أعاد دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، زرع الارتباك في النظام العالمي، حين أخرج من جعبته خطة جمركية شاملة تهدف إلى قلب أسس التجارة الدولية، ما يخدم الهيمنة الاقتصادية للإمبراطورية الأميركية. وبدا كما لو أن العالم بأسره يُساق نحو الحافة، مدفوعاً بنزوات ملياردير اعتلى عرش الإمبراطورية، باحثاً عن مجد شخصي وسط حطام النظام الليبرالي القديم.
لكن هذه الخطة لم تهبط من السماء، فتقاطعات عدة بين خطاب ترامب وقراراته تشير إلى جذور أعمق، تعود إلى ورقة كتبها رئيس مجلس مستشاريه الاقتصاديين، ستيفن ميران، بعنوان "دليل المستخدم لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي"، نُشرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
في ورقته، يبدو أن ميران لا يتحدث بلغة الأرقام المجردة والحسابات، بل بصوت رجل أبيض يشعر أن بلاده دفعت ثمن رفاهية العالم من جيبها، وخسرت حلمها الصناعي مقابل صعود الآخرين. ولا تبدو هذه الرؤية للمظلومية الإمبراطورية جديدة، إذ تتماهى مع توجهات رموز التيار الترامبي مثل جي دي فانس، نائب الرئيس، وآخرين من الدائرة الداخلية للرئيس.
ربما يمكن رؤية خطة ميران أقرب إلى بيان سياسي مموّه بلغة اقتصادية: استخدام الرسوم الجمركية كذراع ضغط، لا مجرد أداة مالية؛ إعادة ترتيب علاقة واشنطن مع الحلفاء من بوابة "تقاسم الأعباء"؛ والتشكيك في هندسة النظام النقدي العالمي، الذي يعتبره لا يناسب العدالة الأميركية.
في خلفية خطة ميران تتوارى سردية المظلومية الإمبراطورية؛ ذلك الإحساس العميق بأن الولايات المتحدة، سيدة العالم بالأمس، باتت ضحية لنظام دولي صنعته بيديها. ودور ترامب في هذه الخطة هو المخلّص الذي سيعيد العدالة إلى الإمبراطورية المتعبة. فالعجز التجاري المزمن، والانهيار البطيء في صميم الصناعة الوطنية، ليست في نظره مجرد أرقام متعثرة في تقارير رسمية، بل أعراض لخلل بنيوي، مرض أعمق أصاب مكانة الولايات المتحدة في السلسلة الاقتصادية العالمية. والدواء الذي يصفه ميران؟ ليس إصلاح النظام، بل نسفه. قلب الطاولة… مرة أخرى.
ملامح خطة ستيفن ميران ومقترحاتها الرئيسية
في قلب خطة ميران رؤية جذرية لإعادة تصميم قواعد التجارة العالمية، بحيث تستعيد الولايات المتحدة زمام المبادرة الصناعية. ويقوم لب هذه الخطة على استخدام التعريفات الجمركية بشكل غير مسبوق منذ عقود، إلى جانب اتفاقات نقدية دولية لإضعاف الدولار عندما يلزم الأمر، وكل ذلك ضمن إستراتيجية كبرى تمزج الاقتصاد بالأمن القومي. يُلخّص محللون أن ميران "يُدمج التعريفات وتعديل العملات والاعتبارات الأمنية في إطار إستراتيجي واحد"، يهدف إلى تقوية الصناعة الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية للإمبراطورية الأمريكية.
وتأتي أبرز مقترحات هذه الخطة كما يلي:
- رفع التعريفات الجمركية بشكل واسع النطاق لكن تدريجياً: فرض تعريفة أساسية عامة لا تقل عن 10% على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة، مع تعريفات أعلى بكثير على دول معينة ذات اختلالات تجارية كبيرة. وبالفعل، في أجواء احتفالية، وقع ترامب أمراً تنفيذياً بفرض ما سماه "التعريفات المتبادلة"، لترتفع الرسوم الجمركية الأميركية من 2.5% فقط في عام 2024 إلى متوسط 22% على جميع الواردات، وفقاً لما ذكره أولو سونولا، رئيس أبحاث الاقتصاد الأميركي في وكالة "فيتش". وواصل ترامب رفع التعريفات الجمركية بشكل أعنف، مستهدفاً كل من يراه "ينهب السوق الأميركية". فجاءت الضربات كما يلي: فيتنام 46%، تايلند 36%، تايوان 32%، إندونيسيا وسويسرا 31%، جنوب أفريقيا 30%، الهند 26%، كوريا الجنوبية 25%، واليابان 24%.
وبينما تراجع ترامب بشكل مؤقت عن هذه الزيادات لمدة 90 يوماً، بقيت الصين خارج عفو ترامب المؤقت عن العالم، فاستُثنيت صراحة، وارتفعت الرسوم الجمركية عليها إلى145%، متجاوزاً بذلك حتى ما اقترحه ميران في خطته الأصلية، فميران كان قد طرح سيناريو تصعيد تدريجي: "يمكن للولايات المتحدة المضي قدماً في تطبيق التعريفات الجمركية تدريجياً إذا لم تستوفِ الصين هذه المطالب. قد تعلن عن جدول، على سبيل المثال، زيادة شهرية بنسبة 2٪ في التعريفات الجمركية على الصين، إلى الأبد، حتى يتم تلبية المطالب".

والهدف من كل ذلك واضح: إعادة تشكيل الحوافز التجارية على قاعدة جديدة – جعل الاستيراد مكلفاً، وتحفيز الإنتاج المحلي، وتوفير أداة ضغط تفاوضية قوية على طاولة المفاوضات مع الشركاء التجاريين.
- استخدام التعريفات كأداة تفاوض: لا ينظر ميران إلى التعريفات كغاية بذاتها، بل كوسيلة ضغط مؤقتة لإجبار الدول الأخرى على إعادة التفاوض؛ بمعنى أن فرض الرسوم أو التهديد بها سيُستخدم لدفع الشركاء إلى عقد صفقات جديدة، من وجهة نظره، أكثر إنصافاً لأميركا. على سبيل المثال، التلويح برسوم أشد قد يرغم الدول ذات الفوائض التجارية على تقديم تنازلات – سواء بفتح أسواقها أكثر أمام الصادرات الأمريكية، أو القبول باتفاقات نقدية تقلّل من قيمة الدولار لصالح الميزان التجاري الأميركي. ومن منظور ميران، التعريفات مجرد خطوة أولى، ستسبقها خطوات أخرى؛ إذ يُتوقَّع ارتفاع الدولار أولاً بسبب هذه التعريفات قبل أن ينعكس المسار لاحقاً إذا أحرزت الولايات المتحدة اتفاقات نقدية لصالحها.
- إعادة التفاوض على ترتيبات العملة العالمية (اتفاقات "مار-آ-لاجو"): يدرك ترامب وميران أن فرض الرسوم وحده لن يكون كافياً، بل قد يُفضي إلى نتيجة عكسية؛ إذ إن تدفق عائدات الرسوم، إلى جانب قوة الاقتصاد الأميركي النسبية، سيرفع قيمة الدولار تلقائياً، ما يُضعف القدرة التنافسية للصادرات الأميركية. لذا، يطرح ميران حلاً مكملاً يتمثل في تنظيم اتفاق دولي لخفض قيمة الدولار، شبيه بـ "اتفاقية بلازا" (وهي اتفاقية وُقّعت عام 1985 بين حكومات الولايات المتحدة، واليابان، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، لتقليل قيمة الدولار أمام عملات أخرى من خلال التدخل في أسواق صرف العملات). أُطلق البعض على هذه الفكرة اسم "اتفاق مار-آ-لاجو" (نسبة إلى منتجع ترامب في فلوريدا، الذي قد يستضيف المفاوضات بديلاً عن فندق بلازا الشهير).
وتقوم الفكرة على إقناع (أو ابتزاز) الشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة بالتدخل بشكل منسق لخفض سعر الدولار مقابل عملاتهم، مما يعزز القدرة التنافسية للصادرات الأمريكية بعد فترة من فرض الرسوم. هذه الخطوة معقدة، وتعترف حتى الجهات المؤيدة لها بأن تكرار نجاح 1985 في ظروف الاقتصاد الحالي أمر صعب للغاية، إذ يرون أنه من غير المرجّح أن تتعاون الدول مع هذا الاتفاق بحرية، لذلك، يجب أن يتم إقناعها بمزيج من الترهيب والترغيب بالموافقة. فحواريّو ترامب يرون أن الغاية تبرر الوسيلة، فهم يعتبرون "جذور الخلل التجاري تكمن في دولار مُقيَّم بأعلى من قيمته بسبب وضعه كعملة احتياط"، وبالتالي لا بد من معالجة سعر الصرف إلى جانب الرسوم لتحقيق إعادة التوازن.
- تقسيم الشركاء التجاريين إلى فئات (أخضر/أصفر/أحمر): تتبنى الخطة نهجاً تفاضلياً إزاء دول العالم، حيث ليس كل الشركاء سواء. تشير التقارير إلى أن فريق ترامب، بما في ذلك وزير الخزانة بيسنت، يدرس تصنيف الدول في مجموعات ملوّنة بحسب درجة تعاونها أو منافستها.
فالدول "الخضراء" هي الحلفاء والأصدقاء المستعدون للتعاون اقتصادياً وأمنياً مع أمريكا؛ سيُعرض عليها خفض الرسوم أو إعفاءات خاصة مقابل التزامها بسياسات مواتية لأهداف واشنطن (مثل رفع قيمة عملاتها أو زيادة استيرادها من أمريكا).
بالمقابل، الدول "الحمراء" (كالصين وروسيا، وربما دول أخرى يُنظر إليها كخصوم استراتيجيين) ستواجه تعريفات قاسية وشاملة، إذ تعتبر خارج فلك النفوذ الأميركي.
أما الفئة "الصفراء" فتشمل الدول المتأرجحة، التي يمكن كسبها أو معاقبتها وفق سلوكها بنظر العدالة الأميركية. فقد تنال صفقات جزئية (كخفض بعض الرسوم أو إعفاءات محدودة) إن استجابت جزئياً لمطالب واشنطن؛ فمن يقبل بالدخول تحت المظلة الأميركية يحصل على بعض الامتيازات التجارية، ومن يرفض ينتظره العقاب الاقتصادي.
- ربط التجارة بالأمن والدفاع ("تقاسم الأعباء"): أحد العناصر اللافتة في رؤية ميران هو اشتراط مساهمات الحلفاء المادية في كلفة الهيمنة الأمريكية. إذ يجادل ميران أن أمريكا وفرت "سلعاً عامة عالمية" لعقود – أمن عالمي عبر الجيش، وسيولة دولية عبر الدولار – دون أن تدفع الدول الأخرى نصيبها العادل. فخلال حديثه في معهد هدسون، جادل ميران بأن دور أمريكا في توفير الاستقرار العالمي – عسكرياً ومالياً – قد ألقى "عبئاً لا داعي له" على كاهل العمال والصناعات الأمريكية. وقال: "أوضح الرئيس ترامب أنه لن يقبل بعد الآن أن تستغلّ دولٌ أخرى دماءنا وعرقنا ودموعنا، سواءً في مجال الأمن القومي أو التجارة".
وعليه، يقترح ميران مطالبة الحلفاء والدول المستفيدة بسلسلة من التنازلات المادية، تحت شعار تصحيح النظام الذي يراه هو وأصدقاؤه الأميركيون غير عادل. من بينها: قبولهم فرض الرسوم الأمريكية على صادراتهم دون ردٍّ انتقامي، وفتح أسواقهم بشكل أكبر أمام المنتجات الأمريكية، وزيادة إنفاقهم الدفاعي وشراء أسلحة أمريكية لدعم الصناعات العسكرية الأمريكية، وكذلك إقامة مصانع واستثمارات في الولايات المتحدة لتوفير الوظائف محلياً. بل يصل الأمر إلى اقتراح "مساهمات مالية مباشرة" من حكومات أجنبية إلى الخزانة الأمريكية لمعادلة كلفة الالتزامات الأمنية والاقتصادية الأمريكية – وهو مطلب غير مألوف، وكأنه نوع من "الإتاوات" في ثوب حديث.

- توظيف عائدات الرسوم لخدمة الداخل الأميركي: (اقتصاد بتمويل خارجي) على الصعيد الداخلي، ترى خطة ميران عائدات الرسوم الجمركية كأداة مزدوجة: إذ ستكون أداة لتحسين المالية العامة، وتمويل سياسات تصب في مصلحة المواطن الأميركي. ويحاجج ميران أن الرسوم المفروضة على الصين 2018–2019 موّلت فعلياً التخفيضات الضريبية التي أقرّها ترامب لصالح العمال والشركات الأمريكية خلال فترته الأولى.
ويبدو اليوم أن تطلعات ميران أكثر جموحاً، إذ يرى أن "في هذه المرة ستُستخدم عائدات الرسوم لتمويل مزيد من التخفيضات الضريبية وتقليص العجز المالي"، وبذلك يُحمَّل العالم فاتورة تخفيض ضرائب الأمريكيين. يذهب ميران أبعد ليزعم أن خفض العجز بفضل هذه الإيرادات سيُخفض أسعار الفائدة (على سندات الخزانة، والرهون العقارية، وبطاقات الائتمان)، مما يُحفز طفرة اقتصادية داخلية، فيما يُسميه "العصر الذهبي الجديد لترامب".
بمعنى آخر، يحاول ميران رسم صورة وردية "لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، حيث الأموال الأجنبية (عبر الرسوم أو مساهمات الحلفاء) ستموّل الانتعاش الاقتصادي الأمريكي دون كلفة على دافع الضرائب المحلي. هذه الوعود جذابة سياسياً بلا شك، لكنها محط تشكيك كبير كما سنرى لاحقاً.
من هو ستيفن ميران وكيف يشرح المظلومية الإمبراطورية الأمريكية؟
حين أعلن دونالد ترامب عن خطة جمركية شاملة أربكت الأسواق وأشعلت أجهزة الإنذار في عواصم المال، ظن كثيرون أنها مجرد ضربة ارتجالية من رجل اعتاد المبالغة والاستعراض. فترامب، الملياردير التلفزيوني الذي يقدّم نفسه على أنه "صانع الصفقات"، بدا وكأنه يوجّه ضرباته على غير هدى: يهاجم الصين، ثم يعاقب الحلفاء! فكيف يستقيم ذلك لمن يُفترض أنه يسعى لتقليم أظافر بكين لا لتفكيك التحالفات الغربية؟
لكن ما بدا لأول وهلة تصرفاً متحمساً وفوضوياً، اتضح لاحقاً أنه جزء من رؤية أكثر عمقاً وتشابكاً، صاغ ملامحها مستشارون اقتصاديون يعملون في ظل الرئيس، وعلى رأسهم ستيفن إيرا ميران، أحد العقول المحركة للأجندة الاقتصادية الترامبية.
ميران، الذي تولّى رئاسة مجلس المستشارين الاقتصاديين، ليس مجرد بيروقراطي جمهوري، بل هو اقتصادي متمرس بخلفية أكاديمية صلبة: خريج جامعة بوسطن عام 2005، حيث درس الاقتصاد والفلسفة والرياضيات، وحاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة هارفارد عام 2010، حيث كان أحد طلاب مارتن فيلدشتاين، الاقتصادي الأمريكي البارز الذي ترأس لجنة الدراسات الاقتصادية (CEA) خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي.
ميران أيضاً لا ينتمي إلى البرج الأكاديمي العاجي؛ فخبرته العملية في الأسواق المالية لا تقل عن خلفيته الأكاديمية، إذ يشغل أيضاً منصب كبير الاستراتيجيين في شركة "هدسون باي كابيتال مانجمنت"، كما أنه زميل في معهد مانهاتن في نيويورك، وهي مؤسسات تعكس مزيجاً من الواقعية السوقية والرؤية الأيديولوجية.
يشرح ميران المظلومية الإمبراطورية لأمريكا عبر سردية ترى أن الولايات المتحدة تتحمّل أعباءً غير متكافئة في قلب النظام المالي العالمي: تبدأ من هيمنة الدولار كعملة احتياط، ولا تنتهي عند العجز التجاري المزمن والانهيار الصناعي المتسارع. في هذا السياق، يستحضر ميران ما يُعرف بـ "معضلة تريفين" – وهو مفهوم اقتصادي راسخ يُبرز التناقض بين الحفاظ على عملة عالمية وضمان الاستقرار الاقتصادي المحلي.
فالعالم يطلب الدولار بكثافة، ما يُبقي على قيمته مرتفعة بشكل دائم، ويجعل السلع الأميركية باهظة الثمن، مقابل تدفق واردات رخيصة تُقصي الصناعة الوطنية. فيقفز ميران إلى نتيجة تقول: تآكل القاعدة الصناعية، اختفاء الوظائف، وموت بطيء لصناعة كانت قلب الحلم الأميركي.
يُشبّه ميران هذا النموذج الأميركي بـ "الداء الهولندي" – على غرار ما يحدث في الدول الريعية، كالدول التي تعتمد اقتصادها على النفط أو ثروات طبيعية أخرى – فتُضخَّم قيمة عملتها بشكل مُصطنع وتُدمَّر الصادرات الصناعية والقطاعات الإنتاجية.
ويوضح ميران أنه مع استمرار نمو الاقتصاد العالمي واتساع حاجته للدولارات مقارنة بحجم الاقتصاد الأميركي، يتفاقم هذا العبء النسبي على أمريكا بمرور الوقت. ويلفت ميران إلى أنه فيما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت حصة أمريكا من الاقتصاد العالمي ضخمة (حوالي 40% في الخمسينات)، فتمكنت من أداء دور المزود المالي دون ضرر بالغ، أما اليوم فحصة الولايات المتحدة أقل من (25%)، ولا توجد عملة بديلة منافسة بالكامل، مما يجعل الكلفة، من وجهة نظر ميران، على القطاعات الأميركية المنتجة فادحة ومتواصلة.
يرى ميران أيضاً أن هذا الخلل تفاقم في ظل سياسات تجارية دولية غير متكافئة. فالولايات المتحدة منذ عقود أبقت تعريفاتها الجمركية منخفضة جداً مقارنة بمعظم الدول الأخرى، ما خلق ساحة لعب غير متوازنة لصالح الواردات. فبحسب بيانات منظمة التجارة العالمية، يبلغ متوسط التعريفة الأميركية على الواردات نحو 3% فقط، وهو الأدنى عالمياً، فيما يفرض الاتحاد الأوروبي حوالي 5%، والصين10%وسطياً. بعض الدول النامية تفرض تعريفات أعلى بكثير (على سبيل المثال، بنغلادش حوالي 15%). إضافةً إلى ذلك، يوضح ميران في ورقته أن دولاً كثيرة تستخدم حواجز غير جمركية، كدعم الصناعة المحلية، وسرقة الملكية الفكرية، وغيرها.
في نظر ميران، فتحت أمريكا أسواقها بسخاء بعد الحرب العالمية الثانية، بينما حافظت دول أخرى على قدر من الحماية، فازدادت عدم تناظرية الانفتاح التجاري. هذا جعل المنتجين الأميركيين في وضع أصعب، حتى لو تساوت أسعار الصرف، فكيف إذا كان الدولار قوياً فوق ذلك.
من هذا المنطلق، يخلص ميران إلى معادلة مفادها: الدولار القوي بسبب دوره الاحتياطي + السياسات التجارية غير العادلة = تدهور الصناعة الأميركية. وهكذا، تحوّلت أمريكا من مصنعٍ للعالم يصدر السلع، إلى صرافة تصدر الدولار والأصول المالية، وتستورد كل شيء تقريباً. وبهذا، تتسع الهوة يوماً بعد يوم بين وول ستريت، مخزن الأموال، وديترويت، حيث المصانع الصدئة.
بين سموت–هاولي وترامب: هل تتكرر أخطاء الماضي؟
رغم ذلك، يرى العديد من الاقتصاديين مبالغةً وقصوراً في هذه الرؤية، إذ يعتبرون أن علاقة الدولار بالعجز والتصنيع معقدة ومحل جدل. وطرح ميران يُمثّل رؤية "مغايرة للإجماع التقليدي" (الذي كان يعتبر أن عجز الميزان التجاري مشكلة ثانوية طالما الاقتصاد قوي). فقد قلب ميران المعادلة ليجعل من العجز التجاري المزمن دليلاً على خلل هيكلي وتهديد للأمن القومي الأميركي. وهذا بحد ذاته تطور في الخطاب الاقتصادي السياسي الأميركي. لكن النقد الاقتصادي السائد يُحذّر من حلول ميران، إذ يعتبر أنها قد تعالج عرضاً واحداً (العجز التجاري)، لتُحدث سلسلة أعراض مرضية أخرى.
إذ يرى ميران أن خطته ستشعل نهضة اقتصادية بتمويل أجنبي (رسوم وتمويلات حلفاء) مع تجنّب الآثار التضخمية. لكن معظم الخبراء يخالفونه الرأي؛ إذ يُحذّر اقتصاديون من أن هذه السياسات قد تكون انكماشية وتضخمية معاً – أي أسوأ ما في الأمرين. تقرير لمصرف ABN Amro بعنوان "التعريفات ليست الهدف النهائي" خلص إلى أن الخطة الشاملة المقترحة "ذات طبيعة تضخمية وتضغط على النمو". السبب: فرض تعريفات عالية سيرفع أسعار الكثير من المنتجات المستوردة (من الإلكترونيات إلى الملابس)، مما يُولّد ضغوطاً تضخمية داخلية قد لا يمكن تعويضها بالكامل بانخفاض العملة الأجنبية. وفي الوقت نفسه، أي تراجع لاحق في الدولار عبر اتفاق مار-آ-لاجو سيجعل الواردات أغلى أكثر، وربما يرفع تكلفة الاقتراض الدولي، ما يضيف مزيداً من التضخم.
هذا المزيج – ارتفاع الأسعار وتقلبات سعر الصرف – يُحدّ من النمو، لأن الاستهلاك يتضرر، وكذلك الاستثمار، مع ازدياد حالة عدم اليقين. آدم بوزن (رئيس معهد بيترسون) كتب مقالة بعنوان "الحروب التجارية من السهل خسارتها" يشير فيها إلى أن الولايات المتحدة قد لا تتحمل حرب رسوم متصاعدة مع الصين، لأنها ستضر اقتصادها بقدر ما تضر خصومها، وربما أكثر. بينما يشير الخبير موريس أوبستفلد (كبير اقتصاديي صندوق النقد الدولي السابق) في ورقة حديثة بعنوان "العجز التجاري الأميركي: الخرافات والحقائق" إلى أن زيادة الرسوم الجمركية لن تُقلل كثيراً من العجز التجاري الأميركي، وربما لن تمنع تفاقمه.
ويشير محللون إلى تجربة الثمانينيات: بعد اتفاق بلازا 1985، ارتفعت العملات الأجنبية (الين والمارك) بشدة، مما ساعد الصناعات الأميركية قليلاً، لكنه ساهم أيضاً في ركود باليابان وأوروبا، وخلق اختلالات (مثل فقاعة الأصول في اليابان ثم انفجارها مطلع التسعينيات). اليوم، الاقتصاد العالمي أكثر تعقيداً وتشابكاً، وربما أي تحرك عنيف على صعيد الدولار قد يرتد بطرق غير متوقعة.
خطة ميران، رغم غلافها التفاؤلي، تعكس في جوهرها مقامرة اقتصادية. صحيح أنها تُسوَّق كأداة ضغط تفاوضي وليست مساراً دائماً، لكن الدروس التاريخية تقول إن نيران الحروب التجارية، متى اشتعلت، لا يُسهل احتواؤها.

فعلى سبيل المثال، ما جرى في ثلاثينيات القرن الماضي مع تعريفة سموت–هاولي: بعد أزمة 1929، سعى المشرّعون الأميركيون إلى حماية الصناعات المحلية من المنافسة الأجنبية عبر رفع الرسوم الجمركية بشكل غير مسبوق على مئات السلع. لكن النتيجة لم تكن إنعاشاً اقتصادياً، بل سلسلة من الانتقامات التجارية حول العالم. فكثير من الدول حينها ردّت برفع رسومها، ما تسبب في تراجع حادّ في التجارة العالمية خلال سنوات قليلة. وبدلاً من الخروج من الكساد، تعمّق الركود أكثر، وأصبح درس سموت–هاولي لاحقاً مثالاً صارخاً على كيف يمكن للحمائية أن تقود إلى كارثة عالمية.
وفي مثال أقرب، نرى كيف اضطُر جورج دبليو بوش في عام 2003 إلى التراجع عن رسوم فرضها على واردات الصلب بعد ضغوط شديدة من شركاء تجاريين رئيسيين. في البداية، جاءت الخطوة لحماية شركات أميركية متعثرة، لكن سرعان ما بدأت الصناعات الأميركية الأخرى – من السيارات إلى الآلات – تعاني من ارتفاع أسعار المواد الخام. الاتحاد الأوروبي هدّد بردٍّ قاسٍ يستهدف صادرات زراعية من ولايات حساسة انتخابياً، فيما قضت منظمة التجارة العالمية بأن هذه الرسوم غير قانونية. وأمام التكاليف الاقتصادية والسياسية، لم يجد البيت الأبيض خياراً سوى التراجع. هذان المثالان لا يعكسان فقط مخاطر الخطوات الانفرادية، بل يُسلّطان الضوء على منطق النظام التجاري العالمي: أي خطوة عدوانية لا تمرّ بلا ثمن، وغالباً ما يكون الثمن مشتركاً.
إذ يتوقع كثيرون أن تقوم تلك الدول بالمثل على الصادرات الأميركية (رغم تهديدات ترامب بمعاقبة أي رد). ربما دول حليفة صغيرة ستتردد خوفاً، لكن قوى كبيرة كالصين والاتحاد الأوروبي لن تقف مكتوفة الأيدي – فقد رأينا كيف ردّت الصين في أبريل/نيسان 2025 بفرض رسوم جمركية انتقامية بقيمة 125% على بضائع أميركية، رداً على ترامب. ويُحذّر كثير من الاقتصاديين من وقوع سيناريو مشابه أو أشدّ هذه المرة، ما قد يُدخل الاقتصاد العالمي في "أمّ الحروب التجارية" إذا لم تُلجم. ولنا أن نتخيّل أثر ذلك على سلاسل التوريد وأسعار السلع عالمياً.
خطة ميران تدّعي أنها تتعلم من الماضي، فتقول إن الرسوم مؤقتة وإن الردود الانتقامية يجب تجنبها. لكن الحقيقة أن طموحها، واتساع نطاقها، قد يجرّ إلى تكرار نفس المزالق إذا لم يُحسن صانعو القرار ضبط النفس. ومع تعاظم الترابط بين الأسواق، فإن الفشل لن يكون اقتصادياً فقط، بل قد يمس استقرار النظام الدولي كله.