، وزر ما يحدث، وتبييض وتبرئة المحتل بعدم ذكر اسمه في العنوان.

وفي تحليل كمي لموقع The Intercept، راجع موقع التحقيقات الأميركي أكثر من ألف مقال في ست من كبريات الصحف الأميركية، شملت نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، وغيرها، وخلص إلى أن التغطيات كانت منحازة لـ"إسرائيل"، على الأقل في الأسابيع الأولى للحرب.

والأدهى من ذلك هو طريقة وصفهم في النقل الإخباري، التي تهدف إلى تصوير الضحايا الفلسطينيين "أقل إثارةً للاهتمام". فقد قام عالما البيانات دانا نجار ويان ليتافا، في دراسة، بتحليل ما مجموعه 600 مقال و4000 منشور مباشر على موقع BBC على شبكة الإنترنت، بين السابع من أكتوبر/تشرين الأول والثاني من ديسمبر/كانون الأول، ووجدا تبايناً منهجياً في كيفية التعامل مع الوفيات الفلسطينية والإسرائيلية.

في كتابه "السابع من أكتوبر: تقصّي حقائق وأكاذيب اليوم الذي غيّر العالم"، يقدم الصحافي البلجيكي ميشيل كولون، بالتعاون مع جان بيير بوشي، نقداً إعلامياً دقيقاً لكيفية معالجة الإعلام الأوروبي، وخاصة الناطق بالفرنسية، لهذا اليوم الفارق في تاريخ القضية الفلسطينية. يكشفان في كتابهما عن كثير من النتائج التي توصلا إليها في ما يخصّ التغطية الإعلامية الغربية المشينة للإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل منذ ما يزيد على العام ضد قطاع غزة، قبل أن تتوسّع اليوم لتشمل لبنان واليمن وسوريا والعراق وإيران.

فعبر استعراض مئات المواد المرئية والأرشيفية، يكشف المؤلفان عن تواطؤ هذه المنصات الإعلامية في الترويج لسردية إسرائيلية متحيزة، تصف الفلسطينيين بأنهم معتدون، بينما تُمنح إسرائيل حق الدفاع عن النفس تحت ذريعة "حرب الحضارة ضد البربرية"، كما يروّج بنيامين نتنياهو، المطلوب دولياً بتهم ارتكابه جرائم حرب.

ويشرح الكاتبان كيف أنه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان ذكر الفلسطينيين قد اختفى تقريباً من نشرات الأخبار التلفزيونية الأوروبية، رغم أن عام 2023 قد أصبح بالفعل أكثر الأعوام دموية للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، حيث قُتل ما يقرب من 200 شخص، من بينهم 43 طفلاً وامرأة واحدة، معظمهم بنيران قوات الأمن الإسرائيلية، وثمانية منهم على الأقل على يد مستوطنين. إضافةً إلى ذلك، تم اعتقال واحتجاز أكثر من 2000 فلسطيني في عمليات قاسية شملت مختلف أنحاء الضفة الغربية، وكل ذلك قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

لكن بعد ذلك التاريخ، أصبحت المنصات الغربية منابر لتبرير البشاعات، كما يظهر في تصريحات مثل تلك التي أطلقتها الكاتبة سيلين بينا، التي اعتبرت فيها أن "العاطفة لا يمكن أن تساوي بين الضحايا". وفي مارس/آذار 2024، بينما كانت المجازر تطال آلاف النساء والأطفال الفلسطينيين، خرج الفيلسوف القانوني برنار هنري ليفي ليقول: "نادراً ما رأيت جيشاً مهتماً إلى هذا الحد، في حرب مروعة، بتجنب سقوط ضحايا من المدنيين"، في محاولة لتجميل صورة العدوان الإسرائيلي، رغم مشاهد الإبادة الجماعية التي تُدمي العين.

تحميل المزيد