لم تكن مقترحات تهجير الفلسطينيين من غزة، سواء التي يتبناها وزراء في حكومة اليمين الإسرائيلية التي يقودها بنيامين نتنياهو، أو التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وليدة اللحظة، بل هي أمنيات قديمة تعود جذورها إلى حقبة ما بعد "نكسة حزيران" عام 1967.
فهي تعكس أفكاراً ومقترحات طرحتها الحكومات الإسرائيلية اليسارية بعد عام 1967 مباشرة، إذ استخدم وزراؤها مجموعة واسعة من الكلمات أثناء المداولات التاريخية التي جرت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين حول مستقبل الفلسطينيين في قطاع غزة، منها: "الطرد والإفراغ والترانسفير وتخفيف أعداد السكان".
ويتناول هذا التقرير أبرز المقترحات الإسرائيلية التي سعت إلى تهجير الفلسطينيين من غزة منذ عام 1967.
متى بدأت فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة؟
في أعقاب احتلال قطاع غزة والضفة الغربية عام 1967، كان عدد الفلسطينيين في تلك المناطق يشكل حوالي مليون فلسطيني، 400 ألف منهم من قطاع غزة.
وبحسب ما كشفته صحيفة "هآرتس"، فقد تشكلت لدى السلطات الإسرائيلية الحاكمة مقترحات لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى الضفة الغربية، أو الأردن، أو سيناء المصرية، أو أي مكان آخر في العالم يمكن أن يستقبلهم. وقد تنوعت الأطروحات ما بين الإجبار بالقوة أو التحفيز.
وفي 25 يونيو/حزيران 1967، قال وزير الجيش موشيه ديان: "إذا تمكنا من إخلاء 300 ألف لاجئ من قطاع غزة إلى أماكن أخرى، فيمكننا ضمه من دون مشكلة". وفي كلماته ذكر فكرة مقبولة لدى الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، ولكن لم يتم تنفيذها بالكامل في النهاية، وهي:
- ضم قطاع غزة إلى إسرائيل.
- إفراغ القطاع من الفلسطينيين ثم توطينه لليهود.
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، ليفي إشكول، فقد قال: "أقترح ضم القدس وقطاع غزة، رغم أنني لن أقول الأمرين في نفس الوقت. نحن مستعدون أن نموت من أجل القدس، وعندما نتذكر أيضاً وجود 400 ألف عربي، فإننا نشعر بمرارة في القلب".
في ذلك الوقت، احتشد الوزراء للمناقشة وتقديم الحلول، وكانت كالتالي:
- وزير الداخلية، حاييم موشيه شابيرا، اقترح نقل 200 ألف لاجئ فلسطيني من قطاع غزة إلى العريش أو توطين جزء منهم في الضفة الغربية.
- وزير الشرطة، إلياهو ساسون، اقترح نقل سكان غزة إلى الأردن.
- الوزير يغال ألون، اقترح تشجيع هجرة الفلسطينيين من غزة إلى سيناء كلها، وليس العريش فقط.
- واقترح ألون مرة أخرى تهجير بعض الفلسطينيين إلى كندا وأستراليا.
وبعد ذلك، استؤنفت المناقشات مجدداً في أكتوبر/تشرين الأول 1967، حيث تساءل وزير القضاء، يعقوب شمشون شابيرا، عن الخطة. وكان في ذلك الوقت هناك لجنة تسمى "تنمية الأراضي المحتلة"، وكان أعضاؤها شخصيات أمنية وأكاديميين، تركزت مهمتهم في دراسة إثارة الأفكار حول هجرة الغزيين، والتحقق من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لـ"الإمبراطورية أو جزء منها".
وقدمت اللجنة في ذلك الوقت توصيات للحكومة بـ"تجنيد اللاجئين ضمن مشاريع للعمل خارج البلاد، وهي مشاريع ذات طابع سياسي مقبول، والترويج لذلك على أنها حملات إنسانية، وليس كجزء من حل عالمي لقضية اللاجئين".
![وزير الجيش موشيه ديان ورئيس الوزراء ليفي إشكول/ مركز التوثيق الإسرائيلي](https://arabicpost.live/wp-content/uploads/2025/02/d685-098-1024x685-1.jpg)
واستمرت المناقشات بهذا الشأن حتى نهاية العام، وكانت المداولات تدور بين تهجير كلي أو تقليص عدد الفلسطينيين في غزة، حتى وصلت إلى أطماع الوزراء في توسيع مخطط التهجير والترانسفير ليشمل مناطق أخرى، من خلال تشجيع الفلسطينيين على المغادرة للعمل خارج البلاد، ثم تلتحق عائلاتهم بأكملها إليهم.
وبحسب ما كشفته صحيفة "هآرتس"، فقد كشف إشكول، في اليوم الأخير من عام 1967، أنه منخرط في إنشاء فرقة عمل تعنى بتشجيع الفلسطينيين في غزة، مضيفاً أنه "يجب التعامل مع هذا الأمر بهدوء وسرية"، وألا يقتصر ذلك فقط على الأردن. كما اقترح وزير الأديان الإسرائيلي، زيراخ وارهفتيج، تشجيع نقل الفلسطينيين إلى البرازيل أو الأرجنتين.
وتمحورت الأفكار بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة، في حكومة إشكول، على:
- منح مبالغ مالية للفلسطينيين في غزة مقابل مغادرة القطاع (ألف دولار لكل أسرة فلسطينية).
- شراء أصول فلسطينية في غزة من أجل تحفيز الفلسطينيين هناك على مغادرة القطاع.
وكانت فكر تهجير الفلسطينيين من غزة طوعياً هي خلق "هجرة هادئة، بطريقة لا يُنظر إلى إسرائيل على أنها متورطة فيها، وتحقيقاً لهذه الغاية، تم إرسال الإسرائيليين ذوي الخلفية الأمنية، والذين يعرفون المجتمع العربي، مباشرة إلى المراكز السكانية في غزة من أجل إقناع قادتهم بتشجيع المغادرة الطوعية".
مقترحات تهجير في عهد غولدا مائير
وفي عام 1969، توفي إشكول، واستمرت المداولات بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة من رئيسة الوزراء غولدا مائير (مارس/آذار 1969 حتى 1974)، حيث أبدت اهتمامها بالموضوع، وقالت: "الأمر يجب أن يتعلق بتقليص عدد المخيمات الفلسطينية في غزة، ولا جدال حول المبدأ".
لكن وزير الجيش، موشيه ديان، حذّر عام 1970 من التصرف بشكل علني لتشجيع هجرة سكان غزة، واقترح أن تكون هناك خطة بطيئة وطبيعية، دون إجبارهم على ذلك.
![رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير/ الأرشيف الإسرائيلي](https://arabicpost.live/wp-content/uploads/2025/02/d701-045-1024x685-1.jpg)
أبرز المقترحات المتعلقة بتهجير الفلسطينيين من غزة في حكومة مائير:
- وزير التنمية، حاييم لاندو، اقترح ضرورة توفير التعليم المهني للفلسطينيين في غزة، لأنه قد يسهم في تحفيزهم على الهجرة، حيث هناك فرصة أكبر لأن يتمكن الأشخاص الذين لديهم مهنة من الاندماج في بلدان أخرى.
- وزير الجيش، ديان، اقترح منح مهلة 48 ساعة للفلسطينيين المتهمين بـ"الإرهاب" ضد اليهود، وأصحاب المنازل التي يتعين هدمها، ومنحهم خيار الانتقال طوعياً إلى العريش أو إلى أي مكان آخر، على أن يتم نقلهم بأمتعتهم بواسطة السلطات الإسرائيلية.
- وزير السياحة، موشيه كول، اقترح التخلص من سكان قطاع غزة مهما كانت التكلفة، ودفع تعويضات أكبر للأشخاص الذين يرغبون في الهجرة.
- وزير الأديان، زيراخ وارهفتيج، اقترح استخدام "القوة" إذا كانت هناك حاجة لذلك، داعياً إلى الانتظار حتى تدهور الأوضاع أو اندلاع حرب لطرد الناس بالقوة من منازلهم في غزة.
ويظهر من مداولات وزراء حكومة مائير أنهم كانوا يبحثون عن طريقة "التهجير الطوعي" بدلاً من القسري، خشية:
- تعرض إسرائيل لأي مساءلة من المجتمع الدولي.
- الموقف الإقليمي والعربي الرافض لفكرة التهجير.
- استعادة مصر لسيناء عام 1973.
وفي نهاية المطاف، لم يغادر قطاع غزة خلال تلك السنوات سوى عدد قليل، وقد أقيمت أول مستوطنة في غزة عام 1970، لكن معظم السكان الفلسطينيين في القطاع ظلوا في أماكنهم.
مقترح زئيفي
واستمرت مقترحات تهجير الفلسطينيين من غزة بين الأوساط الإسرائيلية، وفي عام 1987، الذي اندلعت فيه الانتفاضة الفلسطينية الأولى، اقترح الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي، الذي تم اغتياله على يد المقاومة الفلسطينية عام 2001:
- تنفيذ النقل الطوعي للفلسطينيين وتشجيعهم على الرحيل إلى دول عربية من خلال وقف عملهم في إسرائيل.
- إغلاق الجامعات الفلسطينية.
- توقيف كافة أنشطة الصناعة مع الفلسطينيين.
- منح مبالغ مالية لمن يقبل الهجرة.
واستند زئيفي في طرحه إلى نجاح عمليات نقل السكان بين الهند وباكستان، وتركيا واليونان، باتفاق متبادل، مشيراً إلى أن ذلك يمثل الحل الوحيد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكن مقترحه قوبل بانتقادات.
مركز سري في غزة
لكن خطة ومحاولة برزت إلى العلن في تشرين الثاني/نوفمبر 1987، عندما تحدث أريئيل شارون (كان وزيراً للصناعة والتجارة آنذاك)، أمام جمهور في تل أبيب عن تشجيع التهجير الطوعي، كاشفاً عن منظمة بدأت تعالج الأمر في مدينة غزة، بحسب مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
وقد كانت المنظمة السرية تتخذ من شارع عمر المختار في مدينة غزة مركزاً لها، وكانت تقدم لـ"المرحلين" تذكرة سفر بلا عودة إلى دول مختلفة في أمريكا الجنوبية، وخاصة باراغواي، بواسطة وكالة سفر مقرها تل أبيب.
وكانت تعدهم بمساعدة مالية ومعاونة على الاستقرار بعد أن يصلوا، وقد استمر عملها لثلاث سنوات، تمكنت خلالها من "ترحيل" ألف فلسطيني سراً فقط، بحسب ما كشفه الصحفيان الإسرائيليان يوسي ميلمان ودان رفيف في تقرير على صحيفة واشنطن بوست.
محاولة تهجير الفلسطينيين من غزة بعد 7 أكتوبر 2023
حاول الاحتلال الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 تهجير الفلسطينيين من غزة بالقوة، وكانت حرب غزة محطة جديدة للحديث عن ذلك، سواء بتصريحات من وزراء اليمين المتطرف أو جهات أمنية إسرائيلية.
وطرحت الاستخبارات الإسرائيلية، في وثيقة مؤرخة بـ13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ثلاثة بدائل بشأن مستقبل الفلسطينيين في القطاع بعد الحرب، منها النقل الكامل إلى شمال سيناء، من خلال ثلاث مراحل:
- إخلاء السكان في غزة إلى المناطق الجنوبية من القطاع.
- الدخول البري إلى غزة واحتلال القطاع بالكامل من الشمال إلى الجنوب.
- نقل الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية وعدم السماح لهم بالعودة إليه.
وخلال فترة الحرب، تصاعدت التصريحات من وزراء اليمين المتطرف، ومنهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بشأن تهجير السكان، والتي بدأت بـ"التهجير القسري"، لتنتقل إلى فكرة "التهجير الطوعي".
![نزوح سكان غزة خلال الحرب/ الأناضول](https://arabicpost.live/wp-content/uploads/2024/08/thumbs_b_c_790ff54416913c38114d2edd98f3347e-1.jpg)
كما قدم غيورا آيلاند، والذي كان رئيساً سابقاً لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، خلال أشهر الحرب، مقترحاً يسمى "خطة الجنرالات"، تتمثل في:
- تحويل منطقة شمالي قطاع غزة، والتي تشمل المناطق الشمالية مع مدينة غزة حتى "ممر نتساريم"، إلى منطقة عسكرية مغلقة.
- إصدار أوامر إخلاء للسكان الفلسطينيين، البالغ عددهم نحو 600 ألف، بإخلاء منطقة شمال قطاع غزة والتوجه إلى الجنوب عبر ممرات يحددها الجيش الإسرائيلي، خلال مهلة تصل إلى أسبوع.
- فرض حصار كامل على المنطقة، مع منع وصول المساعدات، بما فيها الاحتياجات الأساسية، لمن تبقى من السكان.
وكانت المرحلة الثانية من "خطة الجنرالات" تهدف إلى استكمال السيطرة على شمالي قطاع غزة بأكمله حتى منطقة وادي غزة.
أسباب فشل المساعي الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من غزة خلال الحرب
لكن المساعي الإسرائيلية الهادفة إلى تهجير الفلسطينيين من غزة خلال حرب غزة لم تتحقق، لأسباب عدة، أبرزها:
- الرفض العربي والدولي لتهجير الفلسطينيين من غزة.
- موقف مصر والأردن الرافض لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين من غزة.
- فشل الجيش الإسرائيلي في احتلال قطاع غزة بسبب صمود المقاومة الفلسطينية، وخاصة في شمال غزة.
هل تنجح خطة ترامب بتهجير الفلسطينيين من غزة؟
يقول معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي إن العقبات التي تعترض خطة ترامب، والتي من المستحيل التغلب عليها، هي:
- موقف الفلسطينيين، وخاصة في غزة، الرافض للتهجير.
- الرفض العربي والدولي لفكرة التهجير.
وأكد المعهد أن المسألة لا تتعلق فقط بجدوى مشروع ضخم للتطوير العقاري، بل إنها تمس المعتقدات الأساسية للفلسطينيين والعالم العربي، فضلاً عن المبادئ التي تم وضعها حتى الآن لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وقالت الكاتبة يارا هواري، في مقال رأي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، إنه على مدى الأشهر الـ16 الماضية، أظهر الفلسطينيون في غزة كيف تبدو مقاومة الإبادة الجماعية، فقد رفضوا مغادرة القطاع رغم الدمار الهائل.
وأضافت أنه على مدى أكثر من سبعة عقود، عانى الشعب الفلسطيني من القتل الممنهج والسجن والتهجير على يد السلطات الإسرائيلية، ومع ذلك، فقد قاوموا بكل ما أوتوا من قوة محاولات محو وجودهم.
![الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن/ رويترز](https://arabicpost.live/wp-content/uploads/2025/02/2025-02-04t220331z_1128330216_rc2xncarno6b_rtrmadp_3_usa-israel-scaled.jpg)
وتابعت بأنه على الرغم من أن تعليقات ترامب تتسم بالإبادة الجماعية بشكل مثير للقلق، فمن الواضح أنه يقلل من شأن تصميم الفلسطينيين على البقاء على أرضهم.
ولا يشكل الموقف الفلسطيني الرافض للتهجير العائق الوحيد لخطة ترامب، حيث إن رفض الدول المجاورة (الأردن ومصر) يعتبر تهديداً لها. وتقول صحيفة هآرتس إن تهجير الفلسطينيين من غزة إليها يعني نقل المعضلة الفلسطينية إلى أراضيهم.
وفي نظر الأردن، فإن هجرة مئات الآلاف من الفلسطينيين الإضافيين إليه تعني زلزالاً ديموغرافياً قد يهدد حكم العائلة الحاكمة. كما قد تواجه مصر تهديداً مماثلاً.
ورأت صحيفة هآرتس أنه عندما يتم بناء "الريفييرا الشرق أوسطية" والمصانع التي يخطط ترامب لإقامتها في غزة أمام أعين الآلاف من سكان غزة، الذين ستتحول منازلهم إلى قرى سياحية، فإن هذا الحلم الوردي قد يتحول بسرعة إلى كابوس.