رغم إعلان مؤسسة "إغاثة غزة" المدعومة أمريكياً عن بدء إيصال المساعدات إلى الفلسطينيين في قطاع غزة، الإثنين 26 مايو/أيار 2025، إلا أن الوقائع على الأرض تثبت عكس ذلك، بحسب مصادر لـ"عربي بوست"، التي أكدت تجاوباً محدوداً من المواطنين للتعاطي مع الخطة الجديدة، مع اعتقال عددٍ منهم.
يأتي ذلك بينما يعاني سكان القطاع من أزمة غذائية غير مسبوقة، بعدما فرض الاحتلال حصاراً موسعاً على غزة، ومنع دخول المساعدات الإنسانية منذ الثاني من مارس/آذار الماضي، بعد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تم التوصل إليه بين حماس وإسرائيل في 17 يناير/كانون الثاني الماضي، بسبب تعنت إسرائيل ورفضها المضي قدماً في تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق.
وإلى جانب رفض المؤسسات الأممية والإغاثية المشاركة في الخطة الأمريكية، لأنها تقوض عمل المنظمات الدولية، و"مسيسة"، وتفتقر إلى الشفافية، فإن مؤسسة "إغاثة غزة" اصطدمت بالعديد من المعيقات بالتزامن مع إعلانها بدء تنفيذ الخطة.
أزمة في مؤسسة إغاثة غزة
واصطدمت المؤسسة المدعومة أمريكياً باستقالة مديرها التنفيذي جيك وود من منصبه، وذلك قبل يوم واحد من بدء عملية التوزيع المجدولة، قائلاً إن عمليات المؤسسة المرتقبة "لا تتوافق مع المبادئ الإنسانية".
وأوضح العسكري الأمريكي السابق جيك وود أنه لا يستطيع التوفيق بين عمليات المؤسسة – لم تبدأ بعد – والمبادئ الإنسانية المتمثلة في الإنسانية، والحياد، والنزاهة، والاستقلالية.
ونقلت صحيفة "هآرتس" عن وود في بيان استقالته أنه "عندما جرى التواصل معه لقيادة المؤسسة، كانت مؤسسة غزة للمساعدات الإنسانية مفهوماً فضفاضاً، ومجموعة أفكار من مجموعة واسعة من الأطراف".

ولفت إلى أن هدفه من قيادة المؤسسة كان تحويل المبادرة إلى "كيان إنساني مستقل فعلاً"، موضحاً أنه "وضع خطة عملية تراعي الاحتياجات الأمنية، لكنها غير قابلة للتنفيذ".
أزمة في آلية توزيع المساعدات
وكان من المفترض أن تباشر مؤسسة "إغاثة غزة" عملها الأحد، وذكرت أن التأخير يعود إلى مشكلة لوجستية.
وفي بيانها الإثنين، قالت مؤسسة "إغاثة غزة" إنه سيتم إدخال قوافل المساعدات خلال الـ24 ساعة، مع توقع زيادة نطاق المساعدات.
وبحسب الخطة، فإنه سيتم توزيع المساعدات في أربعة مراكز، ثلاثة منها في جنوب قطاع غزة، وواحدة في وسطه، وتهدف للوصول بذلك إلى ما يقارب مليون و200 ألف نسمة، ولكنها تفتقر إلى التنظيم وآلية التوزيع.
وتزعم وسائل إعلام عبرية بأن الشركة بدأت نشاطها التجريبي في نقطة توزيع المساعدات في منطقة تل السلطان في رفح فقط.
وتجبر الآلية الجديدة كل عائلة في محافظات قطاع غزة على قطع مسافات قد تصل إلى 30 كيلومتراً ذهاباً وإياباً للحصول على المساعدات الشحيحة، في ظل انعدام الطرق المعبدة، وغياب وسائل النقل أو الارتفاع الحاد في تكلفتها، بحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
ويعرض الفحص الأمني المفروض على المساعدات ممثلي العائلات لخطر الإخفاء القسري أو الاعتقال التعسفي.
وكانت مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الدولية تعتمد على ما يقارب 400 نقطة توزيع منتشرة في مختلف أحياء مدن وبلدات القطاع، قبل أن تمنعها إسرائيل من مواصلة عملها. ورغم هذا الانتشار الواسع، وعدم اشتراط الفحوصات الأمنية، وغياب العراقيل المقصودة، كان السكان يضطرون أحياناً للانتظار لساعات طويلة للحصول على حصصهم الغذائية، ما يوضح استحالة تلبية الحاجات الحالية عبر نظام تقييدي ومركزي تتحكم فيه القوة القائمة بالاحتلال، بحسب المرصد الحقوقي.
ما حقيقة بدء توزيع المساعدات بحسب الخطة الأمريكية؟
زعمت مؤسسة إغاثة غزة أنها سلّمت شاحنات محملة بالأغذية إلى مواقع التوزيع المحددة، وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام عبرية صورة لأشخاص يحملون مساعدات على ظهورهم دون وضوح وجوههم.
لكن مدير الإعلام الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، أكد في تصريحات صحفية أن الصور التي قام الاحتلال بتسريبها من رفح مفبركة ومضللة.
كما أكد أنه لم يدخل أي مساعدات إلى قطاع غزة خلال الـ48 ساعة الماضية، مشيراً إلى أن الاحتلال يواصل ممارسة التضليل وترويج الأكاذيب بشأنها.
مع فشل الاحتلال في تشغيل الشركة الإسرائيلية الأمريكية في الموعد المحدد لجأ لاختلاق مشهد مصطنع لأشخاص أدعو أنهم تلقوا مساعدات في تل السلطان في رفح.
— Ramy Abdu| رامي عبده (@RamAbdu) May 26, 2025
الصورة لأشخاص يرتدون ملابس نظيفة جداً وهو أمر مستحيل حالياً، فضلاً عن أن الصورة التقطتهم من الخلف دون توضيح آلية وصولهم أو استلامهم. pic.twitter.com/2TK3bKMxS6
مصادر خاصة لـ"عربي بوست" أكدت أن الأشخاص الذين ظهروا في الصورة هم من عصابات ياسر أبو شباب المطلوب للأمن الفلسطيني في قطاع غزة، والتي كانت تسرق المساعدات سابقاً، بالإضافة إلى عمال يعملون لصالح شركة الخزندار، التي كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أنها وافقت على المشاركة في الآلية الجديدة.
فيما علّق مدير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، في تدوينة على منصة (إكس) على الصور المنتشرة على وسائل الإعلام العبرية، مشيراً إلى أنها مضللة.
وقال المسؤول الحقوقي إنه "مع فشل الاحتلال في تشغيل الشركة الإسرائيلية الأمريكية في الموعد المحدد، لجأ لاختلاق مشهد مصطنع لأشخاص ادعوا أنهم تلقوا مساعدات في تل السلطان في رفح".
وشدد على أن "الصورة لأشخاص يرتدون ملابس نظيفة جداً، وهو أمر مستحيل حالياً، فضلاً عن أن الصورة التقطتهم من الخلف دون توضيح آلية وصولهم أو استلامهم".
أزمة في استجابة الفلسطينيين للخطة الأمريكية
أكدت مصادر أمنية لـ"عربي بوست" أن منطقة رفح لم تشهد حراكاً واسعاً من المواطنين باتجاه منطقة مركز توزيع تل السلطان، مشددة على أنها منطقة خطيرة بسبب تواجد آليات الاحتلال في محيطها.
وتقول المصادر إن عدداً محدوداً من المواطنين توجهوا إلى منطقة تسمى "دوار العلم" لاستلام المساعدات، لكن عدداً منهم تعرضوا للتحقيق والاعتقال.
وتشهد خطة المساعدات الأمريكية رفضاً في تجاوب الفلسطينيين معها، وسط تحذيرات من وزارة الداخلية الفلسطينية في غزة من أنها تخدم سياسة الاحتلال وأغراضه الأمنية.
وقالت وزارة الداخلية في غزة إنها تتابع ببالغ القلق ما وصفته بـ"الآلية الالتفافية" التي يعتزم الاحتلال الإسرائيلي تنفيذها للسيطرة على توزيع المساعدات الإنسانية، عبر تجاوز المؤسسات الدولية المعتمدة، وعلى رأسها وكالة الأونروا.
واعتبرت الوزارة أن هذا الإجراء يشكل انتهاكاً صارخاً للقوانين والأعراف الدولية، ومحاولة ممنهجة لإحلال الفوضى بدلاً من النظام، ولتحويل المساعدات إلى أداة للابتزاز الأمني، في إطار سياسة هندسة التجويع التي ينتهجها الاحتلال ضد الفلسطينيين في القطاع.

كما أوضحت الداخلية أن الاحتلال يسعى لاستخدام مؤسسة مستحدثة وممولة إسرائيلياً، تُعرف باسم "مؤسسة غزة"، كغطاء أمني واستخباري للوصول إلى بيانات الفلسطينيين، عبر تقنيات حديثة منها بصمات العين، بهدف إسقاط المستضعفين في وحل العمالة من خلال مساومتهم على لقمة عيشهم.
وحمّلت الداخلية الاحتلال المسؤولية الكاملة عن التبعات الخطيرة لهذا التوجه، لاسيما أن الخطة تتضمن مطالبة السكان بقطع مسافات طويلة للحصول على المساعدات، ما يندرج ضمن مخطط لإعادة توزيع السكان داخل القطاع، وتنفيذ مشروع التهجير القسري الذي فشل الاحتلال في تحقيقه رغم كل محاولاته خلال الأشهر الماضية من حرب الإبادة.
وشددت الوزارة على أن فشل هذه الخطة مرهون برفض الفلسطينيين لها وعدم التجاوب معها، مشددة على أنها لن تسمح بخلق أجسام موازية تعمل لصالح الاحتلال داخل المناطق التي تسيطر عليها، وأن كل من يتعاون مع هذه المخططات سيدفع الثمن.
وبهدف إفشال الخطة الجديدة، أصدرت الجبهة الداخلية في قطاع غزة بياناً، حذّرت فيه من الوقوع في فخ خطة "معسكرات الاعتقال" في رفح بذريعة تقديم الغذاء والمساعدات.
وشددت الجبهة الداخلية على أن الاحتلال يجهز "أفخاخاً" للقتل الميداني في شارعي الرشيد وصلاح الدين، مضيفة أن من يذهب إلى "مراكز العزل" في رفح قد "يُعتقل أو يُستجوب أو يُقتل ميدانياً" من جيش الاحتلال.
وتابعت قائلة: "لا تنخدعوا بالطعام!… الطرود الغذائية في رفح فخ قاتل، لا تستحق أن تخسر حياتك أو عائلتك من أجلها".
والرفض الفلسطيني للاستجابة للخطة الأمريكية الجديدة لم ينحصر على المواطنين فقط، فقد أكدت الشركات الفلسطينية البارزة في قطاع غزة أنها رفضت عروضاً مباشرة قدمتها مؤسسة "إغاثة غزة"، بعد تواصل الأخيرة معها رسمياً لطلب التعاون.
وكان موقع "ذا ماركر" الإسرائيلي زعم أن ثلاث شركات فلسطينية ستسهم في تشغيل مراكز التوزيع، وفقاً للخطة الأمريكية، وهي: الخزندار، والسقا، والخضري.
لكن رئيس اتحاد المقاولين الفلسطينيين، سهيل السقا، أكد في تصريحات صحفية أن شركات السقا والخضري ولبيب اعتذرت عن المشاركة مع مؤسسة "إغاثة غزة"، مشدداً على أن الرفض جاء في إطار موقف موحد من القطاع الخاص الفلسطيني الرافض لأي محاولة لتسييس المساعدات أو الالتفاف على دور المؤسسات الدولية.
ولم تعلن شركة الخزندار، التي يديرها محمد محسن الخزندار، رفضها العرض الأمريكي، وقامت عائلته بإعلان البراءة منه.
أزمة في حجب المساعدات للوصول إلى وجهتها
عائق آخر يصطدم مع نجاح مؤسسة "إغاثة غزة" في بدء تشغيل خطتها لتوزيع المساعدات، وهو قيام نشطاء من منظمة "أمر 9" اليمينية بعرقلة خروج الشاحنات من ميناء أسدود.
وتوجه نشطاء آخرون من نشطاء منظمة "أمر 9" اليمينية إلى معبر كرم أبو سالم، لمنع إدخال شاحنات المساعدات إلى قطاع غزة.

وهدد القائمون على المنظمة اليمينية، بالإضافة إلى منظمة ما يسمى "جيل النصر من جنود الاحتياط"، بتنظيم فعاليات لمنع وصول الشاحنات إلى قطاع غزة.
وتظهر مراسلات داخلية لنشطاء منظمة "الأمر 9″، التي تقود حصار شاحنات المساعدات منذ بداية الحرب، غضباً شديداً إزاء استئناف إدخال المساعدات، والتجهيزات لمنع ذلك، بحسب صحيفة "معاريف".