تشهد أوروبا انقلاباً واضحاً وغير مسبوق في الموقف من الاحتلال الإسرائيلي بسبب حرب الإبادة الجماعية التي تشنها منذ عام ونصف على قطاع غزة، وبلغت ذروتها في حرب التجويع المستمرة المشددة منذ نحو شهرين وأدت لاستشهاد مئات المدنيين الفلسطينيين، في ظل حصار خانق وإغلاق للمعابر وقصف جنوني لا يتوقف.
وبعد إعلان عدد من الدول الأوروبية والغربية نيتها معاقبة حليفتها "إسرائيل" وكذلك تعليق بعض الاتفاقيات معها إذا لم توقف عملياتها العسكرية المدمرة في القطاع، تعتزم دول أوروبية بدء محادثات رسمية يوم الجمعة 23 مايو/أيار 2025، في بريطانيا، بشأن إمكانية الاعتراف بدولة فلسطين، مما يترك إسرائيل معزولة بشكل متزايد، بحسب صحيفة "الغارديان".
وقال وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو في تصريحات صحفية: "لا يمكننا أن نترك لأطفال غزة إرثًا من العنف والكراهية. لذا، يجب أن يتوقف كل هذا، ولهذا السبب نحن مصممون على الاعتراف بدولة فلسطينية".
وتأتي هذه الخطوات بعدما علق وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي محادثات التجارة مع إسرائيل يوم الثلاثاء 20 مايو/أيار ووصف رفضها رفع الحصار عن المساعدات إلى غزة بأنه "مثير للاشمئزاز". كما فرضت لندن عقوبات على عدد من المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، وأفادت تقارير بأن بريطانيا تدرس أيضاً فرض عقوبات على وزراء في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليمينية، واستدعاء السفيرة الإسرائيلية تسيبي حوتوفلي لتقديم توبيخ رسمي.
وجاءت هذه الإجراءات في وقت يتصاعد فيه الغضب الدولي إزاء الحصار الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على غزة بشكل خاص بعدما رفضت حكومة نتنياهو المضي قدماً في تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع. وصرح مسؤول في وزارة الخارجية لصحيفة "يديعوت أحرنوت": "نواجه كارثة حقيقية تتفاقم. هذا أسوأ وضع تواجهه إسرائيل على الإطلاق، إنه يتجاوز الكارثة، العالم ليس معنا وأصبحنا معزولين".
حراك أوروبي للاعتراف بالدولة الفلسطينية.. كيف ولماذا؟

- تقول تقارير صحفية إن فرنسا تضغط على عدد من الدول الغربية للاعتراف بدولة فلسطينية والإعلان عنها رسمياً خلال "قمة السلام" الأممية التي ينظمها الرئيس إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في 17 يونيو/حزيران. ويأمل المسؤولون الفرنسيون أن تنضم عدة دول أوروبية بما في ذلك بلجيكا والبرتغال ولوكسمبورج إلى المبادرة.
- وتقول "يديعوت أحرنوت" إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقود الجهود الرامية إلى تأمين الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية في قمة الأمم المتحدة مع المملكة العربية السعودية، في حين يناقش الاتحاد الأوروبي تعليق الاتفاقيات التجارية والعقوبات، مما يترك "إسرائيل" معزولة بشكل متزايد.
- وصرح مسؤول إسرائيلي كبير للصحيفة: "يحاول ماكرون خلق جو معادٍ لإسرائيل في أوروبا لإقناع أكبر عدد ممكن من الدول بالاعتراف بدولة فلسطينية". وردا على ذلك، يعمل السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة داني دانون مع الدبلوماسيين الأميركيين لمنع المبادرة الفرنسية من النجاح وإقناع الدول الأخرى بعدم دعم الاعتراف، كما تقول الصحيفة العبرية.
- وقالت مصادر دبلوماسية إسرائيلية إن "الموجة الحالية من الضغوط الدولية والغربية بدأت خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الأخير، حيث دفعت بعض الدول الأعضاء إلى تعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل والدفع باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية".
- وذكرت وسائل إعلام هولندية هذا الأسبوع أن هولندا حصلت على ما يكفي من الدعم – 17 دولة عضو على الأقل – لطرح مسألة إلغاء اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لنقاش رسمي. وقالت نائبة رئيس المفوضية الأوروبية، كايا كالاس: "الأمر متروك لإسرائيل، القرار قابل للتراجع". وأضافت: "حظي هذا القرار بدعم واسع. وهذا يُظهر إدراك الدول بأن الوضع في غزة غير معقول، وأنه يجب السماح بدخول المساعدات الإنسانية فوراً".
- قد تُسفر هذه الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية المتصاعدة من الأوروبيين عن "عواقب وخيمة"، كما تقول صحيفة يديعوت أحرنوت. وقال مسؤول إسرائيلي: "منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، كل ما يشاهده العالم على شاشات التلفزيون هو أطفال فلسطينيون قتلى ومباني مُدمّرة. لقد ضاق الناس ذرعاً بالحرب. إسرائيل لا تُقدّم حلاً، ولا خطة لما بعد الحرب، ولا أملًا – بل تُقدّم فقط الموت والدمار. المقاطعة الصامتة لإسرائيل قائمة بالفعل، وستشتدّ. لا يُمكننا الاستخفاف بهذا الأمر. لا أحد يُريد أن يُربط اسمه بإسرائيل في الوقت الحالي".
ما هي الدول التي تعترف بفلسطين حتى الآن؟

- يعزز الاعتراف بفلسطين كدولة مكانتها العالمية، ويحسن قدرتها على محاسبة السلطات الإسرائيلية على الاحتلال والجرائم المرتكبة، ويضغط على القوى الغربية للعمل على "حل الدولتين"، وهو ما يقوض مشروع نتنياهو الاحلالي التوسعي في الأراضي الفلسطينية بالضفة وغزة، ويجعل "إسرائيل" أكثر عزلة مما كانت عليه طوال العقود السبعة الماضية.
- كانت فلسطين دولة مراقبة غير عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ نوفمبر 2012. ويرجع هذا إلى حقيقة أن الولايات المتحدة، العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يتمتع بحق النقض، استخدمت حق النقض باستمرار أو هددت بالقيام بذلك لمنع العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، لكن بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 اختلف الأمر وعادت القضية الفلسطينية للواجهة مجدداً.
- وخلال الحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، اعترفت 10 دول رسمياً بدولة فلسطين، وهي المكسيك وأرمينيا وسلوفينيا وأيرلندا والنرويج وإسبانيا وجزر البهاما وترينيداد وتوباغو وجامايكا وبربادوس، وهو ما يعكس الدعم الدولي المتزايد للفلسطينيين. وردت إسرائيل باستدعاء سفرائها من هذه الدول وتعهدت بتوسيع المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية المحتلة كعقاب.
- وحتى مايو/أيار 2025 تحظى (دولة فلسطين) باعتراف 147 دولة من أصل 193 دولة عضواً في الأمم المتحدة، أي ما يمثل 75% من المجتمع الدولي، كدولة ذات سيادة. كما تحظى فلسطين باعتراف الكرسي الرسولي، الهيئة الحاكمة للكنيسة الكاثوليكية، ومدينة الفاتيكان، التي تتمتع بصفة مراقب في الأمم المتحدة.
- ومن بين دول مجموعة العشرين، اعترفت 10 دول (الأرجنتين والبرازيل والصين والهند وإندونيسيا والمكسيك وروسيا والمملكة العربية السعودية وجنوب أفريقيا وتركيا، فضلاً عن إسبانيا المدعوة الدائمة) بفلسطين كدولة، في حين لم تعترف بها تسع دول (أستراليا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، ورغم أن هذه الدول تدعم عموماً شكلاً من أشكال حل الدولتين للصراع، فإنها تتخذ موقفاً مفاده أن اعترافها بدولة فلسطينية مشروط بالمفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

ما مراحل الاعتراف التاريخية التي مرت بها فلسطين؟
- تاريخياً كانت الثورات والانتفاضات الفلسطينية عاملاً أسياسياً في اعتراف العالم بالفلسطينيين. ففي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، أي في السنوات الأولى من الانتفاضة الأولى، أعلن ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، فلسطين دولة مستقلة وعاصمتها القدس. وفي أعقاب هذا الإعلان، اعترفت أكثر من 80 دولة بفلسطين كدولة مستقلة، مع دعم قوي من دول الجنوب العالمي، بما في ذلك دول في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والعالم العربي.
- ومعظم الدول الأوروبية التي اعترفت بفلسطين خلال هذه الفترة فعلت ذلك كجزء من الكتلة السوفييتية السابقة. وبعد بضع سنوات، في 13 سبتمبر/أيلول 1993، أفضت أول محادثات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى توقيع اتفاقيات أوسلو، التي كان من المفترض أن تُحقق للفلسطينيين حق تقرير المصير في شكل دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. إلا أن ذلك لم يتحقق قط.
- وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، اعترفت حوالي عشرين دولة بفلسطين، وتبعتها 12 دولة أخرى بين عامي 2000 و2010 ــ معظمها من مختلف أنحاء أفريقيا وأميركا الجنوبية. وبحلول عام 2011، اعترفت كل الدول الأفريقية، باستثناء إريتريا والكاميرون، بفلسطين.
- وفي عام 2012 وبعد الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة وقتلت وجرحت فيها آلاف الفلسطينيين، صوتت الجمعية العامة بأغلبية ساحقة (138 لصالح القرار، و9 ضده، و41 امتناعاً عن التصويت) على تغيير وضع فلسطين إلى "دولة مراقبة غير عضو"، وفي عام 2014، أصبحت السويد أول دولة في أوروبا الغربية تعترف بفلسطين.
- ولكن رغم هذه الاعترافات غير المسبوقة، لا يوجد -حتى الآن- أي من دول مجموعة السبع ــ كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة ــ فعلت ذلك واعترفت بالدولة الفلسطينية. بالتالي فإن ما سيحدث خلال الأسابيع القادمة من اعتراف دول بحجم فرنسا وبريطانيا وكندا وغيرها سيحدث فرقاً كبيراً وسيحاصر "إسرائيل" بشكل أكبر دولياً.