لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بشن حرب شرسة على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، خلّفت أكثر من 168 ألف قتيل وجريح من الفلسطينيين، بل تجاوز ذلك إلى استهداف كافة مقومات الحياة الأساسية في القطاع المحاصر بشكل غير مسبوق في انتهاك واضح للمواثيق الدولية.
وشمل ذلك استهدافاً ممنهجاً لموارد المياه الصالحة للشرب، واستخدام التجويع كسلاح حرب ومنع دخول شاحنات المساعدات الغذائية، فضلاً عن استهداف المنشآت الطبية ومقار الخدمات الأساسية.
يأتي ذلك بينما منعت إسرائيل مطلع مارس/آذار الماضي دخول أي مساعدات غذائية إلى غزة منذ أن رفض الاحتلال المضي قدماً في تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع.

وكتب مفوض عام الأونروا، فيليب لازاريني، في بيان على منصة إكس: "مليونا فلسطيني معظمهم أطفال ونساء يتعرضون لعقاب جماعي – كم تحتاج الإدانات حتى تتحول أفعالاً لرفع الحصار ولوقف إطلاق النار ولإنقاذ الإنسانية؟! – مرّ 50 يوماً على الحصار المفروض من إسرائيل، الجوع يتفاقم، وهو متعمد ومن صنع الإنسان."
كيف قتلت إسرائيل مقومات الحياة في غزة؟
أشارت تقارير غربية عدة وحتى إسرائيلية إلى الكيفية التي تقوم بها إسرائيل بشكل ممنهج باستهداف المقومات الحياتية الأساسية في غزة على النحو التالي:
أولاً: المياه
منذ مارس/آذار الماضي، لم يترك استهداف جيش الاحتلال المكثف للبنية التحتية للمياه لسكان غزة خياراً سوى شرب مياه البحر وتقنين الإمدادات الملوثة.
ورصدت مجلة 972 الإسرائيلية في تقرير نشرته تحت عنوان: "قصف محطات وقطع الأنابيب: إسرائيل تدفع أزمة المياه في غزة إلى حافة الهاوية" معاناة سكان غزة في الحصول على المياه الصالحة للشرب في ظل القصف الإسرائيلي المتواصل للبنى التحتية في القطاع.
ونقل التقرير عن وسام بدوي (49 عاماً)، أم لثمانية أطفال من غزة، قولها: "تم تدمير معظم أنابيب المياه بسبب تجريفها من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولا تستطيع البلدية إصلاحها".
وأضافت بدوي التي تتواجد في حي تل الهوى: "لا يوجد بئر قريب، لذلك يتعين علي أن أرسل أطفالي إلى البحر لجلب المياه للاستخدام اليومي. ثم أنتظر وصول شاحنات المياه حتى أتمكن من خلط المياه النظيفة مع مياه البحر لتقليل ملوحتها وجعلها صالحة للشرب".
وبسبب النقص الحاد في موارد المياه، ارتفعت أسعار المياه في أسواق غزة بشكل كبير.
وقالت بدوي: "تتراوح تكلفة جالون الماء من 5-8 شيكل (حوالي 2 دولار). نحتاج إلى حوالي خمسة جالونات يومياً للشرب والطهي، ومن الصعب علي تحمل ذلك. إلى جانب ذلك، لا يوجد أحد يبيع المياه في منطقتنا، لذلك إذا لم تصل شاحنات المياه، يجب أن أمشي لمسافات طويلة لشرائها".

وفي المناطق التي لا توجد فيها شاحنات لجلب المياه، يضطر العديد من سكان غزة إلى السير لأميال والوقوف في طوابير لساعات لملء حاوية واحدة عند البئر. ولكن حتى هذه الإمدادات تعاني من نقص متزايد، حيث تعرضت للقصف أو تعذر الوصول إليها بموجب أوامر الإخلاء الإسرائيلية.
وحذرت اليونيسف من أن أزمة المياه في القطاع وصلت إلى "مستويات حرجة"، مشيرة إلى أن واحداً فقط من كل 10 أشخاص يحصل حالياً على مياه الشرب النظيفة.
وأشارت بيانات حكومية في غزة إلى أن إسرائيل دمرت منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أكثر من 90% من بنية قطاع المياه والصرف الصحي ومنعت وصول الطواقم لإصلاح الأعطال واستهدفت العاملين أثناء أداء مهامهم.
ووفقاً لبيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي 719 بئراً للمياه منذ بدء الحرب. وفي 10 آذار/مارس الماضي، قطعت إسرائيل إمدادات الكهرباء المتبقية عن غزة، مما أجبر أكبر محطة لتحلية المياه في القطاع على تقليص عملياتها. وبعد بضعة أيام، توقفت ثاني أكبر محطة عن الخدمة بسبب نقص الوقود الناجم عن الحصار الشامل الذي تفرضه إسرائيل على القطاع.
فيما تعرض مصنع آخر للمياه، وهو مصنع غباعين في مدينة غزة، للقصف في أوائل نيسان/أبريل. وفي 5 نيسان/أبريل، أوقفت إسرائيل إمدادات المياه إلى غزة من شركة "مكوروت" الإسرائيلية، التي توفر ما يقرب من 70% من مياه الشرب في القطاع.
ولا تؤدي أزمة المياه في غزة إلى العطش فحسب، بل تؤثر أيضاً بشكل مباشر على صحة أولئك الذين يعانون من الأمراض.
وأشارت تقديرات أممية إلى أن عدد حالات التهاب الكبد الوبائي (أ) في غزة بلغ نحو 40 ألف حالة منذ بدء الحرب، مقارنة بنحو 85 حالة فقط في الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2022 إلى يوليو/تموز 2023 بسبب لجوء سكان القطاع إلى شرب المياه الملوثة.
ونقل تقرير مجلة 972 عن سمر زعراب، وهي مريضة بالسرطان تبلغ من العمر 45 عاماً من خان يونس، قولها إن نقص المياه يفاقم آلامها اليومية. وقالت: "جسدي الضعيف بحاجة ماسة إلى مياه شرب نظيفة".
ثانياً: الغذاء
بينما يزعم المسؤولون الإسرائيليون أنه "لا يوجد نقص" في المساعدات في غزة، تدق وكالات الإغاثة ناقوس الخطر بشأن الوضع المزري والمتدهور في القطاع، وفق تقارير.
وحذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية وبرنامج الأغذية العالمي من أن الإمدادات في القطاع تنفد، بحسب شبكة إن بي سي نيوز الأمريكية.
فيما استنكرت صحيفة هآرتس العبرية التجويع الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة، مشيرة إلى أنه بات سياسة معلنة ومصدر فخر لحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وقالت الصحيفة في افتتاحية عنونتها بـ"على إسرائيل أن تتوقف عن تجويع غزة" قبل عدة أيام، إن "هذه السياسة تستند إلى رواية شعبوية كاذبة تربط المساعدات الإنسانية المقدمة لسكان غزة بقدرات حماس العسكرية".

وتابعت الصحيفة مستنكرة ذلك الإجراء قائلة: "النتيجة جريمة إنسانية متواصلة".
ومضت: "تحت رعاية حكومة إسرائيل الكابوسية وإدارة (الرئيس الأمريكي دونالد) ترامب، أصبح تجويع إسرائيل لأكثر من مليوني فلسطيني أمراً طبيعياً تماماً".
وأشارت الصحيفة إلى أنه "لأكثر من ستة أسابيع، لم تدخل أي شحنات من الغذاء أو الدواء أو الخيام أو أي شكل آخر من أشكال المساعدات إلى القطاع".
وزادت: "ليس أعضاء حماس هم من يدفعون الثمن، بل مئات الآلاف من الأطفال والأمهات وكبار السن والفقراء".
وقالت إنه "وفقاً لمسح أجرته وكالات إنسانية في غزة، نُقل 3696 طفلاً إلى المستشفى في مارس/آذار وحده بسبب سوء التغذية الحاد".
"واضطر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إلى إغلاق جميع المخابز التي كان يديرها في جميع أنحاء القطاع، ويعتمد معظم السكان الآن على وجبة يومية واحدة تقدمها مطابخ الأمم المتحدة"، وفق الصحيفة.
وتابعت: "لا يستطيع معظم سكان غزة الحصول على طعام طازج، بما في ذلك اللحوم ومنتجات الألبان والبيض والخضراوات والفواكه".
ولفتت إلى "تفاقم أزمة الجوع الحادة بسبب نقص المياه النظيفة، وانتشار السكن في الخيام، وانهيار شبكات الصرف الصحي وجمع النفايات، وتدمير نظام الرعاية الصحية، وغيرها"، مبينة أن "كل هذه عوامل خطر تراكمية".
وقالت هآرتس: "إن المعاناة والموت الناجمين عن سياسة التجويع الإسرائيلية في غزة لا يُحققان أياً من أهداف الحرب. ولن يُفضي موت الأطفال بسبب سوء التغذية والمرض إلى إطلاق سراح الرهائن أو سقوط حماس".
واختتمت موجهة كلامها لحكومة نتنياهو: "يجب على إسرائيل استئناف تدفق المساعدات إلى القطاع فوراً، وعلى جميع دول العالم الضغط على إسرائيل بكل السبل الممكنة لإجبارها على ذلك".
من جانبه، حذر مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إسماعيل الثوابتة من أن 2.4 مليون فلسطيني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد والكارثي.
وأضاف في تصريحات نقلتها وكالة الأناضول أنه وفقاً لتقييم التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي IPC، فإن الأزمة تنذر بدخول أكثر من نصف مليون إنسان في المستوى الخامس (كارثي)، وهو أعلى مستويات المجاعة.

وتمتد حرب التجويع التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في غزة إلى الأطفال حديثي الولادة، حيث لم تدخل أي شحنات طبية أو غذائية مخصصة لحديثي الولادة منذ أكثر من شهر ونصف، في أطول فترة انقطاع منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، حسب إفادات طبية، ما تسبب في تدهور الرعاية الصحية وتهديد حياة عشرات الأطفال في الحضانات وأقسام الولادة.
وقالت فداء النادي، طبيبة الأطفال في مجمع ناصر الطبي، للأناضول، إن المستشفى يواجه أزمة كبيرة في توفير أنواع الحليب المناسبة للأطفال، وخاصة الذين يعانون مشكلات في الجهاز الهضمي، إلى جانب نقص شديد في الحفاضات والمستلزمات الأساسية.
ثالثاً: البنية التحتية والمستشفيات
تسبب القصف الإسرائيلي المتواصل في أضرار واسعة النطاق وكبيرة للبنية التحتية في جميع أنحاء غزة، وخاصة ما يتعلق منها بالمنشآت الطبية.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، أشارت تقديرات إلى أن 59.8٪ من المباني في قطاع غزة قد تضررت أو دمرت منذ بداية الحرب.
وأفاد مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (يونوسات) بأن 69٪ من جميع المباني قد دمرت أو تضررت في بداية ديسمبر/كانون الأول 2024. كما خلصت الأمم المتحدة إلى أن 68٪ من شبكة الطرق في القطاع قد تضررت أو دمرت.
وقتلت إسرائيل أكثر من 1400 طبيب وممرض فلسطيني في هجمات ممنهجة على الكوادر الصحية على قطاع غزة ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأبريل/نيسان 2025. وبحسب مكتب الإعلام الحكومي في غزة فإن "أكثر من 310 آخرين من الكوادر الطبية اعتقلوا وعذبوا وأعدموا في السجون والمعتقلات.
وخلال الحرب، منع جيش الاحتلال أيضاً دخول الإمدادات الطبية والوقود الصحية ومئات الجراحين إلى غزة، حيث يتهم مكتب الإعلام جيش الاحتلال باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج، ضمن خطة لتقويض المنظومة الصحية في غزة.
وبحسب بيانات للهلال الأحمر الفلسطيني في قطاع غزة، خرجت أكثر من 34 مستشفى (من أصل 36) عن الخدمة نتيجة تدميرها من قبل جيش الاحتلال، بالإضافة إلى تدمير 80 مركزاً صحياً، واستهدف أكثر من 134 سيارة إسعاف في أكثر من 480 هجوم إسرائيلي.

وقالت وزارة الصحة بقطاع غزة إن إسرائيل تمنع دخول تطعيمات شلل الأطفال منذ 40 يوماً، ما يهدد 602 ألف طفل بخطر الإصابة بشلل دائم وإعاقة مزمنة.
وأضافت الوزارة في بيان الثلاثاء، أن منع إدخال التطعيمات يعيق جهود تنفيذ المرحلة الرابعة لتعزيز الوقاية من شلل الأطفال.
وأفادت وزارة الصحة في أبريل/نيسان أن ما يقدر بنحو 80 ألف مريض بالسكري و110 آلاف مريض يعانون من ارتفاع ضغط الدم لم يعودوا تحت الرعاية.
فيما لحقت أضرار بأكثر من 90% من المرافق الصحية في غزة طوال عام 2024.