أي نوع من الوحشية هذا؟ كيف يُفسَّر هذا الانسلاخ التام عن الإنسانية؟ يوماً بعد يوم، تتراكم فصول مجزرة الإبادة في غزة، ومع كل شروق، لا تأتي الشمس إلا محمّلة بمشهد جديد من الرعب في فلسطين. أشلاء لأطفال ونساء، ومن لم ينل من جسده الصواريخ والجوع، يشنق فؤاده، وتتآكل أعصابه، ويظل السؤال معلّقاً في الهواء: كيف يستطيع بشرٌ أن يمضي في هذا السعار الدموي، لا يكتفي بارتكاب الجريمة، بل يتباهى بها، يرويها لأصدقائه في رحلة، ولأطفاله كحكاية ما قبل النوم، ويتشاركها على موائد العائلة كمن يروي نكتة، والمحتوى دائماً: قتل أطفال ونساء فلسطينيين، بدم بارد، وبلا أدنى خجل.
بينما، أمام العالم، يظهر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، متحدثاً لجنوده ومحفزاً لهم بخطب مليئة بالأساطير التوراتية، ليصبغ بها المجازر بصبغة "دينية"، وكأن قتل الفلسطينيين واجب مقدس، لا جرم. إذ لا يرون الفلسطيني إنساناً، بل شيئاً أدنى من البشر، فائضٌ بيولوجي يجب محوه. فهكذا قالها يوآف غالانت، وزير الدفاع السابق والمطلوب للعدالة الدولية بتهم جرائم حرب، بلا تردد ولا حياء: "حيوانات بشرية". لم تكن زلّة لسان، بل تعبيراً صافياً عن عقيدة الاحتلال التي تُدرَّس وتُمارَس وتُنفَّذ.
إذ تشير الدراسات أن هذا العنف يتم ثقله وتحضيره ضمن نظام تعليمي بأكمله، مصمَّم لإنتاج أجيال لا ترى في الفلسطيني إنساناً، وما يُقال على لسان قادة الجيش وجنوده ليس بغريب عن لسان الكثير من شباب الاحتلال، فمنذ أيام، ظهرت فتاة إسرائيلية، بالكاد تجاوزت الطفولة، لتقف أمام الكاميرا بثقة وقحة، وتقول بلغة إنجليزية: "في زمن الحرب، لا يهم من عدوك، يجب أن تُدمّر نسله… حتى لا يُنجب مزيداً منهم." قالتها دون تردد، عند معبر كرم أبو سالم، على مرمى حجر من مليوني إنسان محاصر في غزة، تُقصف مدينتهم كل يوم، ويُدفن أطفالهم تحت الركام. أكثر من خمسين ألف شهيد، بينهم ثمانية وعشرون ألف امرأة. ومع ذلك، لم يساورها الشك، لم يرتجف لها صوت، ولم تهتز لها مشاعر. نطقت بدعوتها للإبادة وكأنها تُعلن خبراً عادياً، ثم مضت.
أكثر من ثمانين يوماً، وجيش تلك الفتاة يمنع الغذاء عن غزة، يحاصرها بالجوع، بعدما أفناها بالقصف.
قد لا يصدمنا هذا المشهد، بعد كل ما رأيناه من وحشية موثقة بالصوت والصورة، لكن السؤال يظل يطارد الضمير: كيف يُربّى بشر على أن يُبيدوا الأبرياء، ثم يحتفلوا بذلك كأنهم أنجزوا "رسالة مقدسة"؟
التعليم كأداة استعمارية لتشكيل الوعي
ربما لا تحتاج الإجابة إلى كثير من الفلسفة، فهي ليست لغزاً، إنها نظام. فالاستعمار الصهيوني الاستيطاني لم يترك الإبادة للجنرالات وحدهم، بل صنع لها ظهيراً تعليمياً راسخاً. من مدارسه الابتدائية حتى الجامعة، يتعلم الإسرائيلي أن العربي خطر وجودي، وأن الفلسطيني دخيل، وقتله ليس جريمة، بل واجب. فلا يُدرَّس الأطفال في مدارس الاحتلال قيم التسامح أو التعايش مع الآخر، بل الكراهية المنظمة، المصاغة في الكتب المدرسية، والمؤطرة بمفردات دينية وتاريخية مضللة، تجعل من القتل فعلاً دفاعياً، ومن الاحتلال "خلاصاً إلهياً".
هذه الحالة الوحشية والفريدة في العالم وثقتها واحدة من داخل إسرائيل نفسها، العالمة اللغوية والمحاضرة في الجامعة العبرية، نوريت بيليد-إلهان، في كتابها "فلسطين في الكتب المدرسية في إسرائيل: الأيديولوجيا والدعاية في التربية والتعليم". درست بيليد-إلهان المناهج الإسرائيلية بدقة، لتكشف كيف يُعد التعليم الإسرائيلي التلاميذ ليكونوا جنوداً مطيعين في جيش الاحتلال متعطشين لإبادة الآخر، على النحو الذي كان معتمداً في النظام التعليمي النازي.
وربما من المفيد معرفة سيرة نوريت بيليد–إلهان. فهي ابنة اللواء ماتي بيليد، أحد مؤسسي "كتلة السلام" في إسرائيل، والرجل الذي شغل موقعاً رفيعاً في جيش الاحتلال. ابنتها، سمدار، قُتلت في تفجير وقع بالقدس المحتلة عام 1997، ولا داعي لذكر أنها تتعرض للمقاطعة الأكاديمية، إذ قالت إن كل من يجرؤ على تحدي الإجماع القومي يُنبذ ويُتهم.
التعليم الإسرائيلي ومحو الفلسطينيين من الكتب المدرسية
لا يحتاج الطفل الإسرائيلي إلى رؤية فلسطيني حتى يكرهه، فقد تعلم مسبقاً أن الفلسطيني ليس إنساناً، بل "مشكلة". فالنظام التعليمي هناك لا يكتفي بتبرير الاستعمار، بل يصنعه من الداخل: يصوغ العقول، يشوه الوعي، ويمحو الآخر من الخريطة واللغة والتاريخ.
من خلال تحليل دقيق لنصوص لفظية وبصرية في عشرين من كتب التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية المعتمدة في المدارس الإسرائيلية، توضّح نوريت بيليد–إلهان أن محو الفلسطيني لا يبدأ من الساحات أو الحدود، بل من داخل الصفوف الأولى في مدارس الأطفال. فالخرائط، ببساطة، لا تعترف بوجود فلسطين: لا أسماء، لا مدن، لا قرى. حتى الناصرة تُمحى، والتجمعات العربية داخل الخط الأخضر تُقدَّم بعبارات مبهمة، مثل "القطاع غير اليهودي". أما الهوية الفلسطينية، فمحوها أكثر مباشرة: فتُلغى من المعجم المدرسي، ولا يُذكر "الفلسطيني" إلا مقروناً بالإرهاب.
إذ تقول بيليد-إلهان في كتابها: "غالباً ما يُصوَّر الفلسطينيون غير المواطنين في الأراضي المحتلة على أنهم إرهابيون، وهذا التصوير يعزز السياسة، المقدمة في الكتب المدرسية على أنها ضرورة متفق عليها، للسيطرة المستمرة وتقييد الحركة وحتى الاغتيالات خارج نطاق القضاء".
وهكذا، حين لا ترى طفلاً عربياً على الخريطة، يصبح لاحقاً أسهل قصفه، دون أن يرف جفن، ودون أن يُثار سؤال. ويؤكد الباحث إسماعيل أبو سعد هذا الاتجاه في دراسة له، مشيراً إلى أن النظام التعليمي الإسرائيلي صيغ قانونياً لخدمة المشروع الصهيوني، إذ يُلزِم المدارس بغرس الثقافة الصهيونية كحقيقة مطلقة. في المقابل، تقوم السياسات التربوية على ترسيخ نظرة دونية للفلسطيني، وزرع مواقف عنصرية في ذهن الطالب الإسرائيلي تُصوّر العرب كعنصر متخلف وتهديد دائم، ديموغرافي وأمني.
في أحد كتب الجغرافيا، تُناقَش ما تُسمّى "العوامل التي تعيق تطور القرى العربية"، وتُقدَّم القرى وكأنها بقع بعيدة، معزولة، ويرفض أهلها التطور أو أي سبل التحديث والتكنولوجيا. طرقها وعرة، تفتقر إلى الخدمات الأساسية، بالكاد تتصل بالكهرباء أو المياه. وكأننا نتحدث عن قارة نائية، لا عن أرض أصغر من ولاية أمريكية!

إذ لا يقتصر الأمر على إقصاء الفلسطيني من الحاضر، بل يُحمَّل أيضاً وزر واقعه وقمعه تحت يد الاحتلال، ويُعرض ذلك للطفل الإسرائيلي في صورة استشراقية سطحية، توحي بأن ما يعيشه الفلسطيني ليس نتيجة سياسات عنصرية وأسلحة فتاكة، بل انعكاس "طبيعي" لطبيعته العربية التي تُصوَّر على أنها ترفض التطور، فيُصوَّر في الكتب المدرسية لا كضحية، بل كمن جرّ على نفسه مأساته. وهكذا، تُغرس المنهجية الاستعمارية مبكراً في المدارس الإسرائيلية — لا كوجهة نظر، بل كحقيقة مدرسية، تُلقَّن على أنها الواقع الوحيد الممكن.
عنصرية مصقولة على هيئة مناهج
وتوضح بيليد–إلهان أن الكتب المدرسية الإسرائيلية تصوّر المجتمع العربي كـ"تقليدي"، منغلق، لا يسهم في الصالح العام، ويرفض الحداثة بطبيعته. هذا التصوير لا يكتفي بتشويه الحاضر، بل يُراكم نظرة عنصرية بنيوية ترى في العربي تهديداً مستمراً يجب الحدّ منه. وهكذا، يُبنى التبرير النظري للقتل: فإذا كان وجود الفلسطيني خطراً، يصبح قتله ضرورة أمنية، بمنطق أن هذا ليس فعلاً عنيفاً، بل إجراء دفاعي مشروع.
وتتابع بيليد–إلهان توصيفها لما يتعلمه الطفل الإسرائيلي عن "العربي" في الكتب المدرسية. لا يُقدَّم كإنسان حقيقي، بل ككاريكاتير ساخر يركب جملاً ويرتدي "ثوب علي بابا". تقول: "يصفونهم بأنهم حقيرون، ومنحرفون، ومجرمون. أناس لا يدفعون الضرائب، يعيشون على نفقة الدولة، لا يريدون التطور. لا يُصوَّرون إلا كلاجئين، مزارعين بدائيين، أو إرهابيين. لا ترى طفلاً فلسطينياً، أو طبيباً، أو معلماً، أو مهندساً، أو حتى مزارعاً عصرياً." تؤكد أنها، رغم مراجعتها لمئات الكتب، لم تجد صورة واحدة لعربي يظهر كإنسان عادي. الصورة الوحيدة المتاحة هي صورة العدو، أو المتخلّف، أو العبء.
وفي نفس السياق، أجرت الباحثة الإسرائيلية أدير كوهين، التي أخضعت للبحث المناهج الإسرائيلية من الصف الرابع إلى الصف السادس، دراسة موسّعة حول تمثيلات العرب في أدب الأطفال الإسرائيلي، حملت عنواناً لافتاً: "وجه قبيح في المرآة: الصور النمطية القومية في أدب الأطفال العبري" (An Ugly Face in the Mirror: National Stereotypes in Hebrew Children's Literature). حللت كوهين أكثر من 500 عمل موجَّه للأطفال، وتوصّلت إلى نتيجة مقلقة: الغالبية الساحقة من هذه الأعمال تصوّر العرب والفلسطينيين بصفات سلبية متكررة — "مجرمون"، "إرهابيون"، "خاطفو أطفال". وفي كثير من الأحيان، يُجرَّد العربي من إنسانيته تماماً من خلال تشبيهات حيوانية: "كلاب متعطشة للدم"، "ذئاب مفترسة"، "أفاعٍ".
وقد أوضحت كوهين أن هذه الصور ليست مجرد رموز، بل تُشكّل وعياً عدائياً راسخاً لدى الأطفال. إذ تشير بيانات دراستها إلى أن ما لا يقل عن 80% من طلاب المدارس الإسرائيلية يرون العربي قذراً وصاحب وجه متسخ، بينما يعتقد 90% منهم أن الفلسطينيين لا يملكون حقاً في العيش على هذه الأرض.
أما الأخطر، كما تشير بيليد–إلهان، فهو ما يتعلق بالسرد التاريخي لأحداث النكبة، التي قامت على أنقاضها دولة الاحتلال عام 1948، وهُجّر خلالها مئات الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم التي نُهبت. فالكتب لا تنكر المجازر، لكنها تُقدّمها كضرورة تاريخية. لا يُطرح قتل الفلسطينيين كجريمة، بل كخطوة "مفيدة" لبقاء الدولة الناشئة. تقول: "في الكتب المدرسية، تُصوَّر مجزرة دير ياسين كمثال. لم يُخفوا أنها كانت مذبحة مروعة نفذها جنود إسرائيليون. لكن الرسالة التي يتلقاها الطالب أن هذه المذبحة دفعت العرب إلى النزوح الجماعي، ومهّدت الطريق لإقامة دولة يهودية ذات أغلبية يهودية. لذلك، كانت مفيدة. ربما مؤسفة، لكن نتائجها كانت إيجابية لنا."
بهذا الشكل، لا يُربّى الطفل على إنكار القتل، بل على تقبّله. ليس بوصفه ضرورة ظرفية، بل كأداة تأسيس، وشرط لولادة الدولة. العنف، من منظور الكتب، لم يكن خطأً… بل كان جزءاً من الصواب.
هذا النمط في التفكير ليس انحرافاً عارضاً في المنهج، بل ربما امتداد مباشر لعقيدة المؤسسين أنفسهم. فكما يوضح المؤرخ إيلان بابيه في كتابه "فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة"، يكشف بابيه وقائع صادمة تُظهر كيف كان قادة المشروع الصهيوني، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تحرق اليهود، منشغلين لا بإنقاذهم من المحرقة، بل بضمان نجاح المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
إذ ينقل بابيه عن دافيد بن غوريون، مؤسس دولة الاحتلال الإسرائيلي، قوله: "لو خُيّرت بين إنقاذ جميع أطفال ألمانيا (اليهود) عبر نقلهم إلى إنجلترا، أو إنقاذ نصفهم عبر نقلهم إلى فلسطين، لاخترت نقلهم إلى فلسطين، ذلك لأن مسؤوليتنا تجاه الشعب اليهودي بأكمله أكبر من مسؤوليتنا تجاه هؤلاء الأطفال".
تصف نوريت بيليد–إلهان ما كشفته في بحثها بالكتب المدرسية الإسرائيلية بأنه ليس مجرد عنصرية، بل عنصرية ممنهجة تُعدّ الشباب الإسرائيلي للخدمة العسكرية. ففي مقابلة لها مع صحيفة الجارديان، تقول بوضوح إن الأطفال الإسرائيليين "يكبرون ليخدموا في الجيش"، ويتشربون رسالة مستمرة مفادها: "أشخاص يمكن الاستغناء عن حياتهم دون عقاب. وليس هذا فحسب، بل أشخاص يجب تقليص عددهم".
هذا هو جوهر العملية التعليمية في إسرائيل: تعبئة أيديولوجية طويلة المدى، تبدأ من الحصص الدراسية وتنتهي بالتحاق الشاب أو الشابة بالجيش في سن الثامنة عشرة، بعد 12 عاماً من التكوين النفسي والمعرفي المُعد مسبقاً.
فحين يكون الشاب قد تشبّع طوال طفولته ومراهقته بصور تجرّد الفلسطيني من إنسانيته، يصبح من السهل عليه أن يمارس أبشع صنوف العنف دون شعور بالذنب أو الشك. لقد رأينا ترجمة ذلك في غزة؛ ففي كل حرب على غزة، تسارع وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى استحضار المفردات التعليمية نفسها: غزة وكر للإرهاب يجب "تطهيره"، الفلسطينيون هناك "لا يحبون الحياة"، ويستخدمون أطفالهم "دروعاً بشرية"، إلى آخر هذه السرديات التي تشربها المجتمع في الكتب وقاعات الدرس. لذلك نرى نسبة كبيرة من الجمهور الإسرائيلي – عبر عقود – تؤيد بضراوة العمليات العسكرية الساحقة ضد الفلسطينيين.
الجامعات الإسرائيلية.. مستوطنات علمية في خدمة الصهيونية
لذلك، لا عجب أن كثيراً من الشباب الإسرائيلي، حتى بعد دخولهم الجامعات — وهي المرحلة التي يُفترض أن تكون مخاضاً للشك والمراجعة — لا تساورهم تساؤلات حقيقية حول الاحتلال، أو العنصرية، أو حقيقة الشعب الفلسطيني الذي يعيش حولهم. قد يظن البعض أن التحريض الممنهج يتوقف عند عتبة المدرسة، لكن الواقع أن مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية نفسها منخرطة بعمق في دعم منظومة الاحتلال والفصل العنصري، وخدمة الرواية الصهيونية والأساطير التوراتية.
فعلى عكس الصورة التي تُسوَّق لها كـ"واحات ليبرالية للبحث الحر"، تلعب الجامعات الإسرائيلية دوراً حيوياً في دعم بنية السيطرة والقمع. ومنذ عام 2004، تؤكد "حملة المقاطعة الأكاديمية" (PACBI) أن هذه الجامعات كانت، ولا تزال، طرفاً فاعلاً في تخطيط سياسات الاحتلال، وتنفيذها، وتبريرها معرفياً وأخلاقياً. فهي ليست خارج النظام القمعي، بل جزء أصيل منه.
وطوال عقود، نسجت الجامعات علاقات وثيقة مع المؤسسة العسكرية والأمنية: احتضنت مشاريع بحثية لتطوير تقنيات التجسس والأسلحة، وقدّمت نظريات أمنية دعمت التوسع الاستيطاني، واستفادت مالياً من ميزانيات الجيش والمخابرات.
وتؤكد الباحثة مايا ويند في كتابها "أبراج العاج والفولاذ: كيف تنكر الجامعات الإسرائيلية حرية الفلسطينيين"، أن الأكاديميا والجامعات الإسرائيلية لم تكن يوماً محايدة، فقد تأسست دولة إسرائيل نفسها على التهجير الجماعي للفلسطينيين، بهدف خلق أغلبية يهودية تبرّر وجود "دولة يهودية". "انخرطت الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية في هذا المشروع الاستيطاني الاستعماري القائم على الإبادة والاستبدال. بل حتى قبل تأسيس إسرائيل، أسست الحركة الصهيونية ثلاث جامعات، كانت تهدف صراحةً إلى خدمة أهدافها الإقليمية في فلسطين."
ففي عام 1918، تأسست الجامعة العبرية على قمة جبل المشارف، لا فقط كمؤسسة علمية، بل كمركز رمزي واستراتيجي للمطالبة بالقدس، وموقع لصياغة هوية جماعية يهودية صهيونية جديدة. وبالمثل، أُنشئ معهد التخنيون في حيفا ومعهد وايزمان في رحوفوت لتعزيز التقدم العلمي والتكنولوجي، بما يخدم رؤية دولة يهودية مزروعة في فلسطين التاريخية.

وتذكر مايا، في كتابها، أنه في الفترة التي سبقت حرب عام 1948، لم تكن هذه المؤسسات التعليمية بعيدة عن ميدان الإبادة؛ بل جُنّدت مباشرة لدعم التهجير القسري الذي مهّد للتوسع الإقليمي الصهيوني. وأنشأت "الهاغاناه"، العصابة الصهيونية التي ارتكبت المجازر بحق الفلسطينيين والتي ستصبح نواة جيش الاحتلال لاحقاً، "فيلق العلوم"، وافتتحت له قواعد داخل الجامعات الثلاث، و"طوال حرب عام 1948، ساهمت الجامعات في دعم التهجير الجماعي للفلسطينيين لإقامة دولة إسرائيل. طوّر أعضاء هيئة التدريس والطلاب وصنعوا الأسلحة، حيث وُضِعت جامعاتهم ومعدّاتهم وخبراتهم في خدمة الميليشيات الصهيونية التي طردت الفلسطينيين من أراضيهم."
مع إعلان الاحتلال عن تأسيس دولته، استمر المشروع الديموغرافي الاستبدالي تحت اسم رسمي: "التهويد". وبحلول أواخر الستينيات، توسّع هذا البرنامج ليشمل التعليم العالي. تأسست جامعات جديدة لتكون أدوات مباشرة لتعزيز الهيمنة الجغرافية والسيطرة الديموغرافية. لم تكن هذه المؤسسات مجرد مراكز علم، بل بُنيت كمواقع استراتيجية لترسيخ الاستيطان، وتعزيز الحصار المفروض على الفلسطينيين.
وتشير مايا إلى أن احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، بما فيها القدس الشرقية، عام 1967، فتح فصلاً جديداً في علاقة الأكاديميا بالمشروع العسكري الإسرائيلي. أصبح مطلوباً إنتاج معرفة جديدة، تخدم السيطرة على أراضٍ جديدة، وتدير التمييز بين المستوطنين اليهود والرعايا الفلسطينيين الخاضعين للحكم العسكري.
فبعد عام 1967، فرضت الجامعات الإسرائيلية واقعاً ملموساً من خلال بناء مستوطنات يهودية دائمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وسّعت الجامعة العبرية حرمها الجامعي في جبل المشارف ليشمل القدس الشرقية المحتلة، و"في أكبر مدينة ذات أغلبية فلسطينية، الجليل، أنشأت إسرائيل جامعة حيفا ومنحتها الاعتماد الكامل في عام 1972. وفي العام نفسه، بنت إسرائيل جامعة بن غوريون في وسط النقب، المنطقة المعروفة في إسرائيل باسم النقب، وهي المنطقة الأقل كثافة سكانية من اليهود الإسرائيليين." بينما حصلت جامعة أريئيل على الاعتماد الكامل عام 2012 كأحدث جامعة إسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة.
من قاعات المحاضرات إلى مختبر الإبادة
لم تكن هذه المؤسسات مجرد منصات تعليم، بل ركائز مدروسة لهندسة ديموغرافية ممتدة، ولعمليات تهجير منظمة. وقد اندفعت التخصصات الأكاديمية لخدمة هذا المشروع: الدراسات القانونية، الآثار، ودراسات الشرق الأوسط، كلها وُظّفت لإنتاج معرفة تدعم الاحتلال، وتمنح غطاءً معرفياً لنظام الفصل العنصري.
بل إن التعاون مع جيش الاحتلال الإسرائيلي لم يقتصر على التأييد النظري، بل وُجّه في كثير من الأحيان نحو التطبيقات العسكرية المباشرة. صمّمت الجامعات الإسرائيلية – ولا تزال تُدير – برامج أكاديمية مُصمّمة خصيصاً لتدريب الجنود وقوات الأمن على أداء مهامهم وتعزيز عملياتهم.
وقد تزامن تطور التعليم العالي الإسرائيلي مع صعود الصناعات العسكرية الإسرائيلية، ولا تزال الجامعات الإسرائيلية تدعمها. هذا التداخل تعمّق مع صعود الصناعات العسكرية في إسرائيل؛ فعلى سبيل المثال، شركتا "رافائيل" و"صناعات الفضاء الإسرائيلية" — من أكبر منتجي الأسلحة في إسرائيل — نما نفوذهما بدعم مباشر من هذه الجامعات. واليوم، لا تزال العلاقة قائمة: تُنتج الجامعات التكنولوجيا، يختبرها الجيش ميدانياً على الفلسطينيين، ثم تُسوَّق عالمياً كأنظمة "مُجرّبة في المعارك".
مع شنّ الجيش الإسرائيلي حرب الإبادة في غزة، لم تقف الجامعات موقف المتفرج. لم تُصدم، ولم تصمت، بل انخرطت في تبرير الحرب والدفاع عنها، مسخّرة منصاتها البحثية والإعلامية لخدمة الرواية الرسمية للاحتلال. تحرّكت المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية بسرعة لتدعيم خطاب حكومة الاحتلال، فجُنّدت المعاهد والخبراء لإنتاج محتوى دعائي موجه للخارج "هاسبارا" باللغات الأجنبية لتبرير التطهير العرقي في غزة أمام الرأي العام العالمي. كما انبرى قانونيون مرتبطون بكليات الحقوق لصياغة مرافعات تحاول تبييض جرائم الحرب الإسرائيلية ومنحها غطاءً قانونياً شكلياً.

ليس هذا فحسب، بل إن بعض الجامعات راحت تكافئ جنود الاحتياط العائدين من ساحات الإبادة في غزة عبر منحهم امتيازات خاصة، مثل منح دراسية وساعات دراسية معتمدة. وهكذا، تحوّل قتل الفلسطينيين — بكل ما فيه من عنف وتجريد ودم — إلى نشاط طلابي معترف به، بل يحظى بالتقدير داخل الحرم الجامعي الإسرائيلي.
في المقابل، دمّر الاحتلال جميع جامعات غزة بشكل غير مسبوق. تم قصف المباني الجامعية، والمختبرات، وقاعات المحاضرات، والمكتبات، والمدارس، وسُوّيت بالأرض، وضاعت مجموعات كتب ومخطوطات وأبحاث عقود بأكملها. لقد أُبيدت حياة أكاديمية كاملة في لحظات — وهو ما وصفته الباحثة كارما نبولسي بمصطلح "الإبادة المعرفية (Scholasticide)"، باعتبار استهداف التعليم جزءاً جوهرياً من إبادة الشعب الفلسطيني. وبالطبع، لم يصدر عن أي جامعة إسرائيلية، ولا حتى من باب الادّعاء الأخلاقي، نداء واحد لوقف هذا التدمير المتعمد لمؤسسات التعليم الفلسطينية.
لقد خدمت المدارس والجامعات الإسرائيلية مشروع الاحتلال كما خدمته الدبابة والطائرة. فبينما كانت الآلة العسكرية للاحتلال تجتاح الأرض وأجساد الفلسطينيين، كانت آلة التعليم تهندس عقلية الاحتلال في مدارسها.