الجيوش الثقيلة أصبحت هدفاً سهلاً.. كيف انتصرت الطائرات المسيرة على الحشود العسكرية والدبابات؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/06/09 الساعة 06:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/06/05 الساعة 08:13 بتوقيت غرينتش
كيف تهدد الطائرات بدون طيار القوات المسلحة التقليدية وتغيّر شكل الحروب للأبد؟ - عربي بوست

في الأول من يونيو/حزيران 2025، نفّذت أوكرانيا واحدة من أكثر الغارات الجوية جرأة في التاريخ العسكري الحديث، حين انطلقت طائراتها المسيّرة الصغيرة محلية الصنع، من شاحنات داخل العمق الروسي، لتضرب نحو اثنتي عشرة طائرة وقاذفة روسية استراتيجية في قواعدها الجوية. 

العملية التي جمعت بين التخريب التقليدي واستخدام رمز الحرب الأوكرانية الأبرز -الطائرات بدون طيار- كشفت عن تحوّل جوهري في طبيعة المواجهة، مؤكدة أمرين: أن التكنولوجيا المبتكرة قليلة التكلفة قادرة على إحداث ضرر فادح يفوق وزنها العسكري، وأن ميدان الحرب لم يعد يقتصر على المواجهة المباشرة في الجبهات بين الجيوش أو أن الدبابات قادرة على حسم المعارك، حيث غيرت هذه الأسلحة الحديثة وسهلة التصنيع قواعد الاشتباك التقليدية التي سادت طوال القرن الماضي.

هذه الطائرات الرخيصة وسهلة الإنتاج أصبحت عماد الاستراتيجية الأوكرانية، تتحرك بعشرات الآلاف على جانبي الجبهة، ترصد، تجمع معلومات، تهاجم، وتدك مواقع العدو بدقة متناهية، ويمكن أن تعود سالمة للتذخير مجدداً. ولم تعد الطائرات بدون طيار أداة إضافية في ترسانة الجيوش، بل أصبحت عنصراً حاسماً يُعيد تعريف مفهوم القوة العسكرية، خصيصاً أنه يمكن امتلاكها وتطويرها من قبل المجموعات المسلحة. 

وبخفة حركتها، وانخفاض تكلفتها، وفعاليتها القتالية، فرضت المسيرات واقعاً جديداً على الحروب الحديثة، متجاوزة الحاجة إلى الجيوش الضخمة والدبابات الثقيلة، ومقلصة الخسائر البشرية المباشرة.

في مواجهة هذا التهديد المتصاعد، لم تعد أنظمة الدفاع التقليدية وحتى الصواريخ المحمولة على الكتف قادرة على مواكبة هذا الخطر المتنقل. وبدلاً من إنفاق المليارات على تصنيع الدبابات وحاملات الطائرات وقاذفات القنابل الشبحية، تتسابق الدول لاحتواء موجة المسيرات الخارجة عن السيطرة، وسط تساؤلات جدية: كيف يمكن كبح جماح هذا السلاح الثوري البسيط والخطير الذي بات في متناول الجميع، حتى الأفراد والجماعات المسلحة؟

كيف تغير الطائرات بدون طيار الحروب الحديثة؟

  • غيرت الطائرات بدون طيار المستخدمة في الحروب الحديثة ديناميكيات العمليات العسكرية، حيث قدمت مزايا تكتيكية فريدة وعززت الكفاءة التشغيلية في سيناريوهات قتالية مختلفة. وقد استُخدمت الطائرات بدون طيار لأغراض مختلفة، بما في ذلك المراقبة والاستطلاع والضربات الموجهة الانتحارية. بشكل عام، تمثل الأنظمة غير المأهولة تقدماً ثورياً في التكنولوجيا العسكرية، مما يعكس استثماراً وتطويراً كبيراً لها في جميع أنحاء العالم خلال السنوات القادمة على حساب الأسلحة التقليدية والتكتيكات الحربية المعتادة لدى الجيوش.
  • لم تعد الحروب تعتمد فقط على العدد والعتاد الثقيل أو الجيوش المدربة التي يمتلك جنودها بنية عضلية وقتالية قوية، أو الدبابات الضخمة وتسليحها، بل أصبحت التكنولوجيا عاملاً حاسماً في رسم معالم الصراع العسكري خلال العقد الأخير. ومن بين أبرز الأدوات التي غيرت قواعد اللعبة هي الطائرات بدون طيار أو المسيرات، التي باتت تمثل ثورة تقنية في الحروب الحديثة. حيث تعد هذه الطائرات أداة مرنة وفعالة، إذ تجمع بين الكفاءة القتالية والمراوغة، خفض التكلفة، وتجنب الخسائر البشرية المباشرة مما يشكل تحدياً غير مسبوق للجيوش التي لا تزال تنفق أموالاً طائلة على إنتاج أسلحة تقليدية.
طائرة مسيرة توجه ضربة لدبابة روسية في أوكرانيا / رويترز
  • وقد لا يدرك الكثيرون أن أصل الطائرات بدون طيار (UAVs)، المعروفة باسم الطائرات بدون طيار، يعود إلى عقود من الزمان، في حين أن تكنولوجيا الطائرات بدون طيار الحديثة شهدت تطوراً سريعًا في السياقات المدنية والعسكرية على مدى العقود الأربعة الماضية. تمثل الطائرات بدون طيار تقاطع اتجاهين مهمين في التكنولوجيا العسكرية – الطبيعة الدقيقة للأسلحة وصعود الروبوتات التي يتم التحكم بها عن بُعد دون أي خطر على الطيار وقادرة على إيصال حمولة قاتلة.
  • وخلال في العقدين الماضيين، استخدمت الولايات المتحدة الطائرات بدون طيار على نطاق واسع في حروبها بالعراق وسوريا وأفغانستان وباكستان واليمن، مما سلط الضوء على قدرتها على تنفيذ ضربات قاتلة مع تقليل المخاطر. وفي عام 2020، كان التحول البارز في عام الطائرات المسيرة وقدرتها على حسم المعارك لأول مرة، في صراع ناغورنو كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، حيث نجحت الأخيرة بتوجيه ضربات دقيقة والمراقبة المتفوقة لجارتها بواسطة طائرات Bayraktar تركية الصنع، مما أثر بشكل كبير على نتيجة الصراع.
     
  • بعد ذلك، شهدت الحرب في أوكرانيا استخدام واسع النطاق لطائرات بدون طيار أصغر حجماً وأكثر فتكاً من قبل كل من القوات الأوكرانية والروسية لجمع المعلومات الاستخبارية في الوقت الفعلي والاشتباكات القتالية المباشرة، مما يوضح التنوع التكتيكي لهذه الأنظمة في الصراعات المعاصرة. وسمحت التطورات التكنولوجية للطائرات بدون طيار بأن تصبح أصغر حجمًا وأكثر مرونة وقدرة.
  • بحلول عام 2023 وما تلاه أصبح انتشار الطائرات بدون طيار الصغيرة الضاربة، والمجهزة بحمولات صغيرة، قادر على تعطيل الهجمات الروسية. وأثبتت الطائرات بدون طيار الأكبر حجماً التي كانت تستخدم قبل نحو 10 سنوات أو يزيد أنها غير قابلة للبقاء في بيئة دفاع جوي حديثة ومجهزة تجهيزاً جيداً، وبالتالي، أصبح حضورها في ساحات المعارك أقل. 
  • وأصبحت الطائرات بدون طيار الأصغر حجماً التي تم تطويرها محلياً بسرعة وكلفة قليلة قادرة على الصمود رغم محاولات استهدافها، وملأت الفراغ في ساحات المعارك بسرعة على حساب الجيوش والآليات وحاملات القنابل الاستراتيجية بل وحاملات الطائرات التي تكلف مليارات الدولارات. 
  • وأثبتت المواجهة الأمريكية الأخيرة مع جماعة "أنصار الله" الحوثيين في اليمن أن حاملات الطائرات الأمريكية، التي تصل تكلفة الواحدة منها 13 مليار دولار، يمكن تهديدها بأسلحة زهيدة الثمن مثل الطائرات المسيّرة الهجومية. هذه الأسلحة، التي قد لا تتجاوز كلفة بعضها بضعة آلاف من الدولارات، باتت قادرة على إلحاق الضرر بالحاملات، بطائراتها، وبأطقمها. وتُعد هذه الجرأة سابقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ لم يُمس هذا الرمز للتفوق العسكري الأمريكي والهيمنة البحرية طوال 80 عاماً. حيث خسرت البحرية الأمريكية 3 مقاتلات من طراز "إف 18" خلال استهداف حاملة الطائرات "يو أس أس هاري ترومان" من قبل الحوثيين في البحر الأحمر في أبريل/نيسان 2025.

قادرة على إحداث دمار كبير وانكشاف استخباراتي "في جميع الأوقات" 

  • تظهر مقاطع فيديو التي تنتشر كالنار في الهشيم من هذه الطائرات المسيرة موتاً ودماراً هائلًا لحق بالرجال والمعدات في جميع أنحاء العالم، غالباً على نحوٍ يفوق قيمتها الحقيقية، كما رأينا ذلك في أرمينيا وسوريا وليبيا والسودان واليمن وإسرائيل وأوكرانيا وروسيا ومناطق أخرى عديدة. على سبيل المثال، بحلول أوائل عام 2025، كانت الطائرات المسيرة مسؤولة عن ما بين 60% و70% من الأضرار والدمار الذي لحق بالمعدات الروسية في الحرب، وفقًا لمعهد الخدمات المتحدة الملكي في المملكة المتحدة.
  • وقد طوّر الجيش الروسي قوة طائرات مسيرة منافسة، واعتمد على قوة تقليدية في الحرب الإلكترونية لتطوير تقنياته المضادة للطائرات المسيرة. ومع ذلك، لا تزال الطائرات المسيرة الأوكرانية عالية التكيف تكشف عن ثغرات ونقاط ضعف في الدفاعات الروسية. 
  • أصبحت الجيوش وحتى المتقدمة منها تنظر إلى الطائرات المسيرة إلى أنها مشكلة متطورة وأكثر خطورة عاماً بعد عام ومعركة بعد أخرى، وهي تؤكد على مدى "الرعب" الذي قد تشكله الحروب المستقبلية من الناحية الاستخباراتية والقتالية، كما يقول ضابط في الجيش الأمريكي يعمل على تدريب أفراد الخدمة العسكرية على هزيمة أنظمة الطائرات بدون طيار المعادية، في مقابلة مع موقع بيزنس إنسايدر.
  • وأضاف الضابط موسي سودا: "عليك أيضاً أن تفترض أنك مراقب طوال الوقت.. المراقبة المستمرة التي يمكن أن توفرها الطائرات بدون طيار تجبر الجيوش على تغيير كيفية تحركها وعملها عبر ساحة المعركة وتدفع القوات إلى النظر في تدابير جديدة للكشف والحماية".
  • لكن المشكلة من الواضح أنها لا تتوقف عند المراقبة، إذ يمكن لهذه الطائرات أن تحمل مستويات متفاوتة من الحمولات المتفجرة، مما يجعلها قاتلة للغاية، كما شاهدنا ذلك في أوكرانيا وروسيا. ويقول الضابط في الجيش الأمريكي المسؤول عن مبادرة التصدي للطائرات المسيرة: "إذا نظرتَ إلى عقيدة أي جيش حول العالم، ستجد أن من الأمور التي لا ترغب في فعلها هي أن تدع العدو يرى ما تفعله. وهذا ما يُسمى بالحفاظ على الأمن وعنصر المفاجأة.. حسناً، لقد سلبت هذه الطائرات بدون طيار قدرتك على الاختباء بشكل أساسي".
  • أحد الدروس التي يتعلمها الجيش الأمريكي من الخارج، وخاصة في أوكرانيا، هو التركيز المتزايد على تكتيكات التغطية والإخفاء، وهو أمر يتم تدريسه على كل المستويات في معسكرات التدريب، كما قال المقدم آدم شولتز، قائد كتيبة التدريب الأساسية في فورت سيل. وقال شولتز لمجلة "بيزنس إنسايدر" إن قيادة الجيش تعمل على تنفيذ الطائرات بدون طيار في التدريب الأساسي، وتوظيف ممارسات مثل تحليق الطائرات فوق الجنود، الذين يمكنهم بعد ذلك تعلم كيفية الرد على التهديد الجوي والاختفاء منه.. إذا لم تخف نفسك، إذا لم تغطِ نفسك، فإن قدرتك على البقاء على قيد الحياة تنخفض بسرعة كبيرة".
  • يقول موقع بلومبيرغ الأمريكي، إن بعض القادة العسكريين حول العالم فقط يلاحظون هذا الوضع الذي أحدثته الطائرات المسيرة. تستثمر تايوان في طائرات مُسيّرة مُنتجة بكميات كبيرة تحسبًا لصراع مُحتمل مع الصين. وأعادت إسرائيل ضبط نظام الدفاع الجوي "القبة الحديدية" في حرب غزة ولبنان واليمن لاستيعاب الطائرات المُسيّرة القادرة على المناورة، وهي إحدى أكبر نقاط ضعفها.
  • من جهتها، حددت الحكومات الأوروبية، التي تُشرع في أكبر عملية إعادة تسليح لها منذ الحرب الباردة، الطائرات المُسيّرة وأنظمة مُكافحتها كأولوية استثمارية. فيما يتطلع البنتاغون الأمريكي، الذي كان رائدًا في تطوير طائرات مُسيّرة مُتطورة وباهظة الثمن من شركات تصنيع أسلحة كبرى خلال العقدين الماضيين، إلى شراء طائرات مُسيّرة أرخص تُصممها شركات ناشئة وتُنشر بأعداد كبيرة، تماماً كما يفعل الروس والأوكرانيين.

إعادة تشكيل مفهوم الدفاع والهجوم.. وتغيير الجغرافيا السياسية

  • في النهاية، توفر الطائرات بدون طيار الرخيصة والأكثر ديمومة، جنباً إلى جنب مع المركبات المدرعة والمدفعية، مزايا حقيقية للجيوش التي تستخدمها. وتظهر النزاعات الأخيرة التي نشطت فيها المسيرات، أنه حتى الطائرات بدون طيار المتواضعة والرخيصة يمكن أن تساعد في تحقيق انتصارات عسكرية وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية بين الدول كما حدث بين أذربيجان وأرمينيا، وكما يحدث بين روسيا وأوكرانيا. 
  • يعتقد مراقبون منذ فترة طويلة أن الأسلحة الهجومية تزعزع الاستقرار، لأنها تقلل من تكاليف الغزو بينما تثير المخاوف الأمنية بين أهدافها المحتملة. وتأخذ الطائرات المسيرة بدون طيار هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك، إذ تعتبر أقل تكلفة بكثير من الطائرات التي يديرها الطيار البشري، ويمكن للجيوش إرسالها في مهام محفوفة بالمخاطر دون خوف من فقدان الأفراد.
  • علاوةً على ذلك، ونظراً لأن الطائرات بدون طيار رخيصة الثمن، يمكن للدول الحصول عليها بأعداد كبيرة بما يكفي لاجتياح دفاعات الخصم بسرعة. وقد استخدمت الجيوش بالفعل عشرات الطائرات بدون طيار في الحروب الأخيرة، وفي النزاعات المستقبلية من المرجح أن تنشر عشرات الآلاف من المسيرات لتدمير أو إضعاف القوات المعارضة قبل أن تتمكن من الرد.
الحروب تغيرت وعقيدة الجيوش كذلك.. مقاتلون من الجيش الأوكراني يشنون هجمات بطائرات مسيرة عن بعد على قوات روسية – القوات المسلحة الأوكرانية
  • تشير الأدلة من النزاعات والحروب الأخيرة إلى أن الطائرات المسلحة بدون طيار الأساسية قد تكون في الواقع أكثر ديمومة مما كان يُفترض في البداية. إذ أثبتت أنظمة الدفاع الجوي المختلفة التي تمتلكها الجيوش الكبرى٬ مثل منظومتي إس-300 وبانتسير قصيرة المدى الروسيتين، أو القبة الحديدية التي تمتلكها "إسرائيل"٬ أو باتريوت الأمريكية وغيرها٬ أنها ضعيفة بشكل كبير في أوكرانيا وأذربيجان وليبيا وسوريا و"إسرائيل".
  • وغالباً ما تمكنت الطائرات بدون طيار من الإفلات من الكشف الراداري ومن استغلال فجوات التغطية في الأنظمة المنشأة لغرض الاستخدام مع الطائرات العادية الأكبر في الحجم أو الصورايخ الباليستية. ودمرت الطائرات بدون طيار العديد من منظومات بانتسير الروسية في أوكرانيا وليبيا وسوريا وغيرها من المناطق، كما أبادت أنظمة الدفاع الجوي القديمة وتلاعبت بأنظمة الدفاع الحديثة.
  • باختصار، تقول التقارير والتقديرات العسكرية حول العالم٬ إن الطائرات بدون طيار تقوم الآن بتغيير ومراجعة دليل الحروب الحديثة٬ حتى أن الطائرات بدون طيار البسيطة نسبياً اليوم تعد مميتة بما يكفي لقلب الموازين في النزاعات والحروب الإقليمية. ومع قدرات وتكاليف محدودة بشكل مدهش، يمكن للطائرات بدون طيار مساعدة الدول على استغلال الفرص الجديدة في ساحة المعركة لتغيير الجغرافيا.
تحميل المزيد