في خضمّ الإبادة الجماعية التي يشنّها جيش الاحتلال على غزة، نشرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في تقرير حديث أن أكثر من ألف مهاجر جديد انضموا لجيش الاحتلال خلال مارس/آذار وأبريل/نيسان 2025 – 674 رجلاً و459 امرأة. بعضهم جاء مع عائلاتهم، لكن كثيرين جاؤوا وحدهم، فمن هم هؤلاء المرتزقة الذين يُطلق عليهم الاحتلال اسم "الجنود الوحيدون"؟ وكيف يحوّلهم الاحتلال، عبر منظومات منظمة ودعم صهيوني عالمي، من أفراد مهزوزين نفسياً واجتماعياً إلى أدوات قتل تعمل لخدمة مشروعه الاستعماري؟ ولماذا يواصل الاحتلال في استيراد هؤلاء المرتزقة من حول العالم؟
في أغسطس/آب 2019، نظّمت تل أبيب حفلاً صاخباً لاستقبال ثلاثمائة يهودي، معظمهم من الولايات المتحدة. لم يكونوا سياحاً، ولا طلاباً، بل مجنّدين جاؤوا للالتحاق بجيش الاحتلال الإسرائيلي، ضمن برنامج يُعرف باسم "غارين تزابار"، أحد الأذرع المموّهة لتجنيد المرتزقة تحت لافتة "الكشافة الإسرائيلية".
ربما أغلبهم لا يتقن العبرية، ولا يعرف شيئاً عن الأرض التي جاؤوا ليحتلوها ويسفكوا فيها الدماء. لكنهم قرروا ترك أوطانهم، وأهاليهم، وحياتهم، للقدوم إلى فلسطين بهدف واحد: الانخراط في آلة القتل الإسرائيلية لإبادة الفلسطينيين.
في الحفل كان المشهد كرنفالياً، الطبول تدوي، والراقصون يمرحون، والخطابات تمطر الجنود من الحضور بوصفهم "أبطالاً"، بينما كانوا يقفون على المنصة بزيٍّ عسكري جديد، سيرتكبون به ربما جرائمهم الأولى.
توالت التهاني من أعلى المستويات، إذ ظهر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عبر رسالة مصوّرة يخاطب هؤلاء المرتزقة، قائلاً: "يا له من تفانٍ! يا له من تضامن! يا له من التزام!"، تبعه الرئيس السابق للاحتلال رؤوفين ريفلين بتحيةٍ لم تخلُ من وضوح أيديولوجي، إذ خاطبهم قائلاً: "أنتم الصهاينة الحقيقيون". أما إسحاق هرتسوغ، رئيس الوكالة اليهودية آنذاك، فرفع من سقف الاحتفاء بوصفه لهؤلاء المجندين بأنهم "مثال حقيقي على جوهر الصهيونية".
من ثم غلّفت الحنين الخطابات، فأُبلغوا بأنهم لا يأتون إلى هنا غرباء، وأنهم "يكتبون فصلاً جديداً في التاريخ اليهودي"، وأنهم – رغم أنهم على أرض ليست لهم – يجب ألّا يشعروا يوماً بأنهم وحدهم.
كانت الكلمات منتقاة بعناية، تحمل رسائل واضحة: أن هذه الأرض، التي يُسفك فيها دم الفلسطينيين منذ عقود، مفتوحة لكل من يرغب في الانضمام إلى المشروع الاستعماري، شريطة أن يكون يهودياً ومستعداً لحمل السلاح.
يقدّم الاحتلال صورة هؤلاء المرتزقة في ثوب "المتطوعين المخلصين"، ويغذيهم بخطاب أسطوري عن البطولة، ليجعلهم أكثر شراسة من جنوده المحليين، ولكي يحاول أن يخفي أن أغلبهم لا يأتون بدافع الإيمان بالأساطير التوراتية، بل بدافع الهروب من حياتهم البائسة، فأغلبهم، ببساطة، شباب بلا عمل، بلا مستقبل، بلا روابط أسرية، مدمنو مخدرات، وبعضهم بسجلات جنائية، وآخرون يفرّون من الفشل الدراسي أو التفكك الاجتماعي.
وكان بين هؤلاء، برز اسم إيدان ألكسندر، الذي أفرجت عنه المقاومة الفلسطينية لاحقاً كجزء من صفقة أسرى. كان قد غادر الولايات المتحدة فور تخرجه من الثانوية، والتحق بسلاح المشاة، وتمركز على مشارف غزة في سبتمبر/أيلول 2023. لم يكن يعرف فلسطين، لكنه عرف كيف يوجه سلاحه نحو أهلها.
الجذور.. حين وُلد المرتزق قبل الدولة
منذ نشأته الأولى، ارتبط المشروع الصهيوني بشبكة متشابكة من القوى الغربية التي رأت فيه أداة تخدم مصالحها في المنطقة. لم يكن قيام الكيان الإسرائيلي وليد رغبة ذاتية فحسب، بل جاء نتيجة دعم دولي منظّم، شاركت فيه حكومات، وجماعات، وأفراد، ووفّرت له كل ما يلزمه للبقاء: من المال إلى السلاح، ومن الدعم السياسي إلى الخبرات التقنية والزراعية والعسكرية.
وفي قلب هذا الدعم، برز الدور العسكري الغربي. فقد ساهم ضباط وجنود من دول كبرى في بناء النواة الصلبة للعصابات الصهيونية، لما سيُعرف لاحقاً بجيش الاحتلال، ليس كمستشارين عابرين، بل كصنّاع فعليين لعقيدته وبنيته وتكتيكاته.
لذلك، لم يكن تجنيد المرتزقة من حول العالم لخدمة المشروع الصهيوني طارئاً أو عارضاً، بل وُلد مع الفكرة ذاتها. فمنذ بدايات الأربعينيات، كانت العصابات الصهيونية تُعدّ العدّة لتجنيد المقاتلين الأجانب عبر منظمة "ماحل" – وهي مبادرة مخصصة لجلب المتطوعين اليهود من الخارج للقتال في فلسطين.

فقد أنشأت المنظمة حينها مراكز تجنيد سرّية في أوروبا، أبرزها في باريس، واستهدفت الشباب اليهود تحديداً، وخاصةً من لهم خبرة عسكرية. بعضهم جاء بمبادرة فردية، لكن الغالبية جُنّدوا وفق خطة دقيقة، بدعم وتمويل صهيوني واسع.
ومع اقتراب نكبة 1948، تضاعفت الجهود، ونجحت "ماحل" في استقدام المزيد في مجال التدريب والمساندة العسكرية. لم يكونوا مجرد يهود مهاجرين، بل مقاتلين محترفين، ولم يكونوا منذ البداية جزءاً من تشكيلات العصابات الصهيونية المختلفة، بل جاؤوا خصيصاً إلى فلسطين للمشاركة في الحرب، وخصوصاً في النكبة. وقد استهدفت "ماحل" قدامى المحاربين في الحرب العالمية الثانية، خاصةً ممن يمتلكون خبرات عسكرية عالية، وقد نجحت في جذب ما يقارب 4500 مقاتل من أكثر من 50 دولة، معظمهم من أوروبا وأمريكا.
وكان تأثيرهم كبيراً في إقامة إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني، إذ لم يأتِ هؤلاء المقاتلون كضيوف على العصابات الصهيونية، بل كوادر قتالية مدرّبة لعبت دوراً حاسماً في تثبيت السيطرة على الأرض، وقادت عمليات قصف، وشاركت في المجازر والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين، حيث لم يكن للكيان الناشئ بُنية عسكرية محترفة حينها.
من أبرز الأسماء التي تحتفي بها إسرائيل إلى اليوم وتخلّد ذكراه، كان الضابط السابق في الجيش الأمريكي ديفيد ميكي ماركوس (1901–1948)، وهو واحد من هؤلاء العسكريين الغربيين الذين ساهموا في رفد العصابات الصهيونية بالخبرة العسكرية، وكان أول من حمل لقب "جنرال" في جيش الاحتلال الصهيوني (أو ما يعادل رتبة كولونيل في ذلك الوقت).

وقد ساهم بشكل كبير في احتلال الأراضي الفلسطينية آنذاك، نظراً لما قدّمه من خبرة عسكرية وقيادته لمعـارك حاسمة، إذ يقول عنه عارف العارف في كتابه النكبة والفردوس المفقود: "يذكر اليهود هذا القائد الأمريكي (ميكي) بالثناء والتقدير لأنه هو الذي نبّههم إلى الخطر الذي يحيق بجيشهم إذا هم لم يعملوا على تقويته، وكان هذا الجيش، عندما رآه لأول مرة، من الضعف بحيث قال لهم كلمته المشهورة: 'إن إسرائيل ستمحى من وجه الأرض في أول هجوم يقوم به الجيش العربي'، فاتبع اليهود نصائحه وولّوه قيادة جيشهم، فقوّاه، وساقه إلى الميدان في معارك باب الواد".
قال بن غوريون في عزائه: "لقد عُيِّن قبل زمن قصير كضابط رئيس لقواتنا في جبهة القدس، وأصبح فوراً الروح الحيّة للمسار العسكري في تلك الجبهة، وهي الجبهة التي شهدت المعركة الأصعب والأهم من ضمن كل المعارك التي خضناها. سيبقى اسمه مرتبطاً في العالم بتاريخ الشعب اليهودي، وأنا متأكد أن يهود أمريكا سيفخرون بابنهم الكبير والشجاع الذي فدى بروحه خلاص إسرائيل".
لكن ماركوس، الذي قاتل من أجل الكيان، قُتل برصاص صهيوني. تختلف الروايات حول مقتله؛ البعض يقول إنها حادثة "خطأ" على يد جندي صهيوني يُدعى أليعازار الينسكي، بينما تشير روايات أخرى إلى تصفية داخلية بسبب خلافات حادة بين العصابات المسلحة التي شكّلت نواة الدولة لاحقاً.
من "ماحل" إلى "الجنود الوحيدون".. حين أصبح المرتزق جزءاً من العقيدة
وفي أعقاب نكبة 1948 واحتلال أراضٍ جديدة عام 1967، لم تتوقف إسرائيل عن استدعاء المرتزقة، بل مأسست وجودهم في مشاريع مثل "الجنود الوحيدون" و"مزدوجي الجنسية"، وقدّمتهم دائماً بوجه ناعم لمستوطنيها: متطوعون، مؤمنون، عائدون إلى "أرض الميعاد" والفرص. في حين أن الواقع أكثر فجاجة: إذ يستورد الاحتلال قتلة مدفوعين، جاؤوا ليشاركوا في تنفيذ مشروع استيطاني قائم على الإبادة والطرد، وعلى دم شعب لم يكن يوماً عدوهم.
وقد أخذ البرنامج طابعه المؤسساتي الحديث عام 1991 بتأسيس برنامج "غارين تسابار" بدعم حركة الكشافة الإسرائيلية، والوكالة اليهودية، ووزارة الاستيعاب الإسرائيلية. ومنذ ذلك الحين التحق آلاف من الشبان والشابات (من أمريكا الشمالية وأوروبا وأميركا اللاتينية وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وغيرها) بالجيش الإسرائيلي كـ"جنود وحيدون"، بحيث يُشكّلون وحدات اندماج خاصة، ويقيمون في تجمعات (عادةً في كيبوتسات)، حيث يُعاد تشكيلهم نفسياً واجتماعياً، وتُجهّزهم إسرائيل ليكونوا جزءاً من أدواتها العسكرية المباشرة.
صحيح أن البرنامج يُفضّل أن يكون المجندون من أصول يهودية، لكن هذا ليس شرطاً ملزماً. وينقسم هؤلاء الجنود إلى فئتين:
- مجندون من داخل إسرائيل، ينحدرون من عائلات مفككة أو لا عائلات لهم أصلاً، مثل الأيتام أو من تربّوا في مؤسسات الرعاية.
- مجندون من خارج البلاد، لهم عائلات في أوطانهم، لكنهم اختاروا الانفصال والانخراط في جيش احتلال لا يمثّلهم حتى دينياً في بعض الأحيان.
ويُقدّم جيش الاحتلال للجنود الوحيدون أجوراً عالية مقارنةً بالجنود العاديين، ومزايا مادية متنوعة، مثل: منحة الزواج، ومنح الطرود الغذائية، وتمويل زيارة العائلة بالخارج، والمساعدة في الإيجار وصيانة الشقة، والإعفاء من الضرائب، إضافةً إلى السماح لهم بممارسة أعمال خاصة، وتوفير بيئة اجتماعية داعمة بديلاً عن العائلة.
ويتلقى الجنود الوحيدون تدريبات عسكرية، وبحسب معظم الروايات الإسرائيلية، فإن الغالبية العظمى من "الجنود الوحيدين" يكونون الأكثر حماساً، ويظهرون اندفاعاً أعلى في تنفيذ المهام القتالية، بل ويُلاحظ أن نسبة كبيرة منهم متورطة في حالات عنف مفرط وجرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين.

يمكن للجنود القادمين من الخارج الاختيار بين خيارين للخدمة في الجيش: خدمة تطوعية أقصر (ماحال)، والتي يتعين عليهم بعدها مغادرة البلاد، أو خدمة مطوّلة تتطلب الهجرة والحصول على الجنسية الإسرائيلية. و يأتي العديد ممن يختارون الخيار الثاني عبر "غارين تزابار".
جنود مُجمَّلون للكاميرا، محطمون خلف الستار
في مواجهة الانتقادات الدولية، لا ينكر الاحتلال وجود هؤلاء المرتزقة في جيشه، بل يحتفي بهم. لكنه يفعل ذلك بطريقة يخلط فيها بين الأساطير الدينية والدعاية الحديثة، ليخرج للعالم صورة لجنديٍ وافد من الخارج، يتحدث الإنجليزية بلكنة أمريكية، لكنه مع ذلك يخدم الاحتلال، يرتدي الزي العسكري بإتقان، ويظهر في لقطات احترافية على خلفية صحراء أو موقع عسكري، وهو يبتسم للكاميرا كأنه في مهمة سلام.
داخل المجتمع الإسرائيلي، تحظى ظاهرة "الجنود الوحيدون" بتمجيد واسع. الإعلام الرسمي والخطاب الحكومي يتبنيان نبرة احتفالية، تُقدّمهم كأبطال خارقين، شباب تركوا حياة مريحة في نيوجيرسي أو برلين أو تورونتو، ليقاتلوا من أجل "دولة اليهود" الوحيدة.
فعلى سبيل المثال، تصف صحيفة تايمز أوف إسرائيل الجندي الوحيد بـ"النجم" الاجتماعي، وتؤكد أنه يحظى باستقبال الأبطال عند قدومه، لأنه "اختار" القتال دون أن يُجبر عليه كما هو حال المجندين المحليين.
إذ يحاول الاحتلال ترويج هذه الصورة كنوع من الربط العاطفي بين المرتزقة والاحتلال، حيث يُقدَّم المجند الأجنبي على أنه لا يلتحق بجيش احتلال، بل "يعود إلى جذوره"، ويُعيد توحيد "الشعب اليهودي" بدمه وخدمته.
في إحدى التغطيات، كتبت يديعوت أحرونوت عن خمسة عشر شاباً قدموا من الخارج للانضمام إلى جيش الاحتلال، من بينهم عيدان ألكسندر من نيوجيرسي، الذي أُسر على يد المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وصفته الصحيفة بأنه "رغب في خدمة هذا البلد أكثر من أي شخص آخر"، وأنه فخور بانتمائه للواء "غولاني" سيّئ السمعة، المعروف ببطشه وعدوانيته ضد الفلسطينيين. وبعد الإفراج عنه في صفقة عام 2025، حاولت الصحيفة أن تُظهر أنه تلقى مديحاً حاراً من زملائه الذين أشادوا ببسالته، بينما كان الكثير من الإسرائيليين غاضبين لأنه خرج باتفاق منفرد بين المقاومة وواشنطن لأنه يحمل الجنسية الأمريكية.
هذه السرديات الدعائية لا تُبنى فقط بالكلمات، بل بالمشاهد: الجنود الوحيدون يُستقبلون ويزفّون إلى قواعدهم بالاحتفالات، والرقصات، والأهازيج، وخطابات القادة، وتحفيزهم، وعشاءات السبت العائلية.
لتكون الرسالة: قد تكون بلا عائلة، لكن الجيش والمجتمع الاستيطاني الإسرائيلي سيمنحانك "حضناً بديلاً"، يُغذي ولاءك ويُعيد تشكيلك عاطفياً، ليكتمل دورك كأداة فعّالة في القتل.
لكن تحت هذا الغلاف، تظهر الأرقام وحياة الجنود المنفردين، لتكشف هشاشة عميقة. فرغم أن الجنود المنفردين لا يُشكّلون سوى 2% من قوام الجيش الإسرائيلي، إلا أن معدلات الانتحار والانهيار النفسي بينهم مرتفعة بشكل غير متناسب.
في تحقيق لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، أُشير إلى أن نسبة كبيرة من هؤلاء الجنود يُسرَّحون سنوياً بعد ثبوت عدم أهليتهم النفسية، أو يُودَعون مؤسسات علاجية إثر انهيارات عصبية. بل إن كثيرين منهم لا يعودون أصلاً من الإجازة السنوية المخصصة لهم خارج البلاد، والمقدّرة بـ30 يوماً، وذكر التحقيق أن في المتوسط، 14% من الجنود المنفردين يتركون الجيش سنوياً.

والسبب، بحسب شيفرا شاهار، الرئيسة التنفيذية لمنظمة "بيت دافئ لكل جندي" الإسرائيلية، هو أن العديد من المجندين الشباب لا يدركون تماماً ما تنطوي عليه الحياة العسكرية في الأراضي المحتلة، وأن أعداداً كبيرة منهم تفتقر إلى الكفاءة في اللغة العبرية والإلمام بثقافة الاحتلال، وأن الكثيرين منهم بائسون جاؤوا فقط "هرباً من مشاكل وطنهم. لا يجدون عملاً، وليس لديهم رغبة في الدراسة، وهم أشخاص غير مرغوبٍ بهم في عائلاتهم. كثير منهم ينحدرون من أسرٍ مُفككة، بل إن بعضهم لديه سجلات جنائية. وقد نجح أحدهم بطريقة ما في إقناعهم أو إقناع آبائهم بأن الجيش الإسرائيلي سيُصلحهم. للأسف، في معظم الحالات، يُفاقم الجيش مشاكلهم القائمة".
بينما تشير مصادر أخرى إلى غياب الحد الأدنى من التحريات عند التجنيد. فالاحتلال، في سعيه لاستقطاب أي جسد قابل للارتداء بالزي العسكري لقتل الفلسطينيين، يتجاهل الخلفيات النفسية والاجتماعية لهؤلاء المجندين، إذ يراهم الاحتلال كمرتزقة.
روى جندي كندي سابق، خدم في وحدة كوماندوز نخبوية تابعة لجيش الاحتلال، لصحيفة هآرتس كيف تم التغاضي عن تفاصيل جوهرية في مسيرته الشخصية. قال إنه كذب بشأن تاريخه مع تعاطي المخدرات. لم يُطلب منه أي تقرير طبي، ولا خضع لأي فحص. بل كل ما وُجّه إليه كان سؤالاً مباشراً: "هل سبق أن تعاطيت المخدرات؟"، فأجاب بالنفي. وكان ذلك كافياً.
في المقابل، المجندون من أبناء الاحتلال يخضعون لما يُعرف بـ"تساف ريشون"، وهو استدعاء أولي يتطلب تقديم ملفات طبية ونفسية مفصّلة، بل ويُجري الجيش تواصلاً مباشراً مع أولياء الأمور، خاصةً إذا كان المجند قاصراً أو ابناً وحيداً.
لكن هذه الإجراءات، بكل ما تحمله من صرامة، تسقط عندما يتعلق الأمر بالجنود المنفردين – أولئك الذين يُستقدمون من الخارج لخدمة هذا الجيش. إذ يقول نفس الجندي الكندي: "لم يسأل أحد عن والديّ. لم يُطلب مني إلا ورقة تثبت أنني لست وحيداً في العائلة – مجرد إجراء شكلي".
يلتحق شباب يهود في الخارج بالجيش منذ قيام دولة الاحتلال في فلسطين، لكن مكانتهم الاجتماعية تغيّرت على مر السنين. ومع ذلك، ما زال استجلاب المرتزقة من الخارج يحظى بدعم كبير من الاحتلال. فعلى سبيل المثال، منذ أن أُطلقت مبادرة "غارين تزابار" عام 1991 لاستجلاب أبناء الإسرائيليين المقيمين في الولايات المتحدة للخدمة في جيش الاحتلال، كان معظم المشاركين الأوائل من الناطقين بالعبرية، والذين تربطهم صلة وثيقة بالاحتلال.
في بداياتها، كانت منظمة "غارين تزابار" ترسل نحو عشرين مجنداً سنوياً إلى جيش الاحتلال. لكن خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة، ارتفعت الأعداد بشكل ملحوظ. ووفقاً لمديرها ألون كوبا، باتت المنظمة تجلب ما يصل إلى 400 جندي منفرد سنوياً إلى الأراضي المحتلة.
ميزانية "غارين تزابار" التشغيلية تُقدَّر بحوالي 13 مليون شيكل سنوياً (نحو 3.7 مليون دولار)، بحسب تصريحات أحد المتحدثين باسمها. تُموَّل هذه الميزانية بنسبة 70% من قبل الحكومة الإسرائيلية والوكالة اليهودية، بينما يُستكمل الباقي عبر تبرعات من القطاع الخاص.
المنظمة لا تعمل في فراغ. فهي تحظى بدعم سياسي وإعلامي بارز، يعود في جزء كبير منه إلى وجود شخصيتين نافذتين على رأسها. الأولى هي المليارديرة الأمريكية الإسرائيلية ميريام أديلسون، التي تُعرف بأنها أحد أكبر ممولي حملات دونالد ترامب، ويُنسب لها الدور الأساسي في دفعه للاعتراف بالقدس عاصمةً للاحتلال. كما تُعد من أبرز الممولين للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتستخدم نفوذها المالي لتمويل حملات ملاحقة الطلبة والنشطاء المناهضين لجرائم الحرب في غزة. أديلسون تشغل منصب الرئيسة الفخرية للفرع الأمريكي للمنظمة، وقد تبرعت مع زوجها الراحل بحوالي نصف مليار دولار لمؤسسة Birthright Foundation، التي تُنظّم رحلات مجانية إلى إسرائيل لليهود من مختلف أنحاء العالم، بهدف زيادة الاستيطان.
Miriam Adelson has become a kingmaker in US Republican politics while also backing right-wing politics in Israel. Here is a closer look at her life and her possible future impact on American foreign policy in Israel ⤵️https://t.co/Gr5wla8CPe
— Middle East Eye (@MiddleEastEye) November 20, 2024
أما الشخصية الثانية فهي سارة نتنياهو، زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي تشغل بدورها المنصب الفخري في الفرع الإسرائيلي للمنظمة.
إلى جانب "غارين تزابار"، تنشط منظمات أخرى في استقدام الجنود الوحيدون من الخارج، وتجمع من خلالها ملايين الدولارات من التبرعات. ورغم ضخامة هذه الميزانيات، لا يصل إلى الجنود أنفسهم سوى جزء ضئيل من تلك الأموال. لكن مع ذلك، تُوظّفهم تلك المنظمات بكثافة في حملاتها الدعائية، وتُسلّط الضوء على قصصهم الشخصية لتوليد التعاطف والدعم المالي.
وعادةً ما تُنقَل هذه النماذج من الجنود الوحيدون جواً إلى الولايات المتحدة، للمشاركة في فعاليات جمع التبرعات. هناك يُطلَب منهم الصعود إلى المنصات، الحديث عن تجربتهم في الجيش، والتلويح بعلم الاحتلال أمام جمهور مموِّل سخي.
يتذكر الجندي السابق إيلان بنيامين إحدى تلك الفعاليات التي شارك فيها خلال خدمته، والتي أُقيمت في هوليوود، قائلاً: "إنها تخدم غرضاً جيداً، لكنني شعرتُ طوال الوقت بأنني أُستغل. لقد جعلوني أتحدث أمام آلاف الأشخاص. كان أنطونيو بانديراس وباربرا سترايسند من بين الحضور، ولا بد لي من القول إنني شعرتُ وكأنني حجر شطرنج".
ورغم ذلك، يرى ياغيل ليفي، أستاذ علم الاجتماع السياسي والسياسات العامة في "الجامعة المفتوحة" في إسرائيل، أن دوافع الجنود الوحيدون قد لا تكون بالضرورة أيديولوجية خالصة للاحتلال، ويوضح أنه، رغم مشاكل جلب هؤلاء الجنود، لا يتوقع أي إعادة نظر جذرية في مشروع الجندي المنفرد، لأن لكلٍّ من الاحتلال الإسرائيلي والجاليات اليهودية، على حد قوله، خصوصاً في الولايات المتحدة، مصالح أعمق من أن تهتز. كما يوضح: "هناك اهتمام واضح من يهود الشتات، خاصةً الأمريكيين، بالحفاظ على هذا النموذج كجزء لا يتجزأ من المشروع الصهيوني الأوسع".
جنود الإبادة المستوردون
في أعقاب بدء حرب الإبادة في غزة، نشرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل تقريراً يزعم ازدياد عدد الجنود الوحيدون من الشباب والفتيات الذين يخدمون في جيش الاحتلال للمشاركة في الإبادة، إذ أشارت الصحيفة إلى بيانات جيش الاحتلال الإسرائيلي لفترة التجنيد في مارس/آذار وأبريل/نيسان 2025، وكان من المقرر انضمام 1113 مهاجراً جديداً – 674 رجلاً و459 امرأة (ليس جميعهم جنوداً منفردين، إذ يصل بعضهم مع عائلاتهم). ويمثل هذا ارتفاعاً ملحوظاً عن السنوات السابقة؛ حيث تم تجنيد 883 مهاجراً جديداً خلال الفترة نفسها في عام 2024، و799 في عام 2023، وفقاً لصحيفة.
أدّت الجرائم الموثقة للمجازر في غزة إلى تحركات غير مسبوقة في بعض الدول التي يحمل جنسيّتها جنود يخدمون في الجيش الإسرائيلي. بل أصبحت قضية الجنود الوحيدون ومزدوجي الجنسية في جيش الاحتلال ذات اهتمام، وتمس احترام القانون في بعض البلدان، وتراوحت بين دعوات للمحاسبة القضائية وصولاً إلى إجراءات رسمية.
فرنسا: حيث يضم الاحتلال بين صفوف جيشه عدداً كبيراً من مزدوجي الجنسية الفرنسيين (قُدّر عددهم بحوالي 4000 خلال حرب غزة). أثار هذا الأمر استياء سياسيين فرنسيين من اليسار؛ ففي 24 ديسمبر/كانون الأول 2023، تقدم النائب توماس بورتيس (عن حزب "فرنسا الأبية") بشكوى جنائية عاجلة إلى النيابة العامة في باريس ضد 4185 جندياً إسرائيلياً من أصول فرنسية، متهماً إياهم بالتواطؤ في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.

كندا: تُعدّ كندا إحدى أبرز الدول المصدّرة للجنود الوحيدين إلى إسرائيل؛ إذ يُقدّر وجود المئات من الكنديين (غالبيتهم مزدوجو الجنسية) خدموا أو يخدمون في جيش الاحتلال. نشرت منظمة "ذا مابل" الكندية غير الربحية على موقعها الإلكتروني أسماء وتفاصيل شخصية لنحو 85 مواطناً كندياً خدموا في جيش الاحتلال جاء الكثير منهم عن طريق برنامج الجنود الوحيدون، مما أثار ضجة، ودفع ببعضهم إلى مهاجمة المنظمة علناً بحجة "معاداة السامية".
الولايات المتحدة: تُعتبر أكبر مصدر للجنود الوحيدين إلى إسرائيل (مئات سنوياً)، ولم تشهد بعد إجراءات قانونية تجرّم ذلك، فالقانون الأمريكي يسمح لمواطنيه بالخدمة في جيوش أجنبية طالما لا تقاتل الولايات المتحدة، وبالتالي لا توجد مخالفة قانونية مباشرة. مع ذلك، ومع استمرار المجازر بحق الفلسطينيين في غزة على يد جنود الاحتلال، ارتفعت أصوات نشطاء يطالبون على الأقل بإدراج من يثبت تورطه في جرائم حرب على قوائم الممنوعين من السفر أو العقوبات.
جنوب أفريقيا: اتخذت موقفاً صارماً بشكل رسمي. فهي تاريخياً من أشد المنتقدين للفصل العنصري الإسرائيلي. حذّرت مواطنيها صراحةً من الانضمام إلى جيش الاحتلال. وأصدر وزير خارجيتها في ديسمبر/كانون الأول 2023 بياناً قال فيه: "أي شخص ينضم إلى جيش الاحتلال دون الحصول على الإذن اللازم من NCCC يعد خرقًا للقانون ويمكن محاكمته". كما لوّحت جنوب أفريقيا بإمكانية سحب الجنسية من أي متجنّس يثبت قتاله لصالح الاحتلال.
منذ نشأته، يلطّخ الاحتلال يد العالم بدماء الفلسطينيين، فيستجلب مرتزقة من مدن بعيدة، مدفوعين إما بوهم البطولة، أو برغبة في الهروب من واقعهم، أو بوعود الامتيازات، أو ببساطة لأنهم لم يجدوا مكاناً ينتمون إليه. فيُعاد تشكيلهم داخل منظومة الاحتلال لخدمة مشروعه الاستعماري.