لم يكن تحول المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف نتيجة ظرف عابر، بل هو مسار طويل ساهمت سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وطموحه السياسي للبقاء في السلطة بأي ثمن في تغذيته.
ومنذ عام 1948، أصبح من الشائع أن تنافس عشرات الأحزاب في الانتخابات، وأن يفوز ما بين 10 و12 حزباً بالتمثيل، وقد حال ذلك دون حصول أي حزب على الأغلبية (61 مقعداً) في الكنيست، وهذا يعني أن حكومات إسرائيل كانت ائتلافاً بين حزبين أو أكثر، عادة ما تشكل بعد فترة مفاوضات مكثفة بين الأحزاب لتحديد أي منها سيشكل الائتلاف.
كيف كانت الخارطة السياسية في إسرائيل؟
وتقليدياً، انقسمت الأحزاب السياسية التي تمثل المجتمع الإسرائيلي إلى أربعة معسكرات أو مجموعات: اليسار، اليمين، الدينية، والعربية، وشكلت الأحزاب التي تدعو إلى سياسات اشتراكية الكتلة اليسارية، وقد كانت أكثر براغماتية في السياسة الخارجية إلى حد ما.
خلال فترة الثمانينيات، كانت الكتلة اليسارية أكثر توجهاً نحو الدبلوماسية في الصراع مع الفلسطينيين، وبحلول التسعينيات ازداد استعدادها للتنازل عن بعض الأراضي على الأقل لدولة فلسطينية، وكان الحزب الرئيسي في هذا المعسكر هو حزب العمل الذي وجد منذ عام 1948 باسم ماباي.
أما معسكر اليمين الإسرائيلي فضم تقليدياً أحزاباً تدعو إلى اقتصاد سوق أكثر حرية وسياسة خارجية أكثر عدوانية، حيث كانت أحزابه أكثر قومية، وكان لبعضها مطالب متطرفة فيما يتعلق بما يُطلق عليه "أرض إسرائيل" والتي تشمل الضفة الغربية وغزة.

منذ ثمانينيات القرن الماضي، رفض هذا المعسكر عموماً أي تسوية إقليمية، واعتبر استخدام القوة السياسة الخارجية الأنسب في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومنذ تأسيسه عام 1973، كان الليكود هو الحزب الرئيسي الذي تدور حوله الأحزاب الأصغر في هذا المعسكر.
كانت الكتلتان الأخريان في إسرائيل أصغر بكثير، ويضم المعسكر الديني الأحزاب اليهودية الأرثوذكسية التي التزم بعضها بطموح "أرض إسرائيل" بقدر التزام الكتلة اليمينية. أما الكتلة العربية فقد ضمت أحزاباً تمثل الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، مع أنها كانت ذات التوجه الماركسي أو الشيوعي، ولم يشهد أي من المعسكرين بروز حزب رئيسي داخل الكتلة.
وقد يكون هناك معسكر خامس من "الأحزاب الوسطية"، ورغم ادعائها بأنها تتوسط بين حزبي العمل والليكود، ويُنظر إليها على هذا الأساس، إلا أنها اتجهت في الغالب نحو اليمين في قضايا تتعلق بعملية السلام والسياسة الأمنية. ومع ذلك، لم يستمر معظم هذه الأحزاب لأكثر من دورة انتخابية واحدة، وفي انتخابات عام 2022، تمكن حزب واحد فقط هو "يش عتيد" برئاسة يائير لابيد من الفوز في الانتخابات.
متى ظهر اليمين السياسي في إسرائيل؟
من عام 1948 إلى عام 1977، اتسمت إسرائيل بنظام الحزب المسيطر، حيث كان حزب ماباي أو العمل يفوز دائماً بأكبر عدد من مقاعد الكنيست، وكان دائماً الشريك الأبرز في الائتلاف.
ولكن في انتخابات عام 1977، حدث زلزال سياسي، فبعد حصوله على 51 مقعداً في انتخابات 1973، حصل حزب العمل على 32 مقعداً فقط، أما حزب الليكود فقد ارتفعت مقاعده من 39 إلى 43 مقعداً.
وقد شجع هذا التراجع الحاد لحزب العمل الأحزاب الأخرى، وخاصة تلك المنتمية إلى المعسكرين اليميني والديني، على اعتبار الليكود شريكاً رئيسياً في الائتلاف.
ورغم أن التنافس بات منحصراً بين حزبي العمل والليكود منذ عام 1977، كان الليكود هو الحزب المتصدر، ورأت الأحزاب الأصغر في اليمين والمعسكر الديني شريكاً أكثر جاذبية من حزب العمل.

وفي عام 2006، ولأول مرة في تاريخ إسرائيل، فاز حزب ثالث، وهو "كاديما"، وتمكن من تشكيل الحكومة، ورغم ادعائه بأنه حزب وسطي، إلا أنه كان منحازاً إلى اليمين في السياسة الخارجية والأمنية.
أما في انتخابات عام 2009، ورغم فوز حزب كاديما بمقعد واحد أكثر من الليكود، تمكن نتنياهو من حشد المزيد من الدعم في الكنيست، وكلّفه الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز بتشكيل الحكومة.
في إطار ذلك، فإن تراجع حزب العمل اليساري أحد أبرز التغييرات الجذرية في السياسة الإسرائيلية، فالحزب الذي قاد تأسيس إسرائيل وقادها خلال العقود الثلاثة الأولى، لم يفز إلا بأربعة مقاعد في انتخابات عام 2022، وهو أقل عدد يحققه أي حزب في الكنيست، ولم يظهر منذ سنوات حزب يساري قادر على المنافسة الحقيقية على السلطة.
كيف تسببت طموحات نتنياهو في جر إسرائيل إلى التطرف؟
يسيطر حزب الليكود ونتنياهو على السلطة منذ عام 2009، مع انقطاع قصير من يونيو/حزيران 2021 إلى ديسمبر/كانون الأول 2022.
لقد تجاوز بالفعل مدة توليه منصب مؤسس إسرائيل، ديفيد بن غوريون، ليصبح رئيس الوزراء الأطول خدمة في دولة الاحتلال عام 2019.
في أوائل عام 2021، صرح نتنياهو أمام وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن رئيس حزب "القوة اليهودية" إيتمار بن غفير لن يشغل أي منصب في حكومته، وأنه غير مؤهل لشغل منصب وزير أو حتى رئيس لجنة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2022، أي قبل أسبوعين تقريباً من انتخابات الكنيست، رفض نتنياهو الصعود إلى منصة احتفالية إذا لم يغادرها بن غفير، فقد كان حريصاً على تجنب الظهور المشترك معه لأغراض انتخابية، لكن الوضع منذ ذلك الحين تغير كثيراً.
فقد تطلبت انتصارات نتنياهو السياسية تنازلات ووعوداً كبيرة، وبينما يسعى للبقاء في السلطة، وصد منافسيه، وتجنب المحاكمة بتهم الفساد، وجد نفسه أمام طرق أبواب التودد إلى أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب الدينية الأصغر حجماً كشركاء ائتلافيين.
ويعود الفضل إلى نتنياهو بأنه رئيس الوزراء الوحيد الذي نجح في تحويل الكاهانيين الذين كانوا في السابق موضع استنكار على هامش السياسة اليمينية في إسرائيل إلى طرف معني بالحكومة.
واضطر إلى وعد هذه الأحزاب بتنازلات واسعة، بما في ذلك الالتزام بتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، وزيادة الدعم للجماعات اليهودية الأرثوذكسية.
وطالب هؤلاء بتقسيم الغنائم، فذهبت الوزارات الأكثر تأثيرًا على حياة الإسرائيليين اليومية (الصحة والإسكان والخدمات الاجتماعية والداخلية) إلى الأحزاب الأرثوذكسية المتشددة.
وأصبح بتسلئيل سموتريتش وزيرًا للمالية؛ وعُيّن آفي ماعوز نائبًا للوزير مسؤولًا عن "وكالة الهوية اليهودية" الجديدة، مع سلطة التدخل في البرامج التعليمية. وعُيّن إيتمار بن غفير، الذي كان موضوع تحقيقات عديدة للشرطة بتهم العنف والتحريض على مدى ثلاثة عقود، مسؤولاً عن "وزارة الأمن القومي" المسماة حديثًا، والتي تتمتع بسلطة على الشرطة الإسرائيلية ومصلحة السجون.
كما ضغط شركاء الائتلاف على نتنياهو لإضعاف النظام القضائي حتى لا يتمكن من فرض رقابة على سلطة الحكومة.
وساعدت التغيرات الديمغرافية في إسرائيل أيضاً على بقاء نتنياهو السياسي، حيث مال الإسرائيليون الأصغر سناً إلى اليمين في السنوات الأخيرة.

فيما أصبح مشهد الكاهنيين وأعضاء شباب التلال المتطرفين، وهم يمارسون حياتهم اليومية في الكنيست، راسخاً الآن، ويذكر موقع (+972) الإسرائيلي أن ذلك انعكاس لمسيرة السياسة الإسرائيلية نحو اليمنية على مدى العقود القليلة الماضية، تسارعت لتصل نحو القاع بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويرى الموقع اليساري أن هذا المسار بدأ منذ تأسيس دولة الاحتلال، فالمتشددون اليمينيون المتطرفون الذين فجروا الفنادق والأسواق قبل عام 1948، والذين حرضوا ضد الانتداب البريطاني والفلسطينيين، اندمجوا بسرعة في مؤسسات الدولة الجديدة من الجيش إلى الكنيست.
فعلى الرغم من أن اليمين الإسرائيلي كان هادئاً نسبياً خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلا أن هذا الاتجاه تزايد مرة أخرى بعد احتلال غزة والضفة عام 1967، حيث ساهم ذلك في ظهور اليمين المتطرف المشبع بحماسة مسيانية.
ومنذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على الأقل، يعرف عدد متزايد من اليهود الإسرائيليين أنفسهم على أنهم متدينون وطنيون، الذين يصوتون للأحزاب اليمينية، ويؤكدون على أهمية الطابع اليهودي لإسرائيل، ويعتقدون أن الغرض من الدولة هو ضمان السيطرة الإسرائيلية على الأرض – لدرجة أن بعض المجموعات الفرعية بين المتدينين الوطنيين ستتحدى سلطة الدولة في القضايا المتعلقة بالتوسع الاستيطاني.
ولا يقتصر التحول في المجتمع الإسرائيلي على ذلك فقط، فقد تراجعت فيه نسبة اليهود الأشكناز، الذين كانوا يشكلون القاعدة الأساسية لحزب العمل، من إجمالي عدد السكان، في مقابل زيادة أعداد اليهود المزراحيم والسفاراديين، والتي تُعتبر في العموم أقرب إلى الليكود اجتماعياً ودينياً.
وفي ظل ذلك، فإن حزب الليكود في عهد نتنياهو شهد تغيرات عدة تسببت في إزاحته نحو اليمين المتطرف، وأصبح لا يختلف كثيراً عن حزب "القوة اليهودية" الذي يقوده إيتمار بن غفير.
وتقول البروفيسورة ليران هيرسغور من كلية العلوم السياسية في جامعة حيفا، إن "الحدود الأيديولوجية والخطابية بين الليكود وحزب القوة اليهودية أصبحت غير واضحة إلى حد كبير في السنوات الأخيرة".
وأضافت في تقرير لصحيفة "هآرتس"، أن عملية التطرف التي يمر بها حزب الليكود ليست فريدة من نوعها في إسرائيل، بل هي جزء من اتجاه عالمي تكتسب فيه قوى اليمين المتطرف، وأحياناً الشعبوية أيضاً، القوة، وتستجيب أحزاب اليمين السائدة لهذا من خلال تبني مواقف متطرفة.
وفي السياق الإسرائيلي، تشير هيرسغور إلى أن الليكود شهد تغييراً في الأجيال والشخصيات، ففي التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، غادرت الحزب شخصيات بارزة أيدت نهجاً أكثر براغماتية تجاه الصراع مع الفلسطينيين.
وفي فترة لاحقة، أصبح الحزب الذي كان يُعرف سابقاً بأنه يميني ليبرالي أكثر هيمنة تدريجياً في الخط الشعبوي والتآمري الذي يقوده نتنياهو، والذي يتضمن هجمات قاسية على النظام القضائي والإعلام والنخب.
وترى هيرسغور أن هناك تفسيراً آخر للتطرف يتمثل في أولويات نتنياهو، حيث أدت مساعيه المستمرة لتعيين مسؤولين منتخبين موالين له شخصياً إلى استبعاد عناصر معتدلة، واستيلاء شخصيات أكثر تطرفاً تدريجياً على السلطة.

وأصبح من يمثّل إسرائيل، بحسب هيرسغور، سياسيون يمثلون خطاً قومياً، وأحياناً عنصرياً ومثيراً للفتنة، وهكذا بعملية مزدوجة من "إقصاء المعتدلين" وتعزيز المتطرفين، أصبح حزبه الليكود يتبنى أفكاراً وأنماط أحزاب اليمين الشعبوي المتطرفة.
ويقول عضو الكنيست جلعاد كاريف في خطاب ألقاه في الكنيست، إن "الكاهانية حلت محل عقيدة جابوتنسكي، وحكومة نتنياهو أصبحت حكومة بن غفير الأولى".
فيما يقول وزير الجيش الأسبق موشيه يعلون، والذي بدأت مسيرته السياسية في حزب الليكود وكان وزيراً في حكومة نتنياهو، إن الأخير أصبح "يتمتع برؤية سموتريتش وبن غفير، الذين يتصرفون على نهج دوف ليور، أيديولوجية التفوق اليهودي".
وهكذا، أصبحت المواقف اليمينية المتطرفة، التي كانت قبل بضعة عقود فقط على هامش السياسة الإسرائيلية، أمراً طبيعياً. واليوم، يُعد وصف المرء بـ"يساري" أو "سمولاني" إهانة في إسرائيل، فالمجتمع اليهودي الإسرائيلي أقل تمسكاً بالقيم الليبرالية والديمقراطية مما كان عليه في الماضي، كما يذكر المعهد الأسترالي للشؤون الدولية.