أوروبا تلوح بوقف التجارة مع إسرائيل.. هي قادرة على معاقبتها، فهل تفعلها؟ 

عربي بوست
تم النشر: 2025/05/22 الساعة 13:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/05/22 الساعة 13:34 بتوقيت غرينتش
بنيامين نتنياهو في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، بلجيكا - shutterstock

في ظل تصاعد الغضب الشعبي في أوروبا، وتزايد الضغط على حكومات طالما وُصمت بالتواطؤ والصمت عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة، بدأت بوادر ردود فعل. ورغم أن هذه الاستفاقة جاءت متأخرة — بعد 18 شهراً من حرب إبادة موثقة — مقارنة بالتحرك الغربي السريع تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا، إلا أن الوصول متأخراً خير من عدم الوصول.

بدأت دول الاتحاد الأوروبي، إلى جانب بريطانيا، التلويح بمراجعة لعلاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الاحتلال الإسرائيلي، مدفوعة بضغط شعبي متصاعد، لتهديد باتخاذ إجراءات قد تترجم إلى عقوبات اقتصادية مباشرة تطال تبادلات تجارية تتجاوز قيمتها 76 مليار دولار سنوياً.

الاتفاقيات التي لطالما شكلت ركيزة أساسية في دعم اقتصاد الاحتلال، وعلى رأسها اتفاقيات الشراكة والتسهيلات الجمركية مع القارة الأوروبية، باتت مهددة بالإلغاء أو التجميد. فما هي هذه الاتفاقات؟ وما مدى جدية أوروبا في تنفيذ تهديداتها الاقتصادية؟

ما حجم التجارة بين أوروبا والاحتلال الإسرائيلي؟

وفقاً لتقديرات صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية الإسرائيلية، بلغ حجم التبادل التجاري بين الاحتلال الإسرائيلي من جهة، والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة من جهة أخرى، نحو 51.2 مليار دولار خلال العام الماضي — وذلك باستثناء تجارة الماس. هذا الرقم الضخم يكشف هشاشة الميزان التجاري، إذ يسجل الاحتلال عجزاً تجارياً يتجاوز 15 مليار دولار.

لكن الأرقام لا تقف عند تجارة السلع فقط. فبحسب الصحيفة، تحول الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات إلى قوة في تصدير الخدمات، خصوصاً في مجالات التكنولوجيا المتقدمة. وعند دمج صادرات الخدمات في المعادلة، تزداد الصورة وضوحاً: هناك 25.3 مليار دولار إضافية من تجارة الخدمات، منها ما يعادل 19 مليار شيكل من صادرات الخدمات التجارية فقط (باستثناء السياحة).

الأهم من ذلك أن صادرات الخدمات إلى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تفوق صادرات السلع، ما يُسهم في خفض العجز التجاري إلى أقل من 3 مليارات دولار فقط. بالمجمل، يبلغ حجم التبادل التجاري الكامل نحو 76.5 مليار دولار سنوياً — أي ما يعادل نحو 270 مليار شيكل، أو 13.5% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي.

الشيكل الإسرائيلي  / shutterstock

وأشارت الصحيفة إلى أن هذا هو الحجم الحقيقي لما يمكن أن يخسره الاحتلال في حال قررت أوروبا كسر صمتها وتحويل مواقفها السياسية إلى خطوات اقتصادية فعلية.

وقد سجّلت العملة الإسرائيلية (الشيكل) تراجعاً ملموساً خلال تعاملات الأربعاء، متأثرةً بأجواء التوتر الدبلوماسي وتصاعد الحديث عن مراجعة العلاقات الاقتصادية. فقد هبط الشيكل بنسبة 1% أمام الدولار، رغم أن العملة الأميركية نفسها كانت تعاني من تراجع عالمي بنسبة 3%. أما أمام اليورو، فكان الهبوط أكثر وضوحاً، حيث تراجع الشيكل بنسبة 1.4%.

بريطانيا تتراجع.. شريك اقتصادي رئيسي للاحتلال قد يجمّد التعاون

تُعد بريطانيا من أبرز الشركاء التجاريين للاحتلال الإسرائيلي، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بينهما نحو تسعة مليارات جنيه إسترليني سنوياً، ما يجعلها رابع أكبر شريك تجاري للاحتلال عالمياً. لكن هذا التعاون يواجه اليوم مأزقاً غير مسبوق، بعد أن أعلنت لندن تجميد مباحثات التجارة الحرة مع تل أبيب.

وجاء تصريح وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، بعد ضغوط متزايدة من نواب مستقلين وأحزاب معارضة داخل البرلمان، فوصف الحصار المفروض على غزة بأنه "خاطئ أخلاقياً وغير مبرر ويجب أن ينتهي"، مضيفاً أمام البرلمان: "الجميع يجب أن يكونوا قادرين على إدانة منع الحكومة الإسرائيلية الطعام عن الأطفال الجائعين… إنه أمر مروع".

صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أشارت في تقرير مفصل إلى أن هذه التصريحات والخطوات قد "تحمل آثاراً اقتصادية خطيرة"، خصوصاً وأن الاتفاق المُجمّد يُعدّ حيوياً لقطاع التكنولوجيا الفائقة في الاحتلال — القطاع الذي يمثل أكثر من 70% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية، وفق بيانات رسمية من دائرة الإحصاء المركزية.

وكان من المقرر أن يشكل اتفاق التجارة الحرة الجديد بين بريطانيا وإسرائيل محطة تحديث لعلاقات تجارية ظلت لعقود تستند إلى اتفاق عام 1995 مع الاتحاد الأوروبي. بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، وقّع الجانبان في عام 2019 اتفاقاً منفصلاً يضمن استمرار التجارة دون فرض رسوم جمركية على معظم السلع، وفق الشروط ذاتها التي كانت سارية خلال عضوية بريطانيا في الاتحاد.

هذا الاتفاق، وإن بدا انتقالياً في طبيعته، اعتُبر حيوياً بالنسبة لاقتصاد الاحتلال، لا سيما قطاع التكنولوجيا الفائقة (الهايتك)، الذي يشكل أكثر من 70% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية، بحسب معطيات دائرة الإحصاء المركزية.

وكان من المخطط أن يتم توسيع الاتفاق ليشمل مجالات جديدة تعكس الواقع الاقتصادي المتغير، مثل الاستثمارات المباشرة والتجارة الإلكترونية، وفق ما نقلته صحيفة يديعوت أحرونوت.

ونقلت "يديعوت أحرونوت" عن مصدر في وزارة الخارجية الإسرائيلية قوله: "نواجه تسونامي حقيقياً سيزداد سوءاً. نحن في أسوأ وضع وصلنا إليه على الإطلاق. هذا أسوأ بكثير من كارثة.. العالم ليس معنا".

الاتحاد الأوروبي يلوّح بمراجعة الاتفاقيات التجارية مع الاحتلال

تشكل اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والاحتلال الإسرائيلي، التي دخلت حيز التنفيذ في يونيو/حزيران 2000، الإطار الأساسي للعلاقات السياسية والاقتصادية بين الجانبين. وإعادة النظر فيها، حال حدوثه، يشكل "تهديداً كبيراً" للاحتلال، وفق تقرير لصحيفة "كالكاليست" الاقتصادية الإسرائيلية.

بالفعل بدأت دعوات من حكومات أوروبية مثل هولندا إلى مراجعة العلاقات والاتفاقات الأوروبية الإسرائيلية بسبب استمرار الحصار الإسرائيلي اللاإنساني للقطاع المحاصر والمدمر، حيث قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 15 مايو/أيار إن "احتمال تعليق التعاون مع إسرائيل هو مسألة مفتوحة بالنسبة للاتحاد الأوروبي".

وبات الاقتراح الهولندي لمراجعة التجارة والتعاون بين الاتحاد الأوروبي والاحتلال الإسرائيلي بشأن الوضع في غزة يحظى بدعم مطرد بين مجموعة واسعة من الدول الأعضاء، حيث أعلنت بلجيكا وفنلندا وفرنسا والبرتغال والسويد وأيسلندا ولوكسمبورغ وإسبانيا وسلوفينيا ومالطا والنرويج علناً تأييدها للمبادرة التي طرحها وزير الخارجية الهولندي كاسبار فيلدكامب ــ الذي تعتبر حكومته حليفاً قوياً لإسرائيل، في رسالة إلى مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس.

أوروبا تلوح بوقف التجارة مع إسرائيل.. هي قادرة على معاقبتها، فهل تفعلها؟ 
الجوع يضرب قطاع غزة بسبب إغلاق المعابر منذ أكثر من شهرين – shutterstock

وفي تلك الرسالة أعرب فيلدكامب عن وجهة نظره بأن "الحصار الإنساني" المفروض على غزة، حيث لم تدخل الإمدادات الأساسية منذ نحو شهرين، يشكل انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، وبالتالي للمادة الثانية من ما يسمى اتفاقية الشراكة التي تحكم العلاقات والتجارة بين الاتحاد الأوروبي والاحتلال الإسرائيلي. وتنص المادة الثانية على أن العلاقات "يجب أن تقوم على احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية، التي توجه سياستهما الداخلية والدولية وتشكل عنصراً أساسياً في هذه الاتفاقية".

وكانت فكرة مراجعة الاتفاق قد طرحت لأول مرة من قبل أيرلندا وإسبانيا في رسالة لم يتم الرد عليها بعد إلى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قبل 15 شهراً، لكنها فشلت في تأمين الدعم القوي من أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي.

ويوم الثلاثاء 20 مايو/أيار أعلن مجلس الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي بدء مناقشته تعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، وقالت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس إن "الوضع الإنساني في غزة خطير للغاية"، وقالت: "يجب أن تصل المساعدات الإنسانية إلى غزة في أقرب وقت ممكن". وأضافت: "بالطبع، قرار إسرائيل السماح بدخول بعض المساعدات هو بمثابة قطرة في بحر. إنه أمر مرحب به، ولكنه ليس كافياً. هناك آلاف الشاحنات تنتظر خلف الحدود. الأموال الأوروبية هي التي موّلت هذه المساعدات الإنسانية، ويجب أن تصل إلى الناس".

الاحتلال في حالة استنفار دبلوماسي.. تحركات خلف الكواليس لاحتواء ضغط الحلفاء

وفي محاولة لإفشال هذه الخطوة، أجرى وزير خارجية الاحتلال جدعون ساعر محادثات في الأيام الأخيرة مع نظرائه الأوروبيين لإحباط المبادرة التي تقودها هولندا، وتقول صحيفة "يديعوت أحرونوت" إن "ساعر ومسؤولين إسرائيليين آخرين يعملون خلف الكواليس لعرقلة هذه الخطوة، التي تتطلب موافقة إجماعية من جميع الدول الأعضاء السبع والعشرين في الاتحاد الأوروبي لإقرارها".

وأضافت الصحيفة أنه على مدار الأيام الماضية، أجرى ساعر اتصالات مع وزراء خارجية لاتفيا وألمانيا وإيطاليا وكرواتيا وبلغاريا والمجر وليتوانيا وجمهورية التشيك، بالإضافة إلى الممثلة العليا للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس. 

أوروبا تلوح بوقف التجارة مع إسرائيل.. هي قادرة على معاقبتها، فهل تفعلها؟ 
رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان يصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال لقاء مشترك في القدس المحتلة 2018/ رويترز.

وتقول الصحيفة: "يعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن حلفاء الاتحاد الأوروبي سيعارضون المبادرة الهولندية، التي يدعمها بشكل رئيسي "المشتبه بهم المعتادين": إسبانيا، وأيرلندا، وسلوفينيا، وفرنسا. وقد تعهدت عدة حكومات صديقة بالفعل بالتصويت ضد اقتراح فيلدكامب، مما يزيد من احتمال فشله بسبب غياب التوافق".

تحاول حكومة الاحتلال التقليل من وقع التحرك الأوروبي، فقد صرّح مسؤول إسرائيلي لصحيفة هآرتس أن "التطورات كانت متوقعة"، معلقًا على تصريح مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، بقوله: "كان تصريحها مؤسفًا، لكن كان من الممكن أن يكون أسوأ". وأضاف أن الساعات الأربع والعشرين قبل الاجتماع كانت جزءًا من "كمين منسق" تم الإعداد له قبل اجتماع وزراء الاتحاد الأوروبي في بروكسل، لكن – بحسب قوله – "تمكنا عبر جهود السفراء ووزير الخارجية من تعديل النتيجة".

وبحسب هآرتس، يشعر المسؤولون الإسرائيليون بشيء من الارتياح بعد دعم تلقوه من ألمانيا، إيطاليا، واليونان، التي وقفت إلى جانبهم داخل مفوضية الاتحاد الأوروبي. ومع أن وزارة الخارجية الإسرائيلية تستبعد حاليًا إلغاء الاتفاق التجاري بالكامل، فإنها لا تخفي قلقها من قرار مراجعة الاتفاق، إذ تُقرّ بأن قرار مراجعته يُمثّل تحذيرًا دبلوماسيًا خطيرًا، وقد أشارت الصحيفة إلى أن الأغلبية المؤهلة قد تعلق العمل بأجزاء محددة، مثل اتفاقية التجارة الحرة التي تُعفي الصادرات الإسرائيلية من الرسوم الجمركية، أو برنامج هورايزون، الذي يسمح بمشاركة إسرائيل في مشاريع العلوم والتكنولوجيا الأوروبية.

وبحسب الصحيفة نفسها، يستعد المسؤولون الإسرائيليون بالفعل لنقطة الاشتعال التالية، حيث من المتوقع أن تعقد فرنسا والمملكة العربية السعودية مؤتمراً مشتركاً في نيويورك خلال يونيو/حزيران المقبل، للإعلان عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وتعتبر هذه المبادرة، التي تقودها الرياض، محاولة لتحقيق إنجاز دبلوماسي رمزي يعكس الدعم الدولي المتزايد للقضية الفلسطينية. ومع ذلك، يعتقد مسؤولو الاحتلال الآن أن المنظمين لهذه المبادرة يعملون على زيادة عدد الدول الداعمة لهذه الخطوة.

وفي سياق مواجهة هذا التحرك، تذكر الصحيفة أن رئيس الاحتلال إسحاق هرتسوغ قام بزيارة مفاجئة إلى باريس للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وذلك بعد مشاركته في مراسم تنصيب البابا في الفاتيكان. وأفادت التقارير أن هرتسوغ، الذي غالبًا ما يقوم بمهام دبلوماسية سرية، أثار قضية الأسرى وقلق الاحتلال بشأن المبادرة الفرنسية السعودية. ومع ذلك، يعتقد الإسرائيليون بأن فرملة هذا المسار أصبحت شبه مستحيلة، وأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية قد يُعلن كما هو مخطط له.

تحميل المزيد