عاش العالم خلال الساعات الماضية حالة من الارتباك بسبب تصريح لا يتجاوز بضع كلمات أطلقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، متوعداً حماس بالجحيم إذا لم تفرج عن جميع الأسرى.
غرق الجميع، بمن فيهم حكومة الاحتلال الإسرائيلي، في تفسير ما كان يقصده ترامب، وانبرى المراقبون يتساءلون: هل كان يقصد الإفراج عن الأسرى الثلاث المتفق على تسليمهم السبت، أم عن جميع أسرى المرحلة الأولى، أم كل الأسرى لدى المقاومة؟
توقع المراقبون أن يؤدي هذا الوضع الملتبس إلى عرقلة الاتفاق وربما عودة الحرب من جديد في غزة.
هذه التصريحات المندفعة للرئيس الأمريكي ليست مستغربة عن نهجه في التعاطي مع الملفات الدولية والمحلية أيضاً، فالرجل يدير السياسة الدولية كما يدير صفقاته العقارية، غير مكترث بالعواقب طويلة المدى، بل يركز على تحصيل مكاسب آنية، حتى وإن أدى ذلك إلى إشعال مزيد من الأزمات.
عاد ترامب إلى الحكم بعد أن تجاوز كل العقبات القانونية والسياسية التي كان يُفترض أن تنهي مسيرته، من مجرم مدان إلى مرشح كاد أن يُغتال مرتين، ومن رجل أعمال مثير للجدل إلى رئيس لأقوى دولة في العالم. هذا الصعود الدرامي عزّز لديه إحساساً بأنه لا يُقهر، وأن بإمكانه فرض إرادته على الجميع، دون الحاجة إلى الالتزام بأي قواعد.
وفي وقت يشعر فيه العالم أن النظام الدولي الذي اعتاد عليه آخذ في التآكل، يقدّم ترامب نفسه كقائد صارم يعيد ضبط الأمور، لكنه في الواقع يكرّس مزيداً من عدم الاستقرار، داخلياً وخارجياً، مدفوعاً بنهج شعبوي قائم على الصدام والمفاجآت.
وكما يفعل المقامر الذي لا يتوقف عن المراهنة، يدير ترامب السياسة الدولية كما لو كانت سوقاً مالية مضطربة، حيث المكاسب السريعة أهم من الاستقرار طويل الأمد، وحيث القرارات تُتخذ بناءً على نزواته الشخصية لا على أسس استراتيجية. فكيف بدأ ترامب في نشر الفوضى فور عودته إلى البيت الأبيض؟
بعد إعادة انتخابه، وبمساعدة صديقه، الملياردير إيلون ماسك، أطلق دونالد ترامب العنان لفوضى سياسية عالمية غير مسبوقة، مستغلاً وتيرة سريعة من الأوامر التنفيذية والتصريحات الصادمة، في استراتيجية جديدة تهدف إلى شلّ أي معارضة محتملة قبل أن تتمكن حتى من الرد.
وما يجري الآن هو ما يسميه مستشارو ترامب بـ"إغراق المنطقة"، حيث يتم إطلاق سلسلة من القرارات الرئاسية المتلاحقة والتصريحات المتفجرة، بوتيرة تجعل من المستحيل على خصومه السياسيين أو الإعلاميين مواجهتها أو حتى معالجتها بشكل فعال. هذه الاستراتيجية لا تمنح أي طرف فرصة لالتقاط الأنفاس، فبينما يحاولون التعامل مع أزمة، يكون ترامب قد فجّر أخرى، محوّلاً السياسة إلى معركة استنزاف لا تنتهي.
"فافو" (FAFO): الفوضى كنهج سياسي
عندما سُئل ترامب عن هذا الأسلوب، رد بكلمة واحدة: "فافو" (FAFO)، وهو اختصار لعبارة تعني "اخلق الفوضى، ثم رتبها لاحقاً"، ولم يكتفِ بذلك، بل نشر هذا الاختصار على منصاته في وسائل التواصل الاجتماعي، مصحوباً بصورته مرتدياً قبعة فيدورا وبدلة مخططة، ليبدو وكأنه رجل عصابات في عشرينيات القرن العشرين.

كندا ولاية أمريكية!
فلم يمر شهر على عودته، ورغم ذلك بات على العالم التعامل يومياً مع تصريحات ترامب العبثية، ففي خطوة أثارت جدلاً واسعاً متجدداً، نشر الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب قبل تنصيبه، يوم الأربعاء 8 يناير 2025، صورتين تظهران خريطة للولايات المتحدة وقد ضمت إليها كندا، وفي منشور على منصة "تروث سوشيال" علق ترامب على إحدى الصور التي تظهر الخريطة الموحدة لأمريكا وجارتها الشمالية معاً تحت العلم الأمريكي قائلاً: "أوه كندا!". وقبل نشر هاتين الصورتين، تعهد ترامب باستخدام "القوة الاقتصادية" ضد كندا، الحليف المجاور، داعياً لضمها إلى أراضي الولايات المتحدة واعتبارها "الولاية 51″، على حد تعبيره.
ومنذ انتخابه رئيساً في الخريف الماضي، هاجم ترامب كندا ودعا إلى ضمها، وقال إن "اندماج كندا والولايات المتحدة سيكون خطوة إيجابية". وأضاف: "تخيلوا ما سيبدو عليه الوضع عند التخلص من هذا الخط المرسوم بشكل مصطنع.. سيكون ذلك أيضاً أفضل كثيراً على صعيد الأمن القومي". ورداً على تصريحاته، أكد رئيس الوزراء الكندي المستقيل جاستن ترودو ووزيرة خارجيته ميلاني جولي، أن بلدهما "لن تنحني" أمام تهديدات ترامب. وشدد ترودو على أن "كندا لن تكون أبداً، على الإطلاق، جزءاً من الولايات المتحدة".
منذ وصوله للحكم في الولاية الأولى عام 2017 أثار ترامب العديد من الأزمات مع الدول حتى تلك الحليفة للولايات المتحدة، وكان من أبرز عناوين هذه الأزمات ملف إعادة النظر برسوم التعريفات الجمركية للاتحاد الأوروبي والصين وكندا ودول أخرى، حيث طالب بتعديل شامل للاتفاقية التجارية التي أُقرّت قبل 25 عاماً مع كندا، معتبراً أنها "كارثة" للولايات المتحدة و"تهدد أمنها القومي".

بناءً على ذلك، فرض ترامب سلسلة من الرسوم الجمركية على كندا في صيف 2018 ضمن خطته الاقتصادية "أمريكا أولاً" وذلك لتخفيض العجز في الميزان التجاري عبر تحويل السياسة التجارية الأمريكية من اتفاقيات التجارة الحرّة متعددة الأطراف إلى صفقات تجارية ثنائية.
ما إن عاد ترامب إلى البيت الأبيض حتى أطلق العنان لنهجه الاقتصادي العدواني، متجاهلاً تحذيرات الخبراء والمؤسسات الاقتصادية العالمية، وسريعاً ما وقع أوامر تنفيذية بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع واردات الصلب والألمنيوم إلى الولايات المتحدة من كافة الدول بلا استثناء. ما فجّر غضب الشركاء التقليديين لواشنطن، وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي وكندا والصين، ودفع العواصم الكبرى إلى البحث عن رد جماعي لمواجهة الإجراءات الحمائية الأمريكية.
وفي حين تبدي كندا ندية مع الولايات المتحدة، أعلن رئيس الوزراء جاستن ترودو في خطاب شديد اللهجة أن بلاده ستفرض رسوماً جمركية انتقامية على المنتجات الأميركية.
وقال ترودو إن كندا "ستفرض رسوماً جمركية بنسبة 25% على ما مجموعه 155 مليار دولار كندي من المنتجات الأميركية، مع بدء تطبيق هذه الإجراءات الثلاثاء على بضائع بقيمة 30 مليار دولار أميركي".
احتلال جرينلاند!
لا ينفك الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب التخطيط للاستحواذ على القطب الشمالي، حيث أعاد ترامب طرح فكرة شراء جزيرة جرينلاند، أكبر جزيرة في العالم التي تتمتع بحكم ذاتي تحت السيادة الدنماركية، وهو مقترح أثار جدلاً واسعاً خلال ولايته الرئاسية السابقة. لكن هذه المرة، يبدو أن ترامب يتبنى نهجاً أكثر جدية، ما أثار فزع الأوروبيين، حيث صرح بأنه "لا يستبعد استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية" مثل فرض رسوم جمركية على الدنمارك، لإجبارها على تسليم الجزيرة الغنية بالنفط والغاز الطبيعي إلى جانب العديد من المعادن الحرجة ذات الأهمية الاستراتيجية.
وقال ترامب في منشور على موقع Truth Social الخاص به: "جرينلاند مكان رائع، وسوف يستفيد الناس منه بشكل كبير إذا أصبحت جزءاً من أمتنا". وأضاف أثناء قيام ابنه "دونالد ترامب جونيور" بزيارة خاصة إلى جرينلاند الثلاثاء 7 يناير 2025: "هذه صفقة يجب أن تتم". وفي وقت سابق قال ترامب إن السيطرة على جرينلاند "ضرورة مطلقة" للولايات المتحدة. ويذكر أن ترامب أعرب لأول مرة عن اهتمامه بشراء الجزيرة من الدنمارك التي يغطي أجزاء واسعة منها الجليد ويبلغ عدد سكانها 57 ألف نسمة فقط، في عام 2019 ولكن ذلك المقترح تم رفضه.

بحسب مجلة "الإيكونومست"، ترى أن التاريخ لن يكون لطيفاً مع دونالد ترامب إذا حصل على جرينلاند من الدنمارك بالإكراه. وربما سوف تخسر أمريكا أصدقاءها إذا ما أرغمت أحداً على التنازل عن أراض.
ورغم أن غالبية سكان جرينلاند يريدون الاستقلال، فإن قلة منهم يرون أن الاستقلال الكامل أمر قابل للتطبيق نظراً لاعتمادهم الاقتصادي على الدنمارك، التي تعد جزءاً من الاتحاد الأوروبي الغني. وقد يكون أحد الخيارات هو تشكيل ما يسمى بميثاق "الارتباط الحر" مع الولايات المتحدة كما تقول "رويترز"، على غرار وضع دول جزر المحيط الهادئ مثل جزر مارشال وميكرونيزيا وبالاو.
لكن أولريك برام جاد، الباحث والخبير في شؤون جرينلاند، قال لـ"رويترز": "جرينلاند تتحدث عن الاستقلال عن الدنمارك، ولكن لا أحد من سكان جرينلاند يريد التحول إلى سيد استعماري جديد". مشيراً إلى أنه من غير المرجح أن تصوت جرينلاند لصالح الاستقلال دون ضمان رفاهية سكانها.
فوضى ترامب تهدد أوروبا والناتو
منذ ولايته الأولى لم يؤمن دونالد ترامب بالتحالفات التقليدية التي صنعت النفوذ الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، بل رأى فيها عبئاً مالياً أكثر من كونها أدوات لضمان الهيمنة الأمريكية. وضمن هذا المنطق، لم يتردد في اعتبار الاتحاد الأوروبي كخصم اقتصادي، ففرض عليه تعريفات جمركية أيضاً، ما دفع رئيسة المفوضية الأوروبية بإعلانها أن أوروبا سترد باتخاذ تدابير مضادة صارمة ومتناسبة لحماية مصالحها الاقتصادية.
لا تعرف فوضى ترامب حدوداً، فمنذ ولايته الأولى وهو يلوّح مراراً بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إذ لا يرى في هذا التحالف العسكري التاريخي سوى "صفقة غير عادلة"، ينظر إليها بعقلية رجل الصفقات الذي لا يرى في السياسة سوى أرقام وحسابات مالية. بحجته الدائمة أن الولايات المتحدة لم تعد مضطرة للدفاع عن أوروبا على حساب دافعي الضرائب الأمريكيين.
لكن هذا المنطق الترامبي في السياسة يتجاهل حقيقة جوهرية لطالما شكّلت ركيزة الاستراتيجية الأمريكية، وهي أن الناتو ليس مجرد تحالف عسكري، بل أحد أعمدة السيطرة الأمريكية على النظام العالمي. فمنذ تأسيسه، لم يكن الهدف من الناتو مقتصرًا على ردع الاتحاد السوفييتي (ثم روسيا لاحقاً)، بل كان أداة لضمان استمرار الهيمنة الأمريكية على أوروبا ومنع أي قوة من منافستها هناك. وهو ما لخصه أول أمين عام للحلف، هاستينغز إسماي، في عبارته الشهيرة حول دور الناتو: "إبقاء الروس خارجاً، والأمريكيين في الداخل، والألمان تحت الوصاية".

وبحسب أستاذ العلوم السياسية ألكسندر كولي والباحث دانييل نيكسون في مقال مشترك، فإن فوضى ترامب تهدد استقرار الحليف الأكبر لأمريكا، إذ إن حلف الناتو لم يكن مجرد مظلة عسكرية، بل كان صمام أمان ضد انفلات القوى الأوروبية. فمنذ تأسيسه، لم يهدف فقط إلى ردع روسيا، بل لعب دورًا محوريًا في:
- منع ألمانيا من تهديد جيرانها مجددًا، عبر دمجها في منظومة أمنية تسيطر عليها واشنطن.
- تقليل احتمالات الصراعات بين الدول الأعضاء، مما ساهم في استقرار أوروبا لعقود.
- منع ظهور قوة أوروبية منافسة يمكنها تحدي النفوذ الأمريكي.
- استعادة الحديقة الخلفية لواشنطن بالتهديدات والابتزاز
استعادة الحديقة الخلفية لواشنطن بالتهديدات والابتزاز
على الرغم من أن السياسة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية لم تتغير جوهريًا على مدار العقود، إلا أن ترامب منحها طابعًا أكثر عدوانية وصدامية، دمج فيه بين الأيديولوجيا القومية المتطرفة والمصلحة الاقتصادية، ما جعل خطابه وسياساته أكثر شراسة من سابقيه. فبدلًا من ممارسة النفوذ الأمريكي عبر أدوات الهيمنة التقليدية، لجأ إلى أساليب أكثر فظاظة: التهديد العلني، الابتزاز الاقتصادي، والتلميح بالقوة العسكرية.
تهديد قناة بنما: إعادة إنتاج عقلية الهيمنة الإمبريالية
أعاد ترامب إلى الواجهة خطاب الهيمنة الأمريكية المباشر على أمريكا اللاتينية، مهددًا باستعادة السيطرة الأمريكية على قناة بنما، بحجة أن الدولة الصغيرة تفرض رسومًا مفرطة على استخدام الممر المائي الاستراتيجي. هذا التصريح الذي أطلقه خلال إحدى تجمعاته الانتخابية لم يكن مجرد مزايدة سياسية، بل تذكير صريح بأن "مبدأ مونرو" لا يزال حاضرًا في ذهنية ترامب وفريقه، حيث تنظر واشنطن إلى القارة اللاتينية على أنها حديقة خلفية يجب أن تبقى تحت سيطرتها المباشرة.
ادّعى ترامب أن الصين تسيطر على قناة بنما، وأن السفن الأمريكية "تتعرض للنهب" بسبب رسوم العبور. الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة من جانب السلطات الرسمية والمعارضة في بنما، وفي مقدمتهم الرئيس خوسيه راؤول مولينو. وقدمت الحكومة البنمية شكوى في الأمم المتحدة عقب تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاستيلاء على قناة بنما.
تهديد المكسيك إقتصادياً
في إطار سلسلة من الإجراءات التنفيذية بعد ساعات من توليه منصبه، أقدم دونالد ترامب على خطوة رمزية مثيرة للجدل، حيث قام رسمياً بتغيير اسم خليج المكسيك إلى "خليج أمريكا".
ورغم اتفاق التجارة الحرة الذي يجمع واشنطن بكندا والمكسيك، وقع ترامب فور عودته قراراً بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على البلدين، مبرراً إجراءاته "الطارئة" بمكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب الفنتانيل إلى الولايات المتحدة.
رفضت المكسيك البيان الأمريكي الذي اتهمها بعلاقات مع عصابات المخدرات، وهو المبرر الذي استخدمه ترامب لفرض الرسوم. وأكدت الرئيسة المكسيكية أنها وجهت وزير اقتصادها لتنفيذ "الخطة ب"، التي تتضمن إجراءات مضادة، قد تشمل فرض رسوم على الصادرات الأمريكية.
وفي مواجهة تصاعد ردود الفعل، أقر ترامب بأن الأمريكيين قد يشعرون بـ"بعض الألم" الاقتصادي بسبب هذه السياسات، لكنه دافع عنها قائلاً: "هل سيكون هناك بعض الألم؟ نعم، ربما (وربما لا). لكننا سنجعل أمريكا عظيمة مجدداً، ويستحق ذلك الثمن الذي يجب دفعه."
وقد حذّرت ميشيل جيلفاند، أستاذة السلوك التنظيمي وعلم النفس في جامعة ستانفورد، من تداعيات سياسات ترامب على استقرار المجتمع الأمريكي، مشيرة إلى أن "سياساته المتهورة في التعريفات الجمركية، والعمل، والضرائب ستزعزع استقرار المجتمعات في جميع أنحاء البلاد، مع تعرض أسر الطبقة العاملة بشكل خاص لخسارة الوظائف الناتجة عن ذلك."
تنبه جيلفاند إلى أن المهاجرين من الجيل الأول، الذين فروا من بلدان غير مستقرة ودعموا ترامب، "سوف يدركون تشابهه مع نفس القادة الذين أرادوا الهروب منهم." إذ أن نهجه في استهداف المعارضين، واستخدام قوات الأمن لتحقيق مكاسب شخصية، يشبه ما قامت به أنظمة استبدادية حول العالم.
بفضل أسلوبه القيادي المثير للانقسام، وخطابه التحريضي، ونشره المستمر للمعلومات المضللة، ترى جيلفاند أن ترامب "سيدفع أمريكا نحو مستويات خطيرة من الصراع وانعدام الثقة."
لكن كعادته في ولايته الأولى، تراجع ترامب وعلق تهديده بفرض الرسوم الجمركية المرتفعة لمدة 30 يوماً، مقابل تنازلات تتعلق بإنفاذ الحدود ومكافحة الجريمة من قبل البلدين المجاورين. لكن كعادة ترامب أيضاً لا يتوقعه أحد، فالتصعيد لا يزال قائماً، والتهديدات يمكن أن تعود في أي لحظة.
كولومبيا: استعراض القوة وفرض الهيمنة عبر العقوبات
وخلال أول أسبوع له في ولايته الثانية، لم يكتفِ ترامب بمواجهة بنما، بل اصطدم سريعاً مع الرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بيترو بعد أن أعادت كولومبيا طائرتين عسكريتين أمريكيتين كانتا محملتين بالمهاجرين المرحّلين. إذ كان تصرف بيترو محاولة رمزية لإظهار استقلالية بلاده عن السياسات الأمريكية القسرية، إلا أن المواجهة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما رضخت بوجوتا تحت تهديدات ترامب بفرض عقوبات اقتصادية قاسية قد تُكبل الاقتصاد الكولومبي، مما اضطرها إلى إعادة النظر في موقفها.

أثارت هذه المواجهة، التي اكتسبت زخماً كبيرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، قلقًا واسعًا في دول أمريكا اللاتينية، حيث تصاعدت المخاوف من تصعيد ترامب لسياسات أكثر عدوانية تجاه الحكومات اليسارية في المنطقة.
وتوضح الأكاديمية والمحللة السياسية البرازيلية، فلافيا بيلييني زيمرمان، في مقال لها أن دفع ترامب نحو سياسات محافظة متطرفة لن يقتصر على إعادة تشكيل الحكومة الأمريكية فحسب، بل سيمتد ليحفّز نظراءه من اليمين المتطرف في أمريكا اللاتينية على إعادة ترسيخ توجهاتهم الاستبدادية في المنطقة.
فخلال ولايته الأولى، أقام ترامب علاقات وثيقة مع القادة اليمنيين في أمريكا اللاتينية، وفي مقدمتهم الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، الذي شاركه مواقفه المتشددة تجاه اليسار والمهاجرين. كما عزّز ترامب التعاون مع الأنظمة المحافظة في كولومبيا، الإكوادور، والأرجنتين، متجاهلاً في كثير من الأحيان انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها بعض تلك الحكومات.
واليوم، يُعتبر كل من الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو حليفين استراتيجيين لترامب في المنطقة، ما قد يُنذر بتصاعد المعارضة الأمريكية لسياسات الرئيس البرازيلي الحالي لولا دا سيلفا، والرئيس الكولومبي بيترو، وغيرهم من القادة اليساريين في المنطقة.
وبحسب أحد الدبلوماسيين البارزين في واشنطن، فإن القلق يتصاعد في أوساط السفارات اللاتينية، إذ يبدو أن سياسة ترامب تعيد القارة إلى أجواء الاستعمار الأمريكي في القرن التاسع عشر، حيث قال: "يبدو أننا عدنا إلى سنة 1897، وحقبة الرئيس ويليام ماكينلي الذي غزا كلاً من كوبا والفلبين."
هذا الشعور لم يكن مقتصرًا على الأوساط الدبلوماسية، بل انعكس في مواقف بعض القادة اللاتينيين، مثل رئيسة هندوراس زيومارا كاسترو، التي دعت إلى عقد قمة طارئة لمجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (سيلاك)، لمناقشة المخاطر المتزايدة التي قد تترتب على صعود ترامب للبيت الأبيض مجددًا.
الصين
أما بالنسبة للصين، فقد أوفى ترامب بوعده الانتخابي بفرض رسوم جمركية على الواردات الصينية، حيث أعلن عن رسوم بنسبة 10٪ على جميع السلع الصينية القادمة إلى بلاده.
فردت الصين بفرض حزمة من الرسوم الجمركية على المنتجات الأمريكية ردًا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم بنسبة 10% على البضائع الصينية. ووصفت بكين هذه الخطوة بأنها "رد فوري" على الإجراءات الأمريكية أحادية الجانب، معتبرة أنها تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية.
تفكيك المنظومة الحقوقية والإنسانية الدولية
مع اقتراب نهاية ولايته الأولى، ضاعف دونالد ترامب من حملته ضد المؤسسات الدولية، مسلطًا سيف العقوبات والانسحابات على الهيئات التي لم تساير سياساته أو شكلت عائقًا أمام أجندته. في عام 2020، فرضت إدارة ترامب عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، ووضعت قيودًا على تأشيرات دخول موظفيها إلى الأراضي الأمريكية، في محاولة لمنعها من التحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) وحركة طالبان في أفغانستان.
وبعد عودته اليوم، استأنف ترامب استهدافه للمحكمة الجنائية الدولية، ليستخدم العقوبات ذاتها لحماية قادة الاحتلال الإسرائيلي المتهمين بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة. وبعد عودته، وخلال أقل من شهر، وقع ترامب أمرًا تنفيذيًا لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وأعلن "حالة الطوارئ الوطنية للتعامل مع التهديد الذي تمثله جهود المحكمة"، بعد أن أصدرت مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن الإسرائيلي المقال يوآف غالانت، بسبب جرائمهم في الحرب الإسرائيلية على غزة.
لم يكن موقف ترامب من المحكمة الجنائية الدولية سوى جزء من استراتيجية أوسع قوامها تجاهل القانون الدولي وتفكيك المؤسسات متعددة الأطراف. خلال فترته الأولى، لم يعر أي اهتمام لقرارات الأمم المتحدة أو القوانين الدولية المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بل عمد إلى تعزيز نهجه الأحادي في السياسة الخارجية، مُعلنًا في ديسمبر 2017 اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، ضاربًا بعرض الحائط عقودًا من التوافق الدولي حول وضع المدينة. وفي مايو 2018، افتتحت الولايات المتحدة رسميًا سفارتها في القدس، وسط موجة من الغضب الفلسطيني والدولي.
"ريفيرا غزة" والعبث بالشرق الأوسط
واليوم، وبعد أن شن الاحتلال حرب إبادة على غزة، خرج ترامب ليعبث في المنطقة مجددًا، فاستضاف نتنياهو في البيت الأبيض وسط مطالب من منظمة العفو الدولية باعتقاله. وبعدما تبادل هو ونتنياهو الإطراء، خلط ترامب الأوراق وخرج بقرارات مفاجئة للكثيرين، طارحًا فكرة استيلاء الولايات المتحدة على غزة وتهجير شعبها، ضاربًا بعرض الحائط كل القوانين الدولية والتاريخ والواقع السياسي المعقد للمنطقة، غير آبه بالآثار المحتملة لتلك الفكرة الإسرائيلية على المنطقة وما يمكن أن تسببه من تداعيات وفوضى في الشرق الأوسط كما أشارت جريدة الصنداي تايمز البريطانية في تقرير لها.

وفي الأيام الأخيرة، زادت تصريحات ترامب بشأن تهجير سكان غزة، والتهديد بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين دفعة واحدة يومًا، وهو ما لم يكن متفقًا عليه خلال المرحلة الأولى من المفاوضات لوقف الحرب، فبات الغموض يدور حول سير صفقة تبادل الأسرى، وسط تساؤلات حول ما سيحدث، في ظل استغلال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي لتصريحات ترامب للتلاعب في مفاوضات ووقف اتفاق النار.
وقبل لقاء نتنياهو وترامب، وقع الأخير مرسومًا رئاسيًا يقضي بانسحاب الولايات المتحدة من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في خطوة اعتبرها المراقبون ضربة قاسية للعمل الحقوقي العالمي. ولم يكن القرار معزولًا، بل جاء متزامنًا مع استمرار إيقاف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وسياسة قطع التمويل لم تتوقف عند الفلسطينيين فقط، فقد أمرت إدارة ترامب بوقف جميع المساعدات الخارجية، غير مبالية بالتحذيرات الصادرة عن مسؤولين حاليين وسابقين في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، الذين أكدوا أن هذا القرار قد يُعرّض ملايين البشر لخطر الموت في مختلف أنحاء العالم، خصوصًا في الدول التي تعتمد بشكل أساسي على الدعم الأمريكي في مواجهة الأزمات الغذائية والصحية والصراعات المسلحة.
مع كل قرار جديد يتخذه ترامب، يتضح أن العالم يقترب أكثر من حافة الفوضى، فالرئيس الذي لا يعترف بالقواعد السياسية التقليدية يعيد رسم خريطة التحالفات والخصومات، دون أن يبالي بالعواقب بعيدة المدى. من إشعال الحروب التجارية، إلى تهديد الاستقرار في أمريكا اللاتينية، والتخلي عن حلفائه في الناتو، وحتى محاولات تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط بالقوة، أصبح واضحًا أن ولايته الثانية لن تكون سوى امتداد لمشروعه القائم على تفكيك النظام العالمي لمصلحة رؤية قومية متطرفة، ترى في القوة والابتزاز أدوات مشروعة لإعادة "عظمة أمريكا" على حساب الجميع.